الرأسمالية والحاجة إلى الفلسفة
ذ. رشيد العلوي
من بين المقاربات النادرة جداً تلك التي ربطت بين أزمة الرأسماليّة العالميّة وتفجُّر النضال الشَّعبي بالعالم العربي، حيث ذهب سمير أمين إلى أنّ هذه الأزمة ما هي إلا تنفيس لأزمة الرأسماليّة العالميّة، والتي لا محالة ستنتقل إلى الدول الصناعيّة بفضل التحولات الجارية على كلّ المستويات مع موجة النيوليبراليّة التي أدت إلى تفقير فئات عريضة من الساكنة النّشيطة، ناهيك عن تدهور أوضاع الطّبقات الوسطى التي تضمن الاستقرار السيّاسي، بحيث إنّ سلسلة الإصلاحات النيوليبراليّة الجاريّة التي مسَّت الخدمات الاجتماعيّة العموميّة: أنظمة التقاعد، الصحة، التعليم، الحماية الاجتماعيّة، السكن، الهجرة…، ستعمّق حدة التناقضات الطبقيّة بين المالكين لوسائل الإنتاج والمقصيِّين من دائرة الإنتاج، لأنّ درجة الاستبعاد الاجتماعي ما تنفك تتسع يوماً بعد يوم. وعلى هذا الأساس يشدِّدُ سمير أمين على أنّ انتفاضات الشعوب العربيّة ما هي إلا تجلٍّ أوّل لتلك الأزمة وتصريف لها على مستويات الهامش.
كما ذهب جلبير الأشقر إلى الطرح نفسه داعياً إلى ضرورة استكمال مهام الثورة الدائمة من خلال تعزيز المقاومة الأمميّة في كلّ مكان، وقد ربط في هذا السيّاق بين صعود الرأسماليّة وصعود تيارت السّلفيّة الرجعيّة التي تمثل جناحاً برجوازياً بامتياز، يمكنه أن يخدم مصالح الإمبرياليّة العالميّة في هذه الفترة بالذات.
لم تعد أزمة الرأسماليّة تقتصر على المستوى الاقتصادي وحده، بل هي أزمة بنيويّة شملت مختلف المجالات: البيئة، الأسواق الماليّة، الأمن الغذائي…، وتظهر حدّتُها في مجموع المشكلات التي تواجه الكوكب الأزرق برمّته من كوارث طبيعيّة نتيجة اختلالات النظام البيئي الذي تسبّبت فيه بالدرجة الأولى الدول الصناعيّة، إلى جانب مشكلات الهجرة، والحروب، والتعديل الوراثي الذي يمسّ سلامة ومستقبل البشريّة، والتحول الجنسي، وإدخال التقنيّة إلى جسم الإنسان، وعودة الأمراض والأوبئة والمجاعات بشكل غير منظور.
يجري هذا أمام أعين الجميع، ونعيشه يومياً بالحدّة نفسها، إلا أنّ الأصوات الداعيّة إلى عولمة بديلة ما تزال ضعيفة جداً مقارنة مع لا مبالاة الغالبيّة العظمى من ساكنة العالم، ورغم ذلك ثمّة أصوات قليلة تقاوم هنا وهناك للتحسيس بالنتائج الكارثيّة التي أدت إليها الرأسماليّة على مختلف الأصعدة. ومن هذا المنطلق نرى أنّ الفلسفة بما هي فكر نقدي ممانع عليها ألا تسكت عن هذا، بل عليها أن تفكر في مجمل المشكلات، وأن تحث على التفكير في اليومي بما هو مظهر جوهري لكوارث العالم، لذلك نتساءل: كيف السبيل إلى تعزيز دور الفلسفة في النقد اليومي؟ هل يمكن للفلسفة أن تكون حقاً فكراً ممانعاً لشتى مظاهر الإجهاز على الوضع الطبيعي للبشر؟ كيف تفكر الفلسفة في مرحلة ما بعد الإنسانيّة كما سمّاها بيتر سلوتردايك؟ هل يتوجب أن تكون المقاومة شاملة وأمميّة بالضرورة، أم المقاومة تبدأ من كلّ نقطة وفي كلّ رقعة؟ كيف السبيل إلى بلورة بدائل فعّالة لمواجهة مصير الإنسان والكوكب معاً؟
عنف الرأسمالية واندثار الهوية
قيل الكثير عن سؤال الهويّة والعنف. وممّا لا شك فيه أنّ تعميق أزمة الهويّة قد ترافق مع موجة النيوليبراليّة التي فرضت أنماطاً أحاديّة في التفكير والاستلاب وطرق العيش، من جهة أنّ العولمة النيوليبراليّة عمّمت قيماً وثقافة أحادية الاتجاه تتجه نحو محو بعض الثقافات المحدودة التداول والانتشار. وفي الوقت نفسه عزَّزت من اندلاع بؤر توتر حقيقيّة في مناطق مختلفة من العالم بفضل تجارة السّلاح والصناعات الحربيّة، بحيث لا تكاد تتوقف حرب جزئيّة حتى تندلع أخرى.
لا يتعلق الأمر بحروب مشروعة بين خصوم حقيقيين، بل بحروب شعواء ومدمّرة تشمل مختلف أنماط الوجود البشري: حروب طبقيّة هنا وهناك، تنتشر كالنار في الهشيم بفعل توجه الشركات متعددة الجنسيّات نحو محو أثر الرساميل في طور النمو، لأنّ منطق التراكم الرأسمالي يشرعن عمليات الاحتكار والابتلاع والسرقة غير المبرّرة. شهدنا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي انهيار بورصة أندونيسيا (97) وقبلها المكسيك (96)، وتناسلت الأزمة الماليّة في أمريكا وأوربا منذ 2007 وما تزال مستمرة بطرق خفيّة لا تظهر للعيان، ولكنّها موجودة ويتمّ تصريفها بطرق مختلفة هنا وهناك.
انتقلت الحرب من حرب بين معسكرين إلى حرب بينذاتية، حيث تناسلت الحروب الأهلية التي تقنعت بدعوى امتلاك الحقيقة، وتلبَّست بلباس ديني وعقدي وثقافي. فهل تكفي أزمة الهويّة والانتماء ومستقبل الأمّة والجماعة والقبليّة والعرق واللغة لتفسير هذه الحروب، وهذا السّيل الجارف من العنف؟ هل العنف هو قدر توارثناه منذ الخطيئة الأولى، وبالتالي صار شراً لا بدّ منه؟.. أليس وراء العنف المنتشر في العالم مصالح مباشرة لكمشة من مالكي وسائل الإنتاج؟.. ما الذي يبرّر وقوف آلات إعلاميّة جهنمية وراء تدويل العنف على الناشئة؟.. أليس من سبيل لتعميم ثقافة السلام؟ هل يسعف الخطاب القيمي الفلسفي في التصدي لواقع العنف والدمار الذي يشمل هويّة الأفراد؟.. فيمَ تفيد الفلسفة تجاه سؤال الهويّة والعنف؟