لا قدرة لأحد بمفرده أن يزيل السموم من ذاته، لا يمكننا أن نتخلص منها إلا مجتمعين ومتضافرين.
◆ ترجمة: محمد بوتنبات
يعد الروائي ألان دامازيو Alain Damasio، أقوى صوت فرنسي معبر عن الخيال العلمي. تزخر مؤلفاته بأفكار عن هيمنة التكنولوجيا. وعندما اقترحنا عليه ان يتحاور مع أنطوانيت روفروا Antoinette Rouvroy، قبِل على الفور أن يواجه بأفكاره، الباحثة البلجيكية في العلوم القانونية، حيث ألهمه اشتغالها على مفهوم “الحكمانية” gouvernementalité موضوع كتابه “الأشباح”. لقد تضافرت قوى كل من الكاتب صاحب الرؤى والفيلسوفة، لتخيل طرق للانفلات من الرقابة.
• أ.روفروا: لستُ مصابة برهاب التكنولوجيا. أملك هاتفا محمولا، وأستعمل الويب، ولدي ملف تعريف على الفيسبوك. وأحرس على أن يكون ما أنشره على الفيسبوك إنتاج خطاب وليس انكشافا لحياتي. ويتعلق بإنجازاتي الشخصية، كما أحب أن أرى ردود الفعل على الشبكة. ثم إن أغلب زملائي الباحثين مرتبطون بالأنترنيت؛ وتعتبر شبكات التواصل الاجتماعية أيضا أدوات لتقاسم أعمالنا والنقاش حولها.
• أ. دامازيو: من جهتي، فإني أظل في مناطق التخفي. لا أملك هاتفا محمولا لأني أرفض تحديد الموقع الجغرافي. لا أتحمل فكرة التنزه وأنا أعلم أن قمرا اصطناعيا يتابع تنقلاتي. ليست لي رغبة في تزويد اللوغاريتمات بمعطياتي الشخصية. أفضل أن أبقى ذاك الشخص الذي يقوم بنزهة وهو من العالم القديم، لا يترك وراءه أثرا.لم أنخرط في أية شبكة اجتماعية. أمسح الكوكيز من حاسوبي كل ساعتين. لا أحتفظ قط برواياتي على الكلاود cloud (سحابة التخزين) إذ أخشى ألا أستعيدها. ومع ذلك، فإني أستخدم الرسائل؛ ومن حين لآخر، أقول مع نفسي، إنه ينبغي أن أمر على بروتنميلProtonMail [مراسلة بتشفير أوتوماتيكي لا تتطلب من المستعمل مهارة في المعلوميات].
• أ. روفروا: ومع ذلك، فأنا لست محترزة، لأني على قناعة بأني لا أهم أحدا، وبالأخص غافامGafam [غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون، وميكروسوفت]. ليس لمفهوم “المعطيات الشخصية” في الحقيقة من معنى في سياق “ضخامة البيانات”، بل إنه قد يضللنا. إن ما يضفي على المعطيات فائدة وقيمة، هي الترابطات التي تظهر من خلال عناصر غير شخصية، إذن فهي شظايا لا أهمية لها، مجرد إشارات.يكون البحث،لغايات تستهدف التسويق، عن معرفة إن كان حجم ما من المشتريات الشهرية في أمازون يرتبط بنوع من الرحلات السنوية عبر الطائرة. هذه المعطيات منفصلة عن الأسماء الشخصية، ولا تحال على أي شخص. وبما أنها متقطعة، فإنها تغذي بناء النماذج بواسطة العقول الاصطناعية. لهذا يبدو لي أن نقد التكنولوجيا في الغالب نقد في غير محله. يبقى حبيس نظرة للعالم متجاوزة، والتي بمقتضاها سنخضع للتجسس من قبل سلطة مركزية. إن هذه الحالة أكثر مدعاة للقلق تقريبا؛ ففي عالمنا اختفى الإنسان ولم يعد يوجد أي أحد!وكما يبدو لي، فإن الحديث بدقة، يكون عن “الرأسمالية الرقمية” بدلا من “رأسمالية المراقبة”. ليس لعدم وجود “الأخ الأكبر” فحسب، وإنما لأنه لم يسبق أن اعتبرنا ونظرنا إلى ما يجري اليوم إلا بالقدر الضئيل.
• أ. دامازيو: أفهم ما تقوله عن أوهام المراقبة، وقد طعّمتها رواية 1984 لأورويل. شيء رائع، بيد أنه غير واقعي بتاتا. البطل وينسطون منشق “نموذجي”، ولا يشكل تهديدا، وليس من المعقول أن ينشغل الجلاد به طول الوقت 24/ 24 ساعة. ومع ذلك، سوف أضع كلماتك، بعض الشيء، في السياق الصحيح. بداية، لأن الشبكة فضاء للرقابة، حيث ينتج عن كل فعل معلومة، إذن فهو أثر قابل للاستغلال. وهذه الشبكة تشتغل كفضاء كروي: إذا “ذهبت بعيدا جدا”، سرعان ما تصطدم بالحواجز. نعتقد بأننا “أحرار”، لكننا نتحول بسرعة إلى المراقبة المستهدفة! أتيحت لي منذ ثلاث سنوات التحادث مع اللجنة المتوارية المرتبطة بقضية تارناك Tarnac [قضية تخريب الخطوط الحديدية للقطار السريع في فرنسا سنة 2008]، أولئك الذين نطلق عليهم خطأ اليسار المتطرف. بمجرد ما تبادلت معهم الحوار، حتى بدأت تحدث أشياء غريبة في مراسلاتي، بحيث صارت رسائلنا يلقى بها في سلة البريد المزعج (Spam)، وبدأت الانقطاعات تحدث من حين لآخر، في خطي الثابت. إنها مؤشرات بسيطة، ولا أعرف إن كنت فعلا تحت التنصت. أما المناضلون فهم غالبا ما يواجهون هذا النوع من المشاكل.ففي (ZAD de Notre-Dame-des-Landes)[ الدفاع عن منطقة(طبيعية)في نوتردام دي لاند] توجد “غرفة مظلمة” Dark room يمكن التواصل فيها بحواسب مجهولة. ينبغي استعمال شفرات الدخول، وكل الرسائل مشفرة.
• أ. روفروا: أنا أيضا التقيت بجوليان كوبا Julien Coupat[ناشط فاعل في Tarnac] منذ بضعة سنين في إحدى الجامعات الصيفية التي كان ينظمها، وحيث كان يدير ورشا عن السيبرنيطيقا. وكانت الإدارة العامة للأمن الخارجي (DGSE) تقوم بدوريات أكثر أو أقل تكتما حول مقر الملتقيات.
• أ. دامازيو: بالطبع، هذا لا يمس سوى جزء صغير من السكان؛ لكن لدينا الكثير من الأدلة على ان الشرطة يمكن لها أن تصل إلى معطيات المنصات أو إلى مزودي النيت، بمجرد ما ترى الوضع يتطلب ذلك فورا. لقد كشفت قضية اسنودين Snowden [العميل في CIA الذي صرح بوجود عدة برمجيات لمراقبة الناس في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا] أن الأمن الفيدرالي FBIله الحق في الوصول إلى الحسابات على الفيسبوك وغوغل وياهو… أما المتحدثون عبر الاتصال، فإنهم يخضعون للتنصت من طرف أُجَراء لتحسين الذكاء الاصطناعي، مخترقين بنشوة حميميتهم. وإذا ما وقعت جريمة في مكان ما، فإن الحصول على التسجيلات تتم بطريقة آلية. لدينا إذن نظام بشفرتين: إحداهما طيف الرقابة المنتشر؛ والثاني الشفرة التأديبية التي تضرب كلما حصل تجاوز لبعض الحدود.
• أ. روفروا: نعم، هناك قلب للمعيارية. ومع ذلك، فإن منطق الاضطهاد لا يفعل كل شيء. وما يقوم عليه الرهان كذلك، وبشكل خطير هو الرقابة الذاتية.
• أ. دامازيو: هذا صحيح!
• أ. روفروا: عندما تعلم أنك تعيش في عالم، حيث من الممكن أن كل ما تفعله أو تقوله يُسجل ويُخزن، فإنك تراقب نفسك بنفسك. إنك لا تريد أن تترك شيئا يمكن أن ينقلب ضدك. إذن، فإنك تمنع على نفسك القيام ببعض السلوكيات. علاوة على أن يوعز لكل واحد بتنمية رأسماله البشري الرقمي – الحصول على عدد كبير من الأصدقاء، والمشاهدات، واللايكات، وأن تُنقّط جيدا من طرف Airbnb [موقع يرشدك إلى الأماكن التي تريد أنتقضي فيها عطلك…] و Uber [شركة أمريكية للتوصيل والتنقل…]. نحن في مجتمع التقويم و “الديْن الائتماني”. إذا لم يكن حسابك البنكي على المكشوف قط، وأن أصدقاءك على الفيسبوك وأنستاغرام معسرون، فإنك ستجد صعوبة كبيرة في الحصول على قرض بنكي. فلأجل تنمية رأسمالك البشري الرقمي، عليك في نفس الوقت أن تكون حاضرا بقوة في شبكات التواصل الاجتماعي،وتزودها بالمعطيات، وتحصل على اللايكات وخمس نجمات.
• أ. دامازيو: لقد كونت نفسي بقراءة فوكو ودولوز. وأثرتْ فيَ “الكتابات البعدية عن مجتمعات الرقابة”،والتي استلهمت منها أول رواياتي ” المنطقة البرانية” (La Zone du Dehors). يوفر دولوز الأسلحة لإعادة كتابة1984 إلى رواية 2084، ليس فحسب لوصف الترويض الشرس للمجتمع، وإنما لوصف مجتمع الرقابة. تتخذ الرقابة فيه أشكالا جديدة أكثر خِفية، ولكنها أكثر خطورة.وأنا أكتب “المنطقة البرانية”، كنت لا أزال أجد صعوبة في تصور عالم فقدت فيه السلطة ما هو أساسي لتمركزها، وعمودية تراتبها؛ وحيث يمكنها أن تمارَس عبر الشبكة كنوع من النسيج الشبكي الأفقي الذي ينشطه المواطنون- المستهلكون بأنفسهم.
• أ. روفروا: ومع ذلك، فإن هذا موجود.. يمكن لك أن تسجل نفسك على موقع Weight Watchers (مراقبو الوزن) إن كنت تتابع حِمية. وعندما يستشعر النظام، بواسطة تحديد الموقع الجغرافي لهاتفك المحمول، أنك دخلت إلى متجر للحلويات، يُرسَل منبه إلى المجموعة، حيث يمكن لأعضائها أن يبعثوا لك رسائل لتشجيعك على مقاومة الإغراء. يعود هذا النوع من المحاكاة إلى ما أطلق عليه مختبر كابتلوجيا captologie [دراسة المعلوماتية والتكنولوجيات الرقمية كأدوات للتأثير على الأفراد وإقناعهم] لجامعة ستانفورد Stanford حملَ الأشخاص بكثافة على الاقتناع فيما بينهم(MIP). إن المجموعات التي توجد على النيت، والتي ننتمي إليها تمارس علينا مثل هذا النوع من الضغط الأفقي.
• أ.دامازيو: عندما قرأت في أعمالك عبارات مثل “الحكمانية بدون ذات” أو “المعيارية المحايثة”، قلت مع نفسي،ها نحن صرنا نمتلك مفاهيم قيّمة للتفكير في هذه السلط الجديدة المحايثة. أحَلتِ على (غافام(GAFAM. لكن، ما يزعج أكثر، هو أن هذه المؤسسات لا تفرض شيئا، بل وليس لها أي إرادة لتحكم. فلا أحد قد وضع مسدسا على رأسك لإرغامك على نشر بياناتك على الفيسبوك. إن غافام تبحث فقط عن تحسين أرباحها. ولكي تصل إلى مبتغاها، وضعت تحت تصرفنا مجموعة من الأدوات والتطبيقات، سرعان ما تلقفناها لتيسير حياتنا، ونحن نحقق أقصى قدر من الاستلاب الذاتي. أطلقتُ على هذا في كتابي “الأشباح” كلمة Self-serfvice: دوامة من العبودية الإرادية. عندما عالج دولوز الرقابة، استلهم فكرة ويليام بوروغ William Burroughs الذي ظن أنا لمخدرات هي السلعة الوحيدة للإدمان.إن العلاقة التي نقيمها مع الرقمية تعود بالكامل إلى الثمن الذي نؤديه.تُنشِئُ المنصاتُ تبعيتنا وتحسّنها، إلا أننا نحن الفاعلون الوحيدون لنجاعتها. وللخروج من هذا الشراك، يلزمنا أن نحبط نزوعنا إلى التغذية الذاتية لهذه الحلقات. لنحتفظْ”بروح الاعتراض على ثمن التكلفة” بكل حيوية.
• أ. روفروا: من بين الدوافع النفسية لهذه الحالة، نجد الانطباع الذي يتولد عندي أمام الحاسوب وهو إحكام السيطرة. أرقن طلبا على غوغل، أشتري كتابا بواسطة نقرة من أمازون. يمنحني الحاسوب انطباعا بأن رغباتي هي أوامر.في كتاب “ما هي القيادة والسيطرة؟” يلاحظ جيورجيو أغامبين Giorgio Agamben أننا لا نطيع طاعة تامة إلا عندما نرقن على الحاسوب، فنحس بانطباع أننا “نتحكم”.
• أ. دامازيو: تذكرني هذه الإشراقة بجان بودريار،لما ظهرت السيارات ذات الإغلاق المركزي لأبوابها. عندما تضغط على زر المفتاح، وأنت على بعد ثلاثين مترا لفتح باب السيارة أو لإغلاقه، ينتابك شعور بمتعة لا تصدق. إنها صورة سخيفة ومثالية عن التحكم. فكلنا نبحث عن السيطرة والتحكم. إنها حاجة إنسانية تقريبا. لقد بنى “الإنسان العاقل” Homo Sapiens نفسه بواسطة السيطرة: على الطبيعة والحيوانات والمناخ والفضاء وعلى الآخرين. وما التكنولوجيات التي نستعملها في حياتنا اليومية إلا لتوسيع ميدان السيطرة.يمكن لي بهاتف ذكي في يدي من العمل والإغواء، والاستعلام وتنظيم حياتي وتوجيهها، ومن اللعب… أوجد على رأس إمبراطورية شخصية؛ وأشعر فيها بنوع من السيطرة والتحكم، يطرد عني قلقي، ووحدتي وشكوكي المتعددة.
• أ. روفروا: تماما! التكنولوجيا تتحكم بواسطة تقديم الأجوبة السريعة جدا عن دوافعنا. إنها تسير بسرعة فائقة، بحيث لا تدع لنا وقتا لتحويل دوافعنا إلى رغبات بناءة. ونفس الشيء على المستوى السياسي: نحن نرى إنشاء نموذج من “الحكمانية اللوغاريتمية” لم تعد في حاجة إلى المؤسسات، وإلى المفاهيم المتعالية للحق والعدالة والإنصاف، أو إلى المساواة… إذا دُبر العالم تدبيرا حسنا، وتم تحسين تدفق البضائع والأموال، وإشباع كل الحاجيات، فلماذا لا نزال نمارس السياسة؟ إن الحكمانية اللوغاريتمية ستقودها عما قريب عقول اصطناعية تتعلم ذاتيا. لن تقوم حتى بتنفيذ برنامج تم تصوره من قِبل كائن بشري؛ بيد انها ستحسن العلاقات الاجتماعية على قاعدة “استخراج البيانات” (Data mining). وهذا ما يجعلنا ننحرف عن المجهود الذي يبدل للحفاظ على فضاء عمومي، فضاء تتواجه فيه الرغبات التي يحملها البشر. إن ما هو مهدد اليوم، ليس الحياة الخاصة، وإنما الحياة العامة. إذا تصورت المجتمع كمجرد مصالح فردية متجاورة، فإن السياسة لم يعد لها أي معنى. أصبح الإغراء قويا للقضاء على فضاء المداولات الديمقراطية، وتعويضه بآلية ضخمة للشحن.
• أ. دامازيو: أحب كثيرا هذه الفكرة التي تتعلق بضرورة وجود مسافات بين الكائنات، حتى يتم الحفاظ على الفضاء العام. في كتاب ” لن يعود وحيدا أبدا” يشرح ميغل بنْأصياغ M.Benasayag وأنجليك ديل رييْA.del Rey أن الهاتف الذكي يمنحنا تواصلا اندماجيا، وبالتالي نكوصي مع أقاربنا. إن استمرار المبادلات يمنع الآخر من وجوده كحضور يبني ذاته من جديد.تتدهور الرغبة إلى اندماج رخو. لكن، من المفيد التفكير في ذلك سياسيا. لم أكن أقدر مدى ما يسري على العلاقات العاطفية، ينطبق كذلك على السياسة. كيف يمكن استعادة الرغبة في الانخراط، إذا كانت اللوغاريتمية تأتي لتميّع العلاقة الاجتماعية؟
• أ. روفروا: لأجل هذا فالحكمانية اللوغاريتمية ليست سلطة سياسية بالفعل، وإنما هي بالأحرى نظام للمناعة، طورته الرأسمالية لتصارع به كل ما يمكن ان يضعها في أزمة. ولا يمكن للناس ان تكون لهم قدرة على التمرد إلا إذا صاروا ذواتا كاملة الأهلية. والحال أن التكنولوجيا تأتي لوضعهم في مستوى ما تحت الذاتية، في مرحلة الدوافع، وتمنحهم ما يريدونه في الحين.
• أ. دامازيو: كيف السبيل إلى التمرد على اللوغاريتمات؟ إذا لم يوجد مسئولون بهوية محددة، فإن التمرد يفقد كل نقط الدعم؛ وقد يكون من المجازفة أن ينقلب ضدنا.
• أ. روفروا: توجد وسط المبرمجين حركة مؤثرة تريد حاليا جعل الحكمانية اللوغاريتمية أكثر دمقراطية. هؤلاء الناس يناضلون من أجل لوغاريتمات “فاط” (Fair, Accountable,and Transparents)، أي عادلة، مسئولة وشفافة. إلا أنهم اصطدموا بصعوبات جمة، بحيث أن مسألة العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تحل أبدا بواسطة نظام متري (حسابي). اليوم، في الولايات المتحدة الأمريكية توجد معطيات متوافرة عن الرجال البيض أكثر مما توجد عن النساء السود. غير أنه من أجل استدراك هذا التفاوت، ينبغي “تعقب” التجمعات الأفرُأمريكية. كذلك يوجد أناس جادون، اقترحوا تعويض القضاة في بعض الدول الإفريقية باللوغاريتمات، حيث فساد القضاء متفش. بيد أنه لا يمكن أن ندرب هذه اللوغاريتمات على اتخاذ القرارات،إلا بتغذيتها باجتهادات فقهية تمت في الماضي من طرف نفس القضاة الفاسدين، وهذا شيء سخيف تماما.
• أ.دامازيو: لا أثق في أولئك الذين يريدون تحسين المنظومة من الداخل. ففي الغالب ما يجعلونها أكثر فعالية. لما بدأت أشتغل على رواية “الأشباح”، كانت نقطة البداية هي السؤال التالي: هل لا زال من وجه آخر ممكن لمجتمع التحكم؟كان جوابي الأدبي هو التخفي.الأشباح هي كائنات حية، وهي في نفس الآن حيوانات ونباتات قادرة على العيش في الزوايا الميتة من النظرة الإنسانية. الشبح يستبق وجهة نظراتك، يتحرك في المكان الذي لا تراه فيه. كان الشبح في أصل الرواية إذن شخصية مفهومية، مَن لا يمكن تعقبه إن أردنا. وفي فترة ثانية، استكشفت بعدا آخر للتخفي أكثر حيوية. وباعتمادي على دولوز وسيمونيد وبرغسون، تخيلت ما يمكن أن يكون أعلى صورة للكائن الحي. فللكائن الحي خاصية إعادة اختراع نفسه من جديد وبدون انقطاع؛ وصنعت أشباحي من لحم وأصوات، تعمل على تمثيل بيئتها، وتتحول في شكلها، تهرب وتخلق. هي أكثر من مجرد رد فعل للانقلاب على التحكم في عالم فاسد؛ لقد صاروا أجمل وأنبل تجسيدا للكائن الحي. إنها يوتوبيا ملهِمة، أتمنى ذلك!
• أ. روفروا: إن التخفي الذي وصفته، هو قوة موجودة فينا، وقابل للتفعيل. إنه أفق مرغوب فيه، ويختلف كليا عن رغبة (غافام) التي تعد بخلق بشر متحوّر خالد.
• أ. دامازيو: لقد ألفت روايتي، بغاية جعل القراء يعون هذه الأبعاد الحيوية التي نحن بصدد ضياعها. وبسبب “شرنقة التكنو”، وميلنا إلى الانغلاق في “قلاع الرفاهية”، حيث كل شيء يُراد بيسر، وفي متناول اليد. إن عاداتنا في مواجهة الخارج والآخر في تناقص مستمر، مادام أن محيطنا الرقمي يجاري اختياراتنا ومعتقداتنا.
• أ. روفروا: ينبغي ألا نستعمل كلمة “المقاومة” في مواجهة التكنولوجيا. يمكن أن أصير مقاوما في مواجهة طاغية، أو ضد الاستبداد، أو حزب شمولي. بينما في عصر الحكمانية الرقمية ليس للكلمة في الحقيقة من معنى؛ لذلك أفضل الحديث عن “العصيان”. ماذا يحدث لنا؟ لقد بدأنا نتنازل عن تدبير شؤون العالم، ونميل إلى التخلي عن هذه المهمة للآلات. أن نعصي هو أن نرغب في استرجاع الحكم، حكم أنفسنا، وتدبير العالم.
• أ.دامازيو: أضيف أنه لأجل أن يكون لفعل ما تأثير سياسي، ينبغي أن يُنسج من طرف الجماعة. من جهة أخرى، لا أحب كثيرا ما أسميه ” التصورات الخيالية لليمين” والموجودة بكثرة في السينما الأمريكية: العالم يسير إلى أسوء، لكن سيدة أو رجلا خارقا سوف يجد الحل بمفرده. حاولت أن آتي بمخيال مغاير، ليس بنزعة فردانية، ولكن بإعادة الارتباط والتحالف.تضرب الرأسمالية الروابط بقوة، وغالبا ما تقدم لنا التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية بدائل عن التواصل الاجتماعي. فلا أحد بمفرده يزيل السموم من ذاته، لا يمكننا أن نتخلص منها إلا مجتمعين ومتضافرين.
◆ ترجمة: محمد بوتنبات
المرجع: Philosophie Magazine
N° 133, Octobre 2019, Pp : 59,60,61,62