وباء كورونا وحلم القطيعة مع رأسمالية الكوارث
◆ محمد امباركي
الشيوعية ليست رؤية عن مجتمع مستقبلي، بل هي بالأحرى حركة منغرسة في الصراعات الاجتماعية في الحاضر. رونالدو منك. (كتاب: ماركسية 2020. بعد الأزمة).
إن علاقة الأوبئة بالتحولات التاريخية علاقة عضوية، حيث تحدث الكثير من الفلاسفة والمؤرخين على أن تاريخ الأوبئة هو تاريخ تحولات جذرية وتاريخ قطائع. وفي هذا السياق يقول المؤرخ النمساوي ” Walter Scheidel “ أن التحولات الكبرى كانت محصلة لصدمات قاسية جدا، أربعة أنماط من القطائع العنيفة كانت قادرة على الحد من أوجه اللامساواة : الحرب لما تقترن بالتعبئة الجماهيرية، الثورات، إفلاس الدول والأوبئة القاتلة ” .(1)
وهكذا فالطفرات التاريخية التي شهدتها البشرية في التاريخ الحديث كانت محكومة بمنطق الانتقال الجذري من مرحلة إلى أخرى وارتبطت بالتحولات السياسية الكبرى الناتجة عن جدلية الحروب والثورات خاصة الحربين العالميتين الأولى الثانية، والثورات التي أحدثت انقلابات حقيقية في البنى والنظم التقليدية السابقة كالثورة الفرنسية (1789) والثورة البلشفية (1917) والثورة الثقافية بالصين (1949)…الخ، وصولا الى ما سمي بالربيع العربي الذي ظل يراوح مكانه في مقاومة ثورات مضادة تحالفت فيها قوى الداخل والخارج لإجهاض أي تطلع ديمقراطي للشعوب العربية الرازحة تحت نير أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية البنيوية للمراكز الرأسمالية الغربية.
كما شهد العالم أيضا طفرات ابستيمولوجية مشهودة حيث يسجل المؤرخون والفلاسفة أن التاريخ الحديث للأفكار والوقائع شهد ثلاث ثورات فكرية أحدثت زلازلا حقيقية في العلم والاقتصاد والسياسة والمجتمع، كوبرنيك لما أثبت علميا دوران الأرض حول الشمس وبالتالي هدم إحدى أكبر أسس الفكر الديني أنداك، ثم داروين ونظرية الارتقاء والتطور حيث برهن على أن الإنسان جزء من الطبيعة وليس فوقها أو ما وراءها، ثم مدرسة التحليل النفسي مع الأب المؤسس فرويد الذي شرح تناقضات الشخصية ومكنوناتها الظاهرة والخفية. جميع هذه الثورات الابستيمولوجية نزعت عن الإنسان ألوهيته باعتباره مركزا للكون. كذلك شكلت الماركسية منعطفا تاريخيا مهما ولحظة معرفية فارقة حيث كشف ماركس عن التصور الجدلي والمادي للطبيعة والتاريخ من منطلق أن الوجود الاجتماعي هو المحدد للوعي الاجتماعي، كما قام بتشخيص وتشريح تناقضات النظام الرأسمالي وخلص الى أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ وتنبأ بأزمة النظام الرأسمالي وزواله وبالتالي تحولت الماركسية الى أيدولوجية تحررية ملهمة لتحرير الفكر والمجتمع من الاستلاب والاستغلال الطبقي ونقلت الفكر من المحددات الفردانية والرمزية الى العوامل المادية من خلال ” التحليل الملموس للواقع الملموس”.
ويعلمنا التاريخ أن الأوبئة بقدر ما كانت تكلفتها البشرية باهظة ومأساوية كالطاعون والأنفلونزا الإسبانية وإبولا والإيدز، بقدر ما شكلت فرصة حقيقية لليقظة والتمرد والثورة ضد النظم السائدة، فهل تؤشر جائحة كورونا على قطيعة تاريخية ومعرفية مع النموذج الرأسمالي في طوره الليبرالي المعولم والمتوحش الذي يخضع كل مناحي الحياة العامة لمنطق السوق والحركة المطلقة للرأسمال الاحتكاري، خاصة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاشتراكية المطبقة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وانتقال النظام العالمي الى نظام أحادي القطبية؟
من الصعب الحسم في هذه الإشكالية المركبة على اعتبار أن دينامية الجائحة واستراتيجيات “الحرب ضدها” لا زالت مفتوحة، وبالتالي فحيوية الجائحة على مستوى الانتشار والانفلات من المراقبة والاستئصال تسجل حقائق ملموسة على الأرض حول أزمة النموذج الرأسمالي في مرحلة هيمنة الاحتكار والليبرالية المتوحشة على المستوى الاقتصادي، وصعود التيار الشعبوي إلى السلطة مجسدا في اليمين واليمين المتطرف على المستوى السياسي، في أمريكا، فرنسا، إيطاليا، المجر…في مقابل بروز الصين قبل الجائحة كقوة اقتصادية تزحف كمنافسة شرسة للمراكز الرأسمالية التقليدية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة “المعتل اجتماعيا” ترامب” كما نعته “نعوم تشومسكي”، وتعززت مشروعية الصين من خلال نجاحها في تدبير الجائحة كأول بؤرة دولية للوباء ثم اختراقها لقلب الاتحاد الأوروبي من خلال الأطر الطبية وخاصة في إيطاليا التي تخلى عنها أصدقاء الأمس، ثم استجداء القوى المعادية لها كأمريكا طمعا في خدماتها من حيث المستلزمات الطبية التي بلغت حد قرصنتها من الطائرات الناقلة لها من طرف الإدارة الأمريكية، مع العلم أن الصين نفسها أغاثت إيران وهي في أوج مقاومة نوعين من الأوبئة: جائحة كورونا وطاعون الحصار الأمريكي…
لا شك أن الأيام المقبلة ستكشف عن حقائق جديدة حول مصدر الجائحة وخضوع المصير المشترك للإنسانية لمنطق المقاولة في ظل صراع القوى الرأسمالية الذي تتم ترجمته عبر الجسم الطبي ومختبرات صنع الأدوية واللقاحات، وحتى مفارقات الأنظمة الرأسمالية في التعاطي مع الجائحة والتي تكشف حقيقيتين ساطعتين كسطوع الشمس المشرقة التي لا يمكن إخفائها بالغربال الأيديولوجي لإعلام الرأسمالية.
الحقيقة الأولى
هي انهيار المنظومة الصحية من حيث خصاص الموارد البشرية وبنية الاستقبال المؤسساتية حيث حولت السياسة الليبرالية المتوحشة وخوصصة الخدمات العمومية والمستشفى العمومي إلى شركة والمواطن الى زبون يؤدي مصاريف الاستشفاء والعلاج، وتتوقف نوعية الخدمات الصحية على إمكانياته المالية وموقعه الطبقي…فعندما يتحدث ماكرون في فرنسا عن ضرورة إعادة النظر في النموذج التنموي ويجب إعادة الاعتبار للصحة كخدمة عمومية فهو بمعنى من المعاني “متمرد “على قواه الانتخابية التي صنعت منه رئيسا (المقاولة الكبرى الخاصة والإعلام المقاولاتي)، ولما ينصح الرئيس البريطاني “شعبه” بأنه سيفقد أحبة له جراء كورونا فإنه ينتصر للإستراتيجية الانتقائية البئيسة والعنصرية “مناعة القطيع”، ثم الرئيس الأمريكي باستهتاره بخطورة الفيروس وبأرواح الناس انتصارا للمصلحة الاقتصادية للوبي المتحكم في قواعد اللعبة الرأسمالية في مواجهة الجائحة وراء الستار، من خلال نوادي ومصارف وشركات تخلت عن شعار “دعه يسير دعه يعمل” لتتبنى شعار العدوى “دعه يموت، لم يعد منتجا”….
الحقيقة الثانية
هي نهج خطة “وقائية” في مواجهة الجائحة بدء من الحجر الصحي المتأخر وغير المطبق في دول أوربية أخرى أو مطبق بشكل محدود باعتباره آلية تستجيب لمحدودية الخصاص المهول للمنظومة الصحية أكثر منه إجابة على تحولات الفيروس التاجي “كوفيد 19″…مع العلم أن أصوات “سوسيوـ ديمقراطية” عديدة تعالت للتنديد بتدابير الحجر الصحي التي اعتمدتها الصين في مدينة “ووهان” الموبوءة وذلك باسم الحرية وحقوق الإنسان واتهام النظام الصيني بالديكتاتورية والتسلط..
مما لا شك فيه أن الحديث عن القطيعة المعرفية مع هيمنة “البراديغم الليبرالي” وخطاب النجاعة والتنافسية والحكامة الرشيدة، يبقى حديثا نسبيا حيث يظل حاضر الجائحة ومستقبلها من الناحية الطبية والاقتصادية السوسيوـثقافية والقيمية محط مقاربات متعددة لم ترق بعد الى قراءات شاملة ومتكاملة، وهذا أمر طبيعي، وبالتالي فهي مثار نقاش متعدد داخل المجتمع الطبي وبين المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع، كل واحد ينظر الى المسألة من زاوية مختلفة عن الآخر، بين من يعتبر جائحة كورونا لصيقة بطاعون الليبرالية المتوحشة (نعوم تشومسكي) أو أنها تستوجب التخلي عن العقيدة النّيوليبراليّة لغاية التوصّل إلى اتّفاق سياسيّ اجتماعيّ بيئيّ جديد (إدغار موران)، ومن يرى فيها ملامح الأفق الشيوعي كأفق لعودة الدولة الراعية والخدمات الطبية والاجتماعية (سلافو يتيتشيك)، ومن ينظر إلهيا باعتبارها إعلانا عن موت الباراديغم التقدمي الذي كان له شأن في تبرير الهيمنة على الطبيعة وتغليب النزعة الاقتصادية (ميشال مافيزيولي). .
لكن، رغم تعدد المقاربات، فالجدير بالانتباه هو استعادة الخطاب عن الاشتراكية في بعدها الاجتماعي والإيكولوجي، لراهنيته كنظام اقتصادي وسياسي قائم على العدالة الاجتماعية حتى من داخل الأوساط الليبرالية نفسها، في ظل الإيمان الراسخ لمناهضي الرأسمالية وأنصار الفكر الماركسي بمختلف مدارسه (الاشتراكية العلمية، الايكوـاشتراكية أو الاشتراكية البيئية، النسائية، ما بعد الكولونيالية …) بالحتمية التاريخية لاصطدام الرأسمالية كمرادف للبربرية بدورات من الأزمات والكوارث، وبالتالي فالتساؤل العريض المطروح هو : هل ستكون جائحة كورونا شاهدة على تحقق نبوءة ماركس في بداية القرن 21 والتي قال فيها “إن الرأسمالية تحفر قبرها بيدها”، وبالتالي ستشكل تلك الفأس الذي تحفر بها الٍرأسمالية قبرها بيديها ؟ ومن ثمة سنشهد على ميلاد نظام عالمي جديد قريب من الاشتراكية قائم على الدولة الديمقراطية الاجتماعية القوية وقيم التضامن والخدمات الاجتماعية على أنقاض رأسمالية الكوارث (2)؟ أم أن القوى الرأسمالية قادرة على علاج جراحاتها وأزماتها كما حدث سنة 2008، ولملمة قواها لتجاوز هذه الكارثة طالما أن الرأسمالية بطبيعتها و في مختلف مراحل تطورها هي رأسمالية الكوارث، رأسمالية مفترسة؟ وقد يتطلب الافتراس وتدبير الكوارث تحالفا وهدنة مع الصين والبحث عن المصلحة المشتركة على حساب بلدان المحيط التي قد تعرف التحاق دول من المركز بها بفعل تداعيات كورونا والعكس صحيح؟، وكما ورد في كتاب “ماركس 2020، بعد الأزمة”، أنه “بوسعنا اليوم توقع مجموعة كاملة من الخيارات المستندة الى الطموحات الجيوسياسية الحالية للصين، روسيا والبرازيل، والهند وأزمة الاتحاد الأوربي والنظام السياسي المنقسم في الولايات المتحدة” (3) ؟
“منذ سنوات ليست بالكثيرة، كانت مجرد الإحالة الى حياة “ما بعد الرأسمالية” كافية لاعتبارك طوباويا ومنكرا للواقع أو أسوأ. ومع ذلك ثمة إدراك عميق ومنتشر اليوم بأن الرأسمالية، كما نعرفها، تصل إلى حدودها الأخيرة (4).” وفي الواقع كان لماركس رؤية شديدة الواقعية عن الحقبة ما بعد الرأسمالية، وبالتأكيد لم يكن ميالا الى بناء قصور من هواء. بل كان بالفعل ناقدا شرسا للمفكرين الاشتراكيين من معاصريه الذين آمنوا بإمكانية فرض صورة عن المستقبل، بدلا من الإيمان بأن الاشتراكية تتمحور حول التطور العضوي للعناصر الديمقراطية داخل الرأسمالية” (5)
على أية حال، من السابق لأوانه قراءة مستقبل البشرية ما بعد الجائحة واعتبار تداعياتها وتأثيراتها القوية والشاملة لحظة للقطع الثوري مع أنظمة المتروبول الرأسمالي، طالما أن منطق القطيعة محكوم كما تؤكد الماركسية ذاتها، باحتداد التناقض الرئيسي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وكذلك لأن التعبيرات الطبقية والسياسية عن قوى الإنتاج المتضررة من كوارث الرأسمالية سواء كانت حروبا أو أوبئة، لازالت هامشية في المركز والمحيط معا، وغير قادرة على تجديد العدة النظرية للفكر الماركسي بشكل يتجاوز التصور النظري المجرد والرؤية “الميثولوجية” للطبقة العاملة باعتبارها الفاعل في التقدم الحتمي للتاريخ، خارج تحيين الفهم للتحولات التقنية والتكنولوجية الهائلة التي طالت عالم الشغل وعلاقات الإنتاج والطبقة العاملة نفسها، ومن ثمة توحيد جهودها وعولمة مقاومتها وبالنتيجة امتلاك القدرة النظرية والمادية على حمل الفأس وحفر قبر الرأسمالية المفترسة.
_________________________
(1)- Jusqu’à la prochaine fin du monde…PAR RENAUD LAMBERT ET PIERRE RIMBERT. Le Monde Diplomatique. N° 793- 67eannée. Avril 2020.
(2)- ” رأسمالية الكوارث. كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية “. تأليف أنتوني لوينشتاين. ترجمة أحمد عبد الحميد. عالم المعرفة العدد 478. نونبر 2019
(3)- ماركسية 2020. بعد الأزمة. رونالدو منك. ترجمة يزن الحاج. الطبعة الأوى 2018. ص : 331
(4)-(5). نفس المرجع. ص : 338-340