هل ندع ما كاد ينهار لينهار؟
◆ محمد امباركي
في لحظات العجز عن ضبط إيقاع اتساع وباء كورونا تتواصل مخرجات الاستراتيجية السهلة : اتهام الهامش المقهور بالمسؤولية عن انتشار الوباء عن سبق إصرار وترصد ومطاردته من خلال قصفه بقرارات أقل ما يقال عنها أنها تزيد من ارتماء ذلك الهامش في المجهول..
إن العجز الرسمي عن صناعة مغرب أكثر عدلا وديمقراطية في زمن كورونا ليس اكتشافا جديدا، طالما أن أسبابه معروفة وتاريخية، وفي الوقت الذي ظلت العديد من القوى والفعاليات السياسية تدق ناقوس الخطر وتنبه إلى خطورة السياسات النيوليبرالية المتوحشة على مستقبل البلاد والعباد، ظلت ساعة النظام السياسي تشتغل بشعار “لمن تحكي زابورك يا داوود”، و في بعض الفترات بشعار “شاوره ولا تعمل برأيه”، كما يحدث خلال الاستشارات الانتخابية، حيث يحضر كل شيء إلا قواعد التباري الديمقراطي، أو خلال الاستنجاد بقوى الصف الديمقراطي أثناء بعض اللحظات الحرجة التي تمر منها القضية الوطنية..، وسرعان ما تعود حليمة الى عادتها القديمة في مراكمة الثروة والسلطة واحتكارهما وصناعة نخب سياسية واقتصادية من ريعهما. وتحول الريع إلى آلية ابستمولوجية ضرورية لفهم وفك طلاسم وألغاز المشهد السياسي العام في بلادنا..
المسألة تقتضي استفاقة كل القوى الحية والديمقراطية، للخروج من بوتقة التشخيص والنقد الافتراضي إلى المرافعة الصريحة في تحديد المسؤوليات والدفاع الملموس عن الصحة العقلية والجسدية للوطن والمواطن.. لأن الاستخفاف بالمدرسة والصحة مقامرة خطيرة بمصير البلاد والعباد..
إن نقد الإجراءات الرسمية والمساهمة الواعية في مواجهة الجائحة من موقع الفعل هي معركة كل القوى والفعاليات الغيورة على مصلحة الوطن والمواطن، وذلك من داخل كل جبهات النضال والتأثير الاجتماعية والسياسية والجمعوية والمدنية.. فليس من حقنا ان نترك شعبنا ونحن جزء منه فريسة لسياسة “دع المنهار ينهار”، أو كما قال الشاعر محمود درويش في ديوان مديح الظل العالي “دع كل ما ينهار منهارا ولا تقرأ عليهم أي شيء من كتابك” رغم اختلاف السياق والمعنى.. إذن فلابد من استحضار التجارب الرائدة التي نتجت عن الإرادة الوطنية الصادقة، كتجربة طريق الوحدة التي كانت مشروعا لبناء الإنسان، والتي لعب فيها الشهيد المهدي بن بنبركة الدور الحيوي والرئيسي، حيث كان يخاطب الشباب المتطوع بالقول “نحن نبني الطريق والطريق تبنينا”.. لكن تحالف الاستعمار والقوى الرجعية أجهض الأهداف المباشرة والرمزية لهذا المشروع ومشاريع وطنية وتحررية أخرى.. ولازلنا نؤدي ثمن منطق اغتيال الديمقراطية والتحرر الوطني، الذي سبب الفقدان الشبه التام للثقة في المؤسسات وعلى رأسها مؤسسات السلطة..
نعم، إن الحاجة إلى النقد من موقع الممارسة والرؤية الاقتراحية مسألة حيوية ومطلوبة.. ومن مداخل هذه الاستراتيجية البديلة الدعوة إلى حوار وطني بتعبئة كل القوى والطاقات الحية، على أرضية تصفية الجو السياسي بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والصحفيين ومعتقلي الرأي والحركات الاحتجاجية، والقطع مع منطق استثمار المرحلة الوبائية في مدح السلطة لذاتها ثم قمع الرأي المخالف، وأخيرا رمي الكرة في ملعب المجتمع الذي ظلت غالبيته الساحقة في عداد المنسيين في اختيارات وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية طيلة اكثر من خمسة عقود..
إن ظروف مواجهة القوة القاهرة تستلزم التعبئة المجتمعية الشاملة، لكن بالقدر الذي لا يسمح فيه للدولة بالاستمرار في منطق التدبير الانفرادي للمؤسسات والملفات الاستراتيجية، ولما يصطدم هذا المنطق غير الديمقراطي بحائط الفشل يتم رمي الكرة في ملعب المجتمع، وكل نقد لهذا الفشل يعرض صاحبه للقمع والتنكيل والتكميم، وهي تعبئة لا يجب فيها بالنسبة لقوى الصف الوطني والديمقراطي وكل الفعاليات الغيورة على مصلحة الوطن والمواطن أن تترك “الحبل على الغارب” بالاكتفاء بالتنديد والتقوقع في انتظارية قاتلة.. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا اليوم بصوت مرتفع أن من مقدمات الفعالية السياسية والأثر الاجتماعي في معركة نقد السلطة وبناء الديمقراطية، هي أن تضع قوى الصف الوطني والديمقراطي وخاصة قوى اليسار الديمقراطي وبشكل أخص فدرالية اليسار، سؤالا عريضا في جدول أعمالها في المرحلة وهو : ما الجدوى من مسلسل انتخابي يظل بعيدا عن الحدود الدنيا من الشروط الديمقراطية لإنتاج القرار السياسي في بلادنا، ولا يساهم في تفكيك مصادر ومشروعية السلطة والثروة لإعادة بنائهما على أسس ديمقراطية وعادلة، ويترجم عجزه البنيوي في تصاعد الحركة الاحتجاجية، التي لا شك أن كل المؤشرات تدل على أنها مقبلة على التمدد السوسيوـمجالي، في غياب شبه تام للتأطير والتوجيه؟، آنذاك فقط سيفرض علينا الإنصات الى الخطاب البئيس حول موت النخب وترهل الأحزاب السياسية التي يتم وضعها في سلة واحدة بشكل مقصود ومخطط له؟.. إن تراكمات ما قبل كورونا وخلالها وبعدها لا يمكن إلا أن تجعل البلاد مفتوحة على هبات واحتجاجات غير مسبوقة، كما شخص ذلك بشكل عميق وصريح الباحث السوسيولوجي الدكتور”خالد أشهبار” في كتابه “عالم ما بعد كوفيد 19 الحمل الكاذب”، حيث يقول “إن التضامن المؤسساتي ـ الذي رافق كوفيد-19 ـ بالمغرب، في تقديرنا، لم يكن محكوما سوى بهواجس أمنية خالصة. لقد كان مجرد استراتيجية وقائية موجهة بالسعي الحثيث لتجنب وقوع انفجار اجتماعي، تبدو كل خمائره متوفرة، وكل عناصره الكيميائية جاهزة، قد يبيد الأخضر واليابس، ويأتي على الحرث والنسل، ويهدم بشكل خاص سقف المعبد على رؤوس صانعي بؤس المغاربة، ومصاصي دمائهم، وناهبي ثرواتهم، خاصة اذا استحضرنا ارتفاع درجة منسوب الاحتقان الاجتماعي في المغرب خلال السنوات الأخيرة..” (ص 117).
إن طرح السؤال حول جدوى المسلسل الانتخابي في هذه الظرفية بالذات ليس تكفيرا بأهمية اللحظة الانتخابية، بل إنه ينبع من قلب استراتيجية الفيدرالية في الربط الجدلي والخلاق بين الواجهة المؤسساتية والواجهة الجماهيرية، وفهم تحولات الديناميات الاحتجاجية الصاعدة والدور الحيوي للعمل السياسي الممانع والمنظم في اتجاه الضغط أكثر لفرض الشروط الدنيا لصراع الأفكار والبرامج، والتأسيس لتعاقد سياسي واجتماعي يقوم على التوزيع العادل للثروة والسلطة، ومن ثمة يضمن للبلاد المناعة الكافية في مواجهة جميع أنواع الأمراض والأوبئة، والانتصار على قوى التخلف والاستبداد والفساد باعتبارها أصل الداء والانهيار.