ما موقع الجماعات المحلية في البناء الديمقراطي؟
◆ حنان درقاوي / فرنسا
تسعى الديمقراطية في غاياتها النهائية إلى دعم الإنسان وتقويته وتمكينه سياسيا وتعليميا وصحيا، ذلك لأنها إفراز للنزعة الإنسانية التي بشرت بها فلسفة الأنوار، وقلبت بذلك نظام التمركز على الإله لتجعل التمركز على الإنسان هو المبتدأ والمنتهى للتعاقد الاجتماعي والسياسي.
من أجل بلوغ هاته الغاية تستند الديمقراطية على آلية أساسية وهي التمثلية، والتي مشروعيتها تكمن في الاقتراع الذي يشكل صلب العقد الاجتماعي ويربط المسؤولية بالمحاسبة، تشتغل التمثيلية على مجالين
ـ العام والمركزي الذي هو البرلمان.
ـ القريب والمحلي وهو الجماعات المحلية.
وتلعب الجماعات المحلية دورا مفصليا في التسيير الديمقراطي في البلدان الحداثية، وهو ما يسمى بديمقراطية القرب لأنها ملتصقة بالمواطن وحاجاته المباشرة، وفي النموذج الفرنسي تطور الإطار القانوني والإداري لسير الجماعات المحلية بموازاة مع التخلي عن النموذج الجاكوبي المركزي نحو جهوية أوسع وسلطات أكبر للجهات.
لقد تميزت سلطة ملوك فرنسا بتمركز قوي وكرست الثورة هذا التمركز، ومن بعدها الإمبراطورية مع نابليون. بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت بوادر الجهوية بما يسمى “التجمعات الاقتصادية الجهوية”، وعددها سبعة عشر تجمعا، وقد دفع ديغول في اتجاه المزيد من الجهوية على أساس القوة الاقتصادية، ومنح وجودا إداريا وقانونيا للجهات، وقد قال في خطاب شهير له أن الأسباب التي فرضت نظاما مركزيا قويا في الماضي خوفا من ضياع الوحدة الوطنية قد اختفت، حيث صار العقد السياسي والاجتماعي بين المركز والجهات قائما على الثقة المتبادلة وعلى وحدة الفرنسيين حول مفاهيم ثلاثة تلخص صلب المشترك بينهم وهي أخوة وعدالة وحرية.
حصل المنعطف الحاسم مع وصول ميتران عن الحزب الاشتراكي إلى الحكم عام 1981، حيث تم ترسيم المجلس العام كسلطة تنفيذية مكان الوالي وتعويض المراقبة الإدارية بمراقبة قانونية بعدية وهي الغرفة الجهوية للحسابات والتي من مهامها مساعدة الوالي في المراقبة المالية.
لقد ارتقت حكومة اليسار بالجهة إلى جماعة ترابية مكتملة مزودة بمجلس منتخب وتم إصدار المرسوم الأول للامركزية وتشجيع التعاون بين الجماعات وبين الجهات على أساس التنمية المستدامة والتضامن والتجديد الترابي وكذا ديمقراطية القرب. فيما بعد جاءت إجراءات حكومية من اجل تدعيم سلطات المجالس الجهوية والجماعات المحلية وتخفيف الترسانة المؤسساتية.
مع عودة اليسار إلى الحكم في 2012 ستفتح مرحلة جديدة من اللامركزية من خلال إعادة وضع الثقة بين الدولة الحاضن لقيم الجمهورية والوطن والجماعات المحلية كفاعلين أساسيين في الجهات والرابط المجتمعي، فهناك تجديد للثقة من خلال الحوار المتجدد.
نستخلص من هاته العجالة التاريخية كيف أن الجماعات المحلية والمجالس الجهوية والقوانين التي أرست كيفية بنائها واشتغالها، ارتبطت بدينامكية عامة من إصلاح الدولة ومسلسل اللامركزية في بلد ذي تقاليد ديمقراطية عريقة ومراقبة صارمة للمال العام ونظام ضريبي قوي، حيث يصل الاقتطاع على ذوي الدخل العالي حتى خمسة وسبعين في المائة، بالإضافة إلى أن اليسار الفرنسي احدث مدخلا جديدا هو الضريبة على الثروة وهو ما يمول النظام الاجتماعي في فرنسا من صحة عصرية وتعليم جيد وعوائد البطالة وتعويضات الأسرة ودعم كراء الفئات الهشة، ووضوح القيم المشتركة من عدالة وإخاء وحرية تجعل المنتخبين منصرفين إلى خدمة المواطن الذي صوت عليهم في مجالات الصحة والتربية والثقافة والتنمية المستدامة، وتبقى الجهات والجماعات مؤسسات تكاد تنعدم فيها فضائح الفساد التي قد تحصل من حين لأخر في أعلى هرم الدولة، كما حصل مع الوزير الأول السابق فييون والذي تمت معاقبته بالسجن الفعلي والغرامة المرتفعة بتهمة إهدار المال العام.
ما هو الحال لدينا في المغرب؟
عرف المغرب قبل الحماية نوعا من “اللامركزية” وهي تقسيم بلاد المخزن وبلاد السيبة، وبدأت اللامركزية فعليا في التأسس منذ الستينات إلى 1992، حيث توالت مراسيم وقوانين خجولة لا تتيح أية حرية للجهات وتمارس فيها وصاية إدارية مباشرة على الجماعات الحضرية والقروية، وتم الارتقاء بالجهات إلى مصاف الجماعات المحلية مع صدور ميثاق تنظيم الجهات في 2002، وسنة 2009 صدر القانون رقم 17 08 المتمم لقانون الميثاق الجماعي وتم الإعلان عن الجهوية المتقدمة، وينص الفصل الأول من دستور2011 على أن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي.
ويرتبط نجاح الحكامة الترابية كما في النموذج الفرنسي على أربعة أسس:
- وجود هيئة واحدة للمراقبة المالية للترشيد العقلاني لميزانية الجماعات.
- تخفيف الرقابة أو “الوصاية الإدارية” عليها.
- تقاليد ديمقراطية تضمنها قيم عليا مشتركة تحدد تعاقدا اجتماعيا واضحا يهدف إلى تقوية المواطن والمجتمع من خلال توفير هيئات محل ثقة.
- تقاليد صارمة في محاربة الفساد في كل مستويات الدولة والمؤسسات المنتخبة.
في المغرب يلاحظ المشتغلون بالقانون أن هناك تضخما في هيئات المراقبة المالية، حيث توكل في نفس ألان للمفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية، وهذا غير معقول بأن تخضع نفس الميزانية لمراقبة هيئتين، ناهيك عن إهدار المال العام المحلي وعدم وجود أي ترشيد تنموي.
يلاحظ أيضا خضوع الجماعات لمراقبة إدارية من طرف وزارة الداخلية ووزارة المالية في نفس الآن، وهو ما لا يخول للمنتخبين التصرف في جو من الثقة في كفاءاتهم وقدرتهم على الحكامة المحلية.
إن هناك قيما مشتركة راقية عند المغاربة تمكننا من الوحدة الوطنية، لكنها لا تحدد ما هو العقد الاجتماعي والسياسي الذي نتوحد حوله؟ ماهي قيمنا العليا؟ هل نريد العدالة والأخوة والحرية مثلا كالفرنسيين؟ ما هو مضمون توحدنا في الوطن كأفراد وجماعات وجهات؟
فنحن نحتاج إلى تعاقد اجتماعي واضح يحدد فلسفتنا الاجتماعية والوطنية.
اننا وللأسف نفتقر إلى تقاليد صارمة في محاربة الفساد بل إن الإفساد ممنهج لضمان الولاءات في كل مستويات الدولة والمجتمع، الذي هو منظومة عامة للريع تخترق كل مستويات الدولة والمؤسسات المنتخبة والمالية والسياسية والثقافية، ولن ننجح في أية سياسة لا مركزية أو غيرها مهما كانت طموحة دون سياسة واضحة وقطع واضح مع بنية الفساد والإفساد السائدة.
إن الجماعات المحلية التي تخضع لرقابتين ماليتين يجب أن تخلو تماما من أي تلاعب بالمال العام، ففضائح الفساد التي نتابعها تجعلنا بالفعل نطرح سؤالا جوهريا على تخوم الفلسفة السياسية والتحليل النفسي حول دوافع وشخصية من يرشح نفسه للمسؤولية العامة، لماذا عندنا في المغرب يدخل غمار السياسة وهي مجال لخدمة الصالح العام أشخاص في الكثير من الأحيان بعيدون تماما عن هذا الهدف؟ لماذا لا يتم الفصل في كل مستويات الدولة بين المال والسياسة؟ هل هي أزمة شخصية سياسية مغربية؟ أم أزمة بنيوية لدولة تضمن استمرارها بنسق الفساد والريع؟
◆ حنان درقاوي / فرنسا.
كاتبة مترجمة محللة نفسانية.
إعلامية وأستاذة فلسفة.