في جدلية التعليم والتنمية
البدالي صافي الدين
أقدمت الدولة المغربية على اعتماد التشغيل بالتعاقد لسد خصاص الأساتذة في التعليم الابتدائي والثانوي. كما أقدمت على تحويل المدرسة العمومية إلى معتقل للمواهب والمهارات ومنتج للأمية الثقافية والتخلف الفكري والغش في الامتحانات ومسرح للمعارك بين التلميذ و الأستاذ، وكل ذلك لتوفير المناخ التعليمي البديل، الذي اصبح يشكله التعليم الخصوصي، والذي يكرس تعليما طبقيا خارج سياق الهوية الوطنية والثقافية، وذلك في أفق التخلص من التعليم العمومي نهائيا، لأنه أصبح عبئا عليها، أي الدولة المغربية، تنفيذا لما تمليه عبقرية البنك الدولي المعروف بنزعته الاستعمارية.
إن ما تخططه الدولة المغربية، بخصوص التعليم، يعتبر مغامرة سياسة واقتصادية واجتماعية، لا يجب عليها، كدولة نامية، أن تنهجها، لأن ما تخطط له يعتبر خارج السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي لعدة اعتبارات أهمها:
1 ـ لأن المغرب ما يزال يعرف تراجعات على مستوى التربية والتكوين، من جهة، وعلى مستوى التنمية المستدامة، من جهة ثانية، وذلك ما تؤكده تقارير المنظمات الدولية بفعل السياسة التعليمية، التي تبنتها الدولة المغربية منذ فجر الاستقلال ؛
2 ـ لأن قطاع التعليم ليس مصنعا أو ضيعة أو منجما تتحكم فيه شروط الإنتاج والربح المادي المباشر وغير المباشر في زمن محدد؛
3 ـ لأن قطاع التعليم يختلف في مخرجاته عن مخرجات المصانع والمناجم وغيرها، فهو ينتج العقول والمهارات ويطور الكفاءات، وينمي الطاقات الفكرية التي تخطط للبلاد، والتي تعتبر رافعة أساسية لبناء الاقتصاد الوطني، وتأهيل المجتمع ليكون مجتمعا واعيا ومتماسكا ومتسامحا. إن التعليم هو الذي جعل دولا تحتل المراتب المتقدمة على مستوى التنمية، لأن التنمية التربوية شرط لازم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن التربية والتعليم يعتبران توظيفا مثمرا ومنتجا لرؤوس الأموال. فالتنمية الاقتصادية في بلد من البلدان لها ارتباط جدلي بالتربية والتعليم. فما وصلت إليه الأبحاث والدراسات من نتائج في هذا الميدان، والتي تؤكد بأن النظام التربوي له ارتباط جدلي بالتطور الاجتماعي، مما جعل دولا تسارع إلى تنمية أنظمتها التربوية لمسايرة العصر، مثل كندا وماليزيا وغيرها من الدول. وقد صدر عن المؤسسة الأوروبية للتربية والثقافة، والتي مقرها ببلجيكا، بأن “النظام التربوي ليس حقيقة معزولة عن المجتمع، بل أحد الأسس التي تلعب دورها في النظام الاجتماعي، وأحد المؤسسات التي يرتكز عليها هذا النظام الاجتماعي”. ولقد أكد السوسيولوجي الفرنسي دوركايم : “إن التربية هي عملية جد اجتماعية تضمن اندماج الفرد في المجتمع، وذلك لإعادة البنية الاجتماعية وتمازجها بين الأجيال”.
فالتعليم، إذن، له ارتباط مباشر بالتنمية، لأن الإنسان محور أساسي فيها، والمجتمع الذي يُعِد لأبنائه تعليما حسنا، يساعد على تأهيلهم تأهيلا يجعلهم قادرين على تدبير عناصر التنمية، وبالتالي يمكنه أن يحقق تنمية اقتصادية واجتماعية تجعله في مقدمة المجتمعات. فتقدير الذين يعتبرون بأن الأموال المخصصة للتعليم هي فقط نفقات نستهلكها لخدمة المواطن دون مردودية، هو تقدير خاطئ ، لأن الدراسات والتجارب والأبحاث أكدت أن رؤوس الأموال التي تنفق في مشاريع التعليم، تعطي ثمارها بعد ذلك أضعافا أضعافا. ونضرب مثلا بالدول التي رفعها تعليمها إلى مستوى عال من التقدم والازدهار، بعدما كانت تعاني من التخلف والفقر ونقص في الموارد الطبيعية. فدولة الدانمارك مثلا، استطاعت أن تنجو من الكوارث، التي أصابت الزراعة الأوروبية، بسبب مرض ألم بتربة أراضيها، بفعل إلزامية التعليم وتعميمه عن طريق الجامعات الشعبية، التي كانت عاملا أساسيا في الثقافة والازدهار القومي الدانماركي، حيث إن التعليم جعل مزارعي الدانمارك يتواصلون مع الدولة، التي أقدمت على تغيير نمط الزراعة إلى الصناعة، ولم يكن ذلك بعسير على الدولة، بفعل المستوى الثقافي للمزارعين كي يقبلوا بتغيير بنية اقتصادهم تغييرا جذريا، وبإقامة صناعة للبن مكثفة ودقيقة، التي ما تزال سبب ازدهارها حتى الآن، ولأن نظام التعليم الدانماركي إلزامي من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية ومعظم أنواع التعليم العالي، فإن دولة الدانمارك انطلقت انطلاقة مدروسة بفعل التربية والتعليم، لتشتهر في زمن قياسي بمنتجاتها الزراعية، وبخاصة الزبدة والجبن، بالإضافة إلى أغذية أخرى معلبة، وصناعات بديلة لزراعة الحبوب، التي لم تعد مربحة ولا تساهم في اقتصاد البلاد. أما في اليابان فإن إلزامية التعليم وتعميمه في نهاية القرن 19، لعبت دورا حاسما في نمو الاقتصاد الياباني، حتى أصبح يتقدم كل الصناعات العالمية. وحتى بالأمس القريب، كانت دول إفريقية وأسيوية في مؤخرة الترتيب على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية، تعيش الفقر والتخلف والحروب الأهلية والتصفيات العرقية، فأصبحت، اليوم، توجد من بين دول العالم تقدما وازدهارا وأمنا.
فبأي حال من الأحوال انتفضت هذه الدول ضد الفقر والتخلف والحروب الأهلية الطاحنة؟ هل بفعل القروض الخارجية أم بفعل إملاءات البنك الدولي أم بالاعتماد على أموال المهاجرين أم بالمعونات الأجنبية؟ إن كل الإنجازات كانت بفضل التعليم في هذه الدول، التي اخترناها كنموذج لسببين :
- السبب الأول: لأنها دول إفريقية، أي القارة التي ننتمي إليها، وكثير من الناس لا يعلمون كيف تتقدم دول إفريقية بخطى حثيثة لتكون في مقدمة الترتيب على سلم التنمية.
- السبب الثاني: لأنها دول كانت مستعمرة مثل المغرب، لكن بعضها لا تملك بحورا أو بترولا ولا غازا، بل تملك الروح الوطنية وعزيمة الخروج من دائرة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والحسم مع التبعية، وذلك بفعل اختيارها التعليم كلبنة أساسية للتنمية.
لقد ورد في تقرير اليونسكو حول جودة التعليم في العالم لسنة 2014، أن رواندا وإثيوبيا من أفضل ثلاث دول تجربة في النهوض بالتعليم. ومع عودة الحياة لطبيعتها لرواندا بعد حرب الإبادة الأهلية بين التوتسي والهوتو، التي دمرت كل البنيات التحتية، وخلفت مئات الآلاف من الضحايا، كانت بداية البناء ركزت على الاهتمام بالتعليم، حيث اهتمت الدولة الرواندية بالمدرسين، كأولوية من الأولويات التربوية، بتأهيلهم تأهيلا شاملا ومكثفا، وبتنظيم أوراش عمل تربوية وبيداغوجية، لتدارك الوقت الضائع الذي عاشته البلاد أيام الحروب، وبذلك استطاع النظام التربوي في رواندا أن يساهم في التنمية. وقد أكدت اليونسكو أن رواندا أصبحت، بذلك، من أعلى الدول الأفريقية انتظاماً في التعليم الاساسي؛ ففي المرحلة الابتدائية وحدها، على سبيل الذكر، بلغت نسبة الأطفال المنتظمين بالمدارس نسبة 97%، وفي التعليم المتوسط بلغت 73%. ومن أجل النهوض بالتعليم وبرجاله، تخصص الحكومة الرواندية سدس ميزانيتها للتعليم من اجل بناء اقتصاد المعرفة، وجعل رواندا في مقدمة الدول التي وصل معدل نموها 9 %. وبالمقابل، نجد المغرب يتراجع على مستوى النمو، ليستقر بين 2 و3 بالمائة، أما على مستوى الاستقرار الاجتماعي فهو يوجد في مؤخرة الترتيب.
إذن، فسياسة الحكومة المغربية، في تعاطيها مع التعليم، توجد خارج السياق الدولي الذي يسعى للتقدم والنمو الاقتصادي. وإن التذرع بالتكاليف، هي مبررات لا تليق بدولة ينتعش فيها النهب والرشوة والسرقة والموظفون الأشباح والإدارات الوهمية والمديريات المركزية، التي لا دور لها في التنمية، بل هي وجدت كريع سياسي ومالي ليس إلا.