أسفي تتنفس بدون رئة فمن المسؤول؟
عبد الرحيم ازبيدة
يستمر مسلسل الإقصاء والتدمير والعقاب الجماعي لإقليم أسفي، الذي تعرض ومازال يتعرض إلى عملية استنزاف وتخريب ممنهجة ومنظمة؛ فقد طالته سياسة الإهمال والدمار طيلة عقود من الزمن وتم تغييبه من مخططات الحكومة التنموية والاستراتيجية، مما خلف أوضاعا مزرية انعكست أضرارها الاقتصادية والبيئية والصحية والاجتماعية على ساكنة الإقليم، ولعل أبشع مظاهر هذا الإقصاء هو النزيف البيئي الخطير والتلوث المزمن الذي تتعرض له المدينة التي تم تحويلها قسرا بقرارات حكومية ظالمة و تدبير محلي غارق في مستنقع الفساد، من حاضرة المحيط إلى كارثة بيئية حقيقية على المحيط، إنه ثالوث الموت المحقق : تلوث كيماوي – تلوث حراري – نفايات سامة.
وإذا كانت ساكنة الإقليم تعيش وضعا بيئيا مأساويا خطيرا نتيجة التلوث الكيماوي المزمن منذ مطلع الاستقلال حيث انطلقت عملية تصنيع الفوسفاط، حيث استبشر المسفيويون خيرا بانطلاق هذا المشروع الوطني وعقدوا كل آمالهم لاستفادة الإقليم من بعض عائدات ثرواته، لتحقيق إقلاع اقتصادي. لكن ساكنة الإقليم خابت آمالها ولم تجن من هذا المشروع إلا التلوث والعطالة، مما أدى إلى تدهور خطير في الأوضاع البيئة والصحية والاقتصادية والاجتماعية على حد سواء، والتي انعكست أضرارها على حياة المواطنين والمزروعات والحيوانات التي تعرف تشوهات خلقية غير معتادة نتيجة انبعاث الغازات والنفايات الكيماوية السامة في الهوا ء، منها ما يتساقط في البحر وعلى الأراضي الفلاحية وعلى المباني والدواوير المجاورة للمركب بشكل مسترسل، ومنها ما يبقى عالقا بالهواء بتركيزات عالية، مما يحدث خللا كبيرا في تركيبة الهواء الطبيعي وكذلك التوازن البيئي والوسط الايكولوجي، و تنزل هده الغازات الكيميائية مع الأمطار على شكل أمطار حمضية تتسرب إلى التربة والمياه الجوفية والسطحية وماء البحر وتتفاعل معها، مما يرفع من حموضتها ويجعلها غير صالحة للحياة الحيوانية والنباتية، كما أن المياه المستعملة في التبريد وفي تنظيف مادة الفوسفاط تزيد هي الأخرى من حرارة مياه البحر وتحدث خللا كبيرا في الوسط الايكولوجي البحري وهو ما يتسبب في عدم صلاحيتها لتوالد الأسماك والكائنات الدقيقة وبالتالي يبيد ثرواتنا البحرية ويتسبب في هجرة الأسماك وإغلاق المئات من معامل تصنيع السمك، وفي تضرر النباتات والمحاصيل الزراعية التي تحولت إلى أراض قاحلة ملوثة لا يمكن استغلالها نتيجة الزحف الكيماوي.
وبنفس العقلية السابقة تواصل الدوائر الرسمية مخططاتها في تدمير كل عناصر البيئة الطبيعية والبشرية والحيوانية بالإقليم في خرق سافر للاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في موضوع حماية البيئة ( نخص بالذكر اتفاقية جنيف سنة 1979 المتعلقة بتخفيض مقذوفات أكسيد الكربون والكبريت والآزوت- اتفاقية بال سنة 1989 حول النفايات الخطيرة والقضاء عليها-اتفاقية الدول الأطراف سنة 2001 المتعلقة بالمحافظة على التنوع البيولوجي ومكافحة التصحر )،بحيث تم إنشاء محطة حرارية تعمل بالفحم الحجري كاستجابة وعقاب جماعي للساكنة ولكل الضمائر الحية التي خرجت في مناسبات عديدة مطالبة بوقف النزيف البيئي بالمدينة وضواحيها.
وبهذا تكون مدينة أسفي قد دخلت مرحلة التلوث الحراري الذي سيضيف أضرارا بيئية وصحية واقتصادية واجتماعية لا تقل خطورة عن أضرار التلوث الكيماوي.
وتبقى ثالث زاوية في مثلث التدمير البيئي هي معمل اسمنت المغرب الذي يستورد لنفايات السامة والمسرطنة والعجلات المطاطية من المزبلة الأوروبية بقرارات حكومية وتواطؤ مكشوف مع مافيا النفايات في أوروبا لاستعمالها كمواد للطاقة.
إن الملوثات السامة الناتجة عن ثالوث التلوث بالإقليم ( مركب كيماوي – محطة حرارية – معمل الإسمنت )، قد وصلت مرحلة حرجة من التأثير السلبي على العناصر البيئية والطبيعية والبشرية، إذ تسبب أضرارا صحية خطيرة وقاتلة خصوصا في صفوف الأطفال والشيوخ، ناهيك عن الأضرار البيئية والاقتصادية والاجتماعية و تدمير البنايات والمعالم التاريخية التي صمدت لقرون نتيجة التفاعلات الكيماوية بين المواد التي تدخل في البناء و النفايات، بالإضافة إلى تدمير البيئة البحرية وإبادة الثروات السمكية وتضرر الفرشة المائية والأراضي الزراعية وفقدان قيمتها الإنتاجية، لتتحول مدينة أسفي بفعل قرارات جائرة، ستؤدي ثمنا الأجيال القادمة، إلى مدينة منكوبة بلا شواطئ وبحر بلا أسماك وسماء بهواء ملوث.
إن هذا النزيف البيئي والاعتداءات المتكررة والخطيرة التي سماها بعض المتتبعين بالحروب الكيماوية يستدعي منا وقفة حقيقية، تبدأ من التشخيص الصحيح لطبيعة الوضع البيئي وحجمه وتداعياته في كافة المستويات، وتحديد المسؤوليات، والعمل على إقرار سياسة بيئية حقيقية تعيد الاعتبار للإقليم حتى تستحق فعلا مدينة أسفي لقب حاضرة المحيط كما لقبها المؤرخ ابن خلدون.