صناعة مغرب آخر، حلم موقوف التنفيذ في زمن كورونا…
◆ محمد امباركي
لم يكن المغرب استثناء بالنسبة لما جرى ويجري عالميا، حيث اتضحت بالملموس حقيقة الشعار الأجوف “الحياة قبل الاقتصاد” أو ” الأرواح قبل الأرباح”، حيث سرعان ما كشف منطق اشتغال النظام الرأسمالي عن استمرار وفائه لأولوية الرأسمال والربح على حياة الناس، وقد ظل هذا المنطق يعبر عن نفسه تارة من خلال الحرب واحتلال بلد أو تغذية نزاعات أهلية وداخلية، وتارة أخرى عبر دعم الثورات المضادة والحركات الانقلابية ضد مسارات التحول الديمقراطي في بلدان الجنوب، وكذلك من خلال الرقص مع الفيروس بإدارة اللعبة وراء الستار من طرف الشركات المتعددة الجنسيات.
إن تسجيل الإيجابيات الكثيرة للتدابير الوقائية في مواجهة الجائحة، لا يمنع من الوقوف عند الكثير من التجاوزات كشفت بالملموس أن شعار الدولة الاجتماعية المنشودة يحتاج الى كثير من الصبر والنضال والواقعية، وذلك نظرا لطبيعة الدولة المغربية كدولة “باتريمونيالية” تعبر عن مصالح تحالف طبقي مركب يتأسس على زواج السلطة والثروة وتداخل الأجهزة الحديثة والتقليدية كامتداد لسياسة القطيعة من داخل الاستمرارية، وبالتالي من الصعب الحلم بدولة راعية لمصالح جميع الطبقات في ظل صراع طبقي غير تناحري داخل تركيبة طبقية لا تتضح فيها المعالم السوسيوـاقتصادية والسياسية والأيديولوجية للطبقات الاجتماعية وحدودها وتقاطعاتها، وربما هذا ما يفسر في جزء منه الواقع الهش للحركة النقابية وتنامي حركات احتجاجية بأفق مطلبي ليبرالي على هامش الصراع الطبقي كما حددته الأدبيات الماركسية، و”يوتوبيا” بناء حزب الطبقة العاملة وجبهات السلطة المضادة كمهمتين آنيتين.. ويمكن تعزيز هذه الخلاصة والجواب عن سؤال “من نجا ومن طاله الغرق أو مرشحا للغرق؟” من خلال المستويات التالية:
هيمنة وزارة الداخلية على تدبير حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي من خلال أجهزتها الإدارية والمحلية وتعطيل أدوار ووظائف المجالس المنتخبة المحلية والجهوية وحجم التوقيفات التي طالت العديد من المواطنين، والتي بدأت تثير قلق وانشغال الرأي العام بشكل دفع النيابة العامة الى وقف إصدار بلاغاتها الخاصة بهذا الموضوع. وما يعزز إدارة السلطة للعملية هو طبيعة تدبير المساعدات حيث تم حرمان أسر كثيرة واستفادة أخرى لا توجد في وضعية هشاشة، ثم البؤر الوبائية المهنية التي كشفت عن درجة المحاباة إزاء الباطرونا وأرباب العمل، وعدم إدراج الوحدات الإنتاجية من شركات ومصانع خاصة الكبرى منها، في المخطط الوطني لمواجهة جائحة كوفيد19 خلال مراحله الأولى، وتغييب الحركة النقابية من التمثيلية في صندوق تدبير الجائحة في مقابل حضور نقابة الباطرونا. وهو الانتصار البين لمصالح الباطرونا، لم يعكسه فقط تناسل البؤر الوبائية المهنية، بل أيضا في ظل خرق واضح لمدونة الشغل والتدابير الوقائية لحماية العمال والعاملات والتي حاول التخفيف من حدتها بلاغ وزارة الداخلية عن فحوى لقائها بممثلي نقابة الباطرونا ( CGEM ) بتاريخ 14 يوليوز 2020 لتدارس الوضعية الوبائية داخل الوحدات الصناعية والإنتاجية، وكذا مشروع القانون المالي التعديلي المعروض على أنظار البرلمان بغرفتيه والذي ينص تحت شعار “منطق السوق” على دعم المقاولات المتأثرة بتداعيات الجائحة ماليا واجتماعيا والسماح لها عبر “مخططاتها الاجتماعية ” بتسريح 20% من العمال الذين سيجدون أنفسهم في مواجهة المصير المجهول، كما ينص على خفض ميزانية التعليم وعدم الزيادة في ميزانية الصحة، وكذلك تداعيات التجاذب بين أرباب التعليم الخصوصي وأسر التلاميذ والموقف المنحاز للحكومة لصالح لوبي التعليم الخاص. ثم الارتباك والارتجالية اللذان طالا تدبير ملف العالقين المغاربة بالخارج بشكل اثار احتجاجات متواصلة حول التأخر وعدم وضوح وشفافية معايير الاختيار والانتقاء والواقع المر والمحاط بالكتمان للقنصليات المغربية بالخارج.
هل يمكن صناعة مغرب آخر بهذه الصيغ في تدبير تداعيات الزمن الوبائي بطريقة تتيح نجاة المركب بجميع ركابه؟ وإلى أي حد يمكن صياغة نموذج تنموي جديد في ظل استمراردروس التدبير العتيقة؟
الإجابة السلبية عن السؤال تقدمها أيضا مؤشرات القلق وعدم التفاؤل البادية على مستوى التراجعات الحقوقية كاستمرار للردة الحقوقية ما قبل كورونا حيث تواترت المتابعات والمحاكمات ضد المواطنين والنشطاء الحقوقيين والسياسيين والصحفيين، خاصة الذين انتقدوا طريقة تدبير السلطات المحلية للمرحلة الوبائية كما حصل بالعديد من المدن المغربية، ثم محاولة تمرير قانون 20/22 لتكميم الفعل الاحتجاجي على المستوى الرقمي..
لكن، إذا كانت الطريقة شبه المعلنة والتي سيتم التحضير بها للأجندات الانتخابية المقبلة كما بدت بعض ملامحها خلال اللقاء الأخير لوزير الداخلية مع الأحزاب السياسية، لا تحمل أية مؤشرات ورسائل قد تحيل على إرادة تجاوز منطق التعامل مع اللحظة الانتخابية كآلية للضبط المجالي والسوسيوـسياسي وإعادة إنتاج السلطة المهيمنة مركزيا ومحليا وإضعاف الحقل السياسي المضاد، ثم التباكي مستقبلا حول هشاشة الوسائط السياسية والاجتماعية أمام تصاعد منسوب الاحتجاج لمغاربة “الهامش الهش !”، فإن تجاهل بعض المعطيات الإحصائية والسوسيولوجية التي ميزت زمن كورونا والتي لا شك سترخي بظلالها على ما بعده، وخاصة حجم طلبات الدعم التي شملت 24 مليون مغربي من أصل 35 مليون أي حوالي من 60 الى 70 في المئة، وعدم قراءتها قراءة جيدة باعتبارها ترجمة واضحة لتاريخ عريض من الاستثمار في الفقر والجهل والقمع وإنتاج نخب الريع والانتهازية التي لا يهمها مصير الوطن والمواطنين، في مقابل توسيع خرائط الهامش والهشاشة، فإن مصير سفينة البلد لن يكون غير الارتماء في بحار المجهول ومحيطات الظلمة والظلامية.. وآنذاك لن تنفع وصفة تحميل الدولة لمسؤولية انتشار الوباء للمجتمع كما عكسه البلاغ الصحفي الأخير لوزارة الصحة بتاريخ 13 يوليوز 2020 لما أكد على “تهاون البعض بخطورة فيروس كرورنا المستجد وعدم الامتثال للإجراءات الوقائية…”. وهنا نستعير ما قاله عالم الاجتماعي الإيراني”اصف بيات” أن “بسطاء الناس يغيرون الواقع الذي يعيشون فيه بفرض سلطتهم على الأرض التي يحتلونها فهم يقضمون سلطة الدولة كلما توفرت لهم الفرصة، تلك هي طريقتهم في البقاء. هذا الفعل اليومي للمنازلة بين الدولة وممكنات الحياة لا يهدأ بيسر وهذا ما يجعل الحجر ”الصحي” غير صحي في نظر العديدين، لان جزء ممن يعيشون الهشاشة يخشون الجوع المحسوس أكثر من الفيروس اللامرئي لذلك لا تطابق في التمثلات بين شعار ”شد دارك” و مبدأ ”قوم اخدم مركي نهارك” كما يقول العديد منهم ” (كتاب سوسيولوجيا الهامش. ص 51 ).
عندما نقول أنه لا يمكن أن تقوم الديمقراطية على أرضية هشة من الناحية الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية، فنحن نعي جيدا أن هذه مسلمة ودرس معروف، لأن جميع التجارب الديمقراطية الناشئة والطامحة الى الوقوف على أرجل صلبة وقوية هي التي قامت على ردم الهوة بين الدولة والمجتمع وخلق مناخ من الثقة تعززه حقوق المشاركة وحرية الرأي والتعبير والضمير والحق في العيش بكرامة والانتفاع العادل والمستحق من الخيرات المادية والرمزية، وتمثل النقد والمعارضة والاحتجاج السلمي كقواعد أساسية من المفروض أن يتم احتضانها والتعامل معها كجزء لا يتجزأ من المسار المتشعب لصناعة مستقبل أفضل ينجو معه الجميع من الغرق، مجتمعا ودولة.