راب “عاش الشعب”، نتعاطف أم ننتقد؟
عبد السلام الفقير
راب عاش الشعب، نتعاطف أم ننتقد؟
عبد السلام الفقير
ظهرت في الآونة الأخيرة أشكال غنائية جديدة من قاع المجتمع وهامشه، تعبر بخطاب ينتمي إلى ما يمكن أن نسميهم بفئة المارقين (outsiders)، يختلف عن خطاب الدولة وخطاب التنظيمات السياسية اليسارية الذي تعودنا أنه يحمل البديل عن مجتمع القهر واللامساواة، ما يدفعنا لطرح السؤال: هل يمكن لخطاب الهامش أن يعوض خطاب التنظيم؟ وهل وجود هذا الخطاب مشروع في ظل تراجعية الخطاب النضالي التنظيمي؟
أعالج الموضوع في مستويين اثنين: من جهة أولى، المستوى السوسيولوجي من خلال حدث غنائي متمثل في تْرَاكْ رَابِي جماعي: “عاش الشعب” لكل من”ولد الگرية ولزعر والگناوي”، ومن جهة أخرى كمنشغل بالسياسي وإمكانيات ورهانات التغيير من داخل الفكر اليساري، وهو أمر ليس فيه من تناقض، ما دام الأمر رأيا مسهما في نقاش عمومي وليس دراسة علمية موثقة.
إن أغنية عاش الشعب قابلة للتحليل السوسيولوجي، ضمن إطار سوسيولوجيا الهامش، إذ يشهد المجتمع المغربي ظهور أشكال هوياتية جديدة مرافقة للتحولات المجتمعية والتطور التكنولوجي وما يتيحه من إمكانيات التعبير عن واقع الإقصاء والاستبعاد من مركز القرار والاهتمام، يمكن تسميتها ب”الهويات المارقة”، هويات تُترجم في أشكال تعبيرية مختلفة، لعل هذه الأغنية وما أحدثته من ضجة مثال على ذلك. فرغم ملاحظة ظهور موجة موسيقية جديدة قد لا نتفق معها فنيا وجماليا، إلا أنها لم تستفز الآراء والمواقف كما فعلت هذه الأغنية، وذلك لأسباب أساسية تكمن في اللغة والخطاب المستعمل، ثم شكل الفئة المؤدية للأغنية وتاريخها الاجتماعي( تسمية ولد الگرية نابعة من داخل السجن، وجاءت نتيجة سوابقه السجنية، فالمقصود ب”الگرية” قضبان الزنزانة، ما يعني أنه ابن للزنزانة، إذ اعتقل 28 مرة بسبب جنح مختلفة)، وثالثا النمط الموسيقى الذي يدخل ضمن لون الراب الذي يعد في أساسه تعبيرا عن تمرد على اللغة والخطاب الرسميين، وهو لون ذائع الصيت عالميا ووطنيا. لكن يظل السبب الجوهري لهذه الآثار وردود الفعل التي أحدثتها الأغنية هو الموضوع الذي يعد جريئا ومباشرا ويحمل سقفا عاليا من النقد الموجه للنظام السياسي، وله جمهور شبابي واسع. وهذا أمر يحتاج من الوقت والجهد ما يلزم لإنجاز دراسة علمية في الظاهرة.
أما إذا نظرنا إلى الموضوع وفق المشروع السياسي الذي نحمله كيسار رغم الاختلافات، وهو الموضوع الذي يهمنا هنا بشكل أكبر، فإننا ننطلق من قضية فلسفية سياسية أساسية وهي أن المسالة السياسية لابد أن تكون مسألة جمالية بالضرورة، إذ الفن ارتقاء بالمجتمع ذوقا وسلوكا. فالفراغ الذي نعيشه على المستوى السياسي والثقافي المرافق لأشكال التهميش المتعددة هو أحد محفزات ظهور هذه الأصوات المقهورة، لكن بآليات رثة لا يمكن الارتهان اليها لبناء المجتمع البديل عن الظلم والقهر والتخلف، ولا يمكن التعويل على خطابات ملغومة رغم ما تظهر من جرأة وشجاعة، كونها تعبيرات عفوية للمارقين كما سميناهم، المهمشين، تحمل حقدا ومواقف بقدر شجاعتها قد تكون مدمرة وهدامة، لكن مع ذلك وجودها حيوي داخل المجتمع. وقد يبدو هذا الموقف للبعض موقفا مصطفا إلى جانب السياسات الرسمية، وجوابنا على ذلك هو أن هذا الحكم ينم عن قصور في استيعاب الصورة التي نبتغي رسمها والموقف الذي نؤسس له.
إن تلك الأغنية لا تحمل بعدا جماليا في رأينا، سواء في الكلام أو في الموسيقى بالمعايير الفنية المجردة، أي لا تكشف عن طاقة إبداعية خلاقة، وهي تماثل أيضا ما يروج له الإعلام العمومي من أشكال تعبيرية يصعب تقبلها كفن من طرف المهتم الذي يعمل العقل والنقد، وتعكس الضحالة التي وصلنا إليها بسبب الفراغ الثقافي والسياسي، وهدم الفكر النقدي والتنويري، فهما معا (موسيقى الهامشيين وأشكال تعبيرهم، ثم ما يتم الترويج له للترفيه في الإعلام العمومي الرسمي) شكلان لا يمكن التعويل عليهما، وهو أمر يكشف أننا ملزمون بالعمل الكثير والفعل في قاع المجتمع حتى ننتقل إلى تعبيرات سياسية مفعمة بالجمال.
إن السياسة مسؤولة عن أخذ الوطن إلى بر الأمان عبر تنمية الذوق المرافق للتغيير السياسي الديموقراطي، والآلية الأساسية في ذلك هي إعادة القيمة إلى المدرسة وفق فلسفة تربوية تعليمية لا ينفصل عنها البعد الجمالي تقطع مع سياسة التضبيع وإنتاج التقنيين، ثم انشغال المثقف والفاعل السياسي بالعمل في القاعدة الاجتماعية لخلق تغيير ثقافي يلازم بالضرورة أي تغيير سياسي ممكن.