المكان محاصر.. المراقبة الرقمية
◆ أجرى الحوار : مارتن لوغرو - ترجمة : محمد بوتنبات
إن المحاولات المتعددة للدولة من أجل سن قوانين تكبل حرية التعبير الرقمية، وتطوير أساليبها في المراقبة والتتبع لمعارضي سياستها، وإحصاء أنفاس المدونين ونشطاء النيت واعتقالهم، يفرض علينا فهما عميقا لإستراتيجية المراقبة الرقمية التي نسجتها كبريات شركات الشبكة العنكبوتية، والتي تستهدف الاستعباد المستقبلي لرواد شبكات التواصل الاجتماعي.
لا يبحث عمالقة الويب عن التقاط حياتنا وكشفها وإلباسها لبوس العملة النقدية والتعامل المالي كأقصى ما يتطلعون إليه، بل تجدهم يبحثون أيضا عن التنبؤ بسلوكياتنا والتأثير فيها؟ تلك هي الفرضية القوية التي تقدمها الجامعيّة الأمريكية شوشانا زوبوف ShoshanaZuboff في كتابها الذائع الصيت الذي يحمل عنوان “عَصْرُ رأسمالية المُرَاقَبة”، حاورناها فكانت الإجابات التالية:
مارتن لوغرو : نحن نعيش، بحسبكم، عصر “رأسمالية المراقبة”، فما الذي تريدين قوله بذلك؟
شوشانا زوبوف: قامت الرأسمالية وتأسّست، كما أبرز ذلك عالم الاقتصاد كارل بولايني Karl Polayni في كتابه “التحوّل الكبير” 1944 “La grande transformation”، على دينامية تدفعها إلى تحويل ما كان لحدود الآن خارج نطاق السوق، إلى سلع. وصار الأمر مع رأسمالية المراقبة مرتبطا بالتقاط وتصيُّد التجربة الإنسانية، لكي يتم استعمالها وتوظيفها كمادة أولية لأجل تحويلها إلى تنبؤات سلوكية يمكن استخدامها واستغلالها بدورها على صعيد سوق جديدة، إذ المفترض فينا أن نكون مستخدِمين لكل من غوغل Google وفايسبوك Facebook، غير أنّ هاتين المنصّتين الرقميتين plateformes تستعملان ما لديهما من معلومات حول سلوكياتنا الخاصة كي تعمل على تحويلها، اعتمادا على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، إلى تنبؤات سلوكية، بعضُ هذه المعلومات يمكن أن يتم استعماله لتطوير خدماتها وتحسينها، لكن القسم الأعظم منها يكتسب قيمته من وظيفته التكهنية.
مارتن لوغرو: هل لك أن تقدّمي لنا مثالا على ذلك؟
شوشانا زوبوف: يبتدئ هذا الأمر مع معدّل الضغطات «le taux de clics» clik-throughrate، بمعنى النسبة المئوية لمستخدمي الأنترنيت الذين يضغطون على إعلان الجهة المُعْلِنة عندما يشاهدون شاشات حواسيبهم. فهذا المعدل الذي تم تطويره من قبل غوغل سنة 2001، أتاح للشركات معرفة ما إذا كان إعلانهم يثير انتباه زبونها ومتى يحصل ذلك، ليفرض نفسه باعتباره حجر الزاوية لسوق الإعلانات على شبكة الأنترنيت la publicité en linge، وصولا اليوم إلى اجتياح الخوارزميات التكَهُنِيَّة لكلّ القطاعات وإغْرَاقها لها؛ حيث صِرْنا نتكهّن بسلوك المستهلكين في المتاجر الكبرى وبعاداتهم الغذائية والصحية، وبعادات سائقي السيارات، إلخ. وقد سبق لموقع فيسبوك في رسالة موجزة تعود إلى سنة 2018 أن زعم أنّ “مركز الذكاء الاصطناعي” الخاص به يعالج ملايير المعطيات يوميا كما أنّه قادر على إنتاج “ستة ملايين تكهّن أو تنبؤ بالسلوك الإنساني كل ثانية”. صحيح أنّ التكهن بالمستقبل شكّل تطلعا وأملا أساسيا للإنسانية، لكننا خلقنا الآلات تتغذى بالمعطيات بغاية التكهن بالسلوكيات اليومية للأفراد.
مارتن لوغرو: إنّ غوغل باعتباره رائد هذا التحويل لم يقم بالتخطيط له، فقد انبثق ذلك بكيفية عرضية كما يعرف الجميع…..
شوشانا زوبوف: إنّ المراقبة ليست بالمسجَّلة في أصل، أو إن صح القول في الحمض الأميني المنزوع الأوكسجين ADN الخاص بالثورة التكنولوجية، كما يمكننا تصوّر أشكال وصور أخرى لتنظيم العالم الرقمي. وفي هذا السياق كان المؤسِّسَان الأوّلان لموقع غوغل لاري بيج Larry Page وسيرجي برين Serguey Brin يحتقران الإعلان في البداية، وما كانت تريده هذه المنصة هو “تنظيم المعلومة العالمية وجعلها متاحة ومفيدة”، لكنها لم تكن تتوفر على زبائن ولا على سلع بالمعنى الدقيق للكلمة. ومع بداية الألفية الثالثة، صارت الفقاعة أو البالونة الرقمية مهددة بالانفجار. فكان أن هَدَّد المستثمرون بالانسحاب، إن لم تجد المقاولة أنموذجا اقتصاديا يكون أكثر مردودية. لذلك تم إعلان “حالة الاستثناء”، وتم استنفار مصالح البحث في ميدان الذكاء الاصطناعي لأجل إيجاد أداة تضفي القيمة على المعطيات وتجعلها مثمَّنَة… وفي يوم من أيام شهر أبريل نيسان من سنة 2002، انبثق حادث عرضي تمثّل في حدوث خمس ضَغْطات متعاقبة في خمس فترات من اليوم على نفس الطلب -“اسم الابنة الصغيرة لكارول برادي”- اسم شخصية من سلسلة تلفزيونية. والسؤال الذي تم طرحه أثناء البرنامج الذي أذيع على المناطق الزمنية الأمريكية الخمسة هو: من يريد ربح الملايين؟ ومن هنا انبثق إلهام مهندسي شركة غوغل! وهو أنّ طلبات المستخدمين يمكن أن يتم استعمالها كعلامات تتيح التكهن بالأحداث قبل أن تظهر على رادارات وسائل الاعلام التقليدية. إلى حدود الآن وبفضل خوارزمية رتبة الصفحة page Rank، تم توظيف الطلبات بهدف تجويد وتحسين سرعة المحرّك ودقته وملاءمته. والمعطيات العرضية والزائدة تمّ التعامل معها كـ “فضلات” déchets. فجأة تبين مرّة واحدة أنّها تنطوي بدورها على قوة تَكَهُّن أو تنبؤ مدهشة، لأنّ التجربة الإنسانية وقد تمت ترجمتها إلى معطيات، يمكن أن يتم تحويلها لتأخذ شكل تكهنات وتوقّعات سلوكية.
مارتن لوغرو: ألا يُختزل كل هذا ويُرَدُّ إلى تطوير الإشهار أو الاعلان؟
شوشانا زوبوف: إذا كانت المراقبة التي تتخذ لها هدفا [أو المراقبة التهديفية] قد ظهرت مع الإشهار، فإنّ الإشهار لا يمثل استعمالها الوحيد؛ حيث يمكن لكل فاعل يبحث عن التأثير في سلوكياتنا الاستفادة منها، مثلما رأينا ذلك مع فضيحة فيسبوك – كامبريدج أناليتيكا le scandale facebook – cambridgeanalytica التي كشفت عن القدرة على استعمال الأجهزة للتأثير في رأي المواطن، وهو ما سبق لفيسبوك أن طالب به منذ 2012 أثناء “تجربة عدوى العواطف”؛ فمن خلال إرسال كلمات باعثة على الحزن أو الفرح بخصوص مجرى الأحداث اليومية على الصفحات الخاصة بفريقين من المستخدمين للفايسبوك، صارت الشبكة قادرة على إثارة عواطف ومواقف مطابقة لتلك الكلمات. وقد عمل هذا المنعطف على إدارة وتحويل نسق المعرفة نحو السلطة؛ بمعنى أنّه قد صار في الإمكان ضبط السلوكيات وتجنيدها لأداء أدوار بعينها وتعديلها، حتى تكون للتكهنات درجة أعلى من الموثوقية.
مارتن لوغرو: تتناولين أيضا مثال لعبة البوكيمون جو Pokémon GO
شوشانا زوبوف: بوصفها لعبة تمّ طرحها في السوق من قبل شركة Nintendo وشركة البوكيمون ومخابر نياتيك NianticLabs، باعتبارها شركة فرعية سابقا لشركة غوغل GOOGLE ، ظهرت لعبة بوكيمون جو أول ما ظهرت باعتبارها لعبة واقع مُزَيَّدَة، لنكتشف فيما بعد احتواءَها على مُكَوِّن تجاري هو المتمثل في “الفضاءات الراعية” «lieux sponsorisés»؛ فشركات من قبيل شركة ماكدونالدز يمكن أن تدفع مقابل ظهورها من بين مواقع ميدان اللعب بهدف جذب اللاعبين إليها. ذلك ما شكل أحد مختبرات التجريب النوعية لرأسمالية المراقبة؛ إذ في الوقت الذي يعتقد فيه الناس أنهم يلعبون، يكون فعلهم موضوع استغلال وتوظيف من قبل مصالح اقتصادية يتمّ حجبها.
مارتن لوغرو: المراقبة ميكانزم أو آلية عاكسة ترسل لنا أفعالنا وحركاتنا في شكل توصيات، كما أنها آلية منتجة تحوّلُ الآثار الرقمية لسلوكنا في شكل تكهنات يتم بيعها لأطراف ثالثة. ومن أجل معالجة وَجْهي الظَّاهرة معا، نجدك تستعملين عبارة “التسليم”، فما الذي يعنيه؟
شوشانا زوبوف: إنها عبارة منحدرة من اللسان الفرنسي القديم؛ فمن المؤكد أنّ فعل “أرجع rendre” يدل في ذات الوقت على “فعل رَد ِّالجميل” وعلى “فعل الإنتاج” (بهذا المعنى نتحدّث عن إثمار الشجرة («l’arbre rend ses fruits»، وعلى تقديم الولاء كما هو واضح في تعبير (إعطاء لقيصر ما لقيصر «rendre à césar ce qu’est à césar»). فتحويل التجربة الإنسانية إلى غنيمة من طرف رأسمالية المراقبة يحمل كل هذه المعاني مجتمعة. فهي بمثابة سيرورة تقنية للرَّد والاسترداد بفضل الأجهزة اللاقطة التي توجد في طرقاتنا وسياراتنا وفي منازلنا وهواتفنا المحمولة؛ هكذا فاليومي الخاص بنا يتم تجميعه وضمه من قبل الذكاء الاصطناعي واسترداده في صورة “معطيات سلوكية” «données comportementales». لكنّها أيضا سيرورة اجتماعية للولاء؛ لأنّ الأنشطة الاجتماعية تقتضي وتستلزم مسبقا القيام بِرَدِّ تجْرِبتنا إلى منصَّة أو مسطَّحة رقمية plateforme numérique، وهو ما يتعيَّن علينا القيام به مثلا، لكي نلج إلى الواجبات المدرسية لأطفالنا، انطلاقا من المسطحة أو المنصة الرقمية التربوية للمدرسة، والتي يتم عرضها بالمناسبة في الولايات المتحدة الأمريكية من طرف شركة غوغل، ومن أجل الاطلاع على اختبارات دَمِنَا على المسطحة الرقمية الخاصة بالصحة، ونفس الشيء نقوم به من أجل تنظيم وجبة عشاء أو حتى لكي نتبادل عبر الوسائط الاجتماعية مع أصدقائنا الصور الفوتوغرافية التي التقطناها أيامَ العطلِ، هكذا ينتابنا في كل مرة الشعور بأننا مُلْزَمون بأن نجعل تجربتنا في المتناول. وعليه يكون من اللازم علينا أن “نُقدِّمَ ونقوم بتسليم” حيواتنا والتنازل عليها حتى يتم التقاطها من لدن قنوات تركيب الفائض السلوكي لرأسمالية المراقبة.
مارتن لوغرو: لماذا نشعر أننا ملزمون بفعل ذلك؟
شوشانا زوبوف: لأننا لا نُقدِّر أوّلا كل ما يستتبع ذلك ويترتب عليه حقَّ التقدير؛ فهذه التكنولوجيات تلج حياتنا بكيفية يتعذر كشفها. والإرشادات التي من المفترض فيها أن تصل إلى نيل الرضى والموافقة القائمة على الاستنارة والاهتداء بالمعرفة، لكن الحاصل هو أننا جميعا غارقون في لجّة لغةٍ ما عاد أحد يمتلك الوقت الكافي لقراءتها. كما أنهم أقنعونا فيما بعد بأنّ تقويض وهدم الحياة الخاصة قد صار أمرا ضروريا. أما إن تجرأتم على قول لا، فإنّ كل شيء سيتعطل. فعلى مستوى مجموعة البرامج الفرعية المنظِّمةNest thermostat ، باعتبارها نسقا للتدبير المنظَّم ذاتيا système thermostatique لغوغل، لو رفضت اقتسام معطياتك المنزلية données domestiques تتوقف الشركة عن تحيين البرنامج، والنتيجة هي أنّ قنواتك تصير مهددة بأن تتجمد المياه داخلها، وأجراس الخطر في كل منعطف تكون مهدَّدةً بإطلاق سيْلِ إنذاراتٍ دون توقف، ليكون بذلك اشتغال الخدمة وأداؤها الوظيفي مشروطا بخضوعنا الإرادي لمراقبة أحادية البعد وخفية وغير محدودة. ولكي ننجو من ضغط الإحساس بالعجز، نسارع إلى القول بأنّ الأمر عادي وطبيعي، وهو ما يدل على أننا عُزَّلُ من الناحية النفسية ومجرّدون من كل سلاح.
مارتن لوغرو: ترين أنّ العلاجات التي تم الكشف عنها من أجل حماية “ملكية” المعطيات أو “قابليتها للنقل”، كما هو الحال بالنسبة للقانون العام حول حماية المعطيات [RGPD] الذي تم وضعه من طرف الاتحاد الأوروبي، فهذه العلاجات أو الإجراءات مرّت، بنظرك، بمحاذاة المشكل ولم تواجهه، لماذا؟
شوشانا زوبوف: لأن المعطيات ليست فردية، وبالتالي لا يمكن حمايتها بكيفية فردية، فما يتم هو أننا نتصرف كما لو أنّ كل واحد منا يقول وينشر ويُرسل ويخَزِّن… إلخ. فيكون من الطبيعي أن نتساءل كيف نسترجع ونستعيد ما أعطيناه أو نُكافأ به ونُجازَى عليه. لكنّ الحاصل في الواقع هو أنّ المعطيات ليست شخصية، بل هي “منتوج مشتَّقproduit dérivé ” ، فلو نشرت صورة لوجهي على موقع للتواصل الاجتماعي، فهي من وجهة نظري لا تعدو أن تكون مجرّد صورة لي، لكن المُشَغّلات يمكنها أن تقارنها مع العشرات من الصور الأخرى الخاصة بي أو بصور أخرى توجد على شبكة الإنترنيت، والتي سيتم التقاطها واستشعارها في اليوم الموالي عبر الطرقات بفضل تقنية التعرف على الوجه. فبالنسبة إليهم صورة وجهي هي أيضا الآلاف العضلات التي تتيح تحليل عواطفي والتكهن بسلوكي. و”الفائض السلوكي” ليس مشتقا مما نعطيه ونقدمه فحسب، بل هو مشتق كذلك انطلاقا مما لم تكن لنا أدنى نيّة أو قصده لمنحه وتقديمه. فالبرامج الخاصة بتحديد المواقع الجغرافية logicielles de géolocalisation والتطبيقات التي تمتلئ بها هواتفنا، والتي تتيح استعمال أصواتنا وصورنا ومن نَتَّصِلُ بهم ومن يتَّصِلُون بهؤلاء…إلخ. كل ذلك يسمح بتجميع معلومات لم تكن لنا نية إفشائها، أو يتم انطلاقا منها استنباط سلوكيات لم تكن لنا نية كشفها. وبالتالي، فحتى لو تم تأمين المعطيات الشخصية بنسبة 100 %، وهو ما يبقى من باب المستحيل ما دام ليس هناك أحد يتوفر على ما يكفي من وقت وطاقة للقيام بذلك، حتى لو تحقق ذلك فإنّه لن يغطي إلا جزءا متناهي الدقة مما تم التقاطه واستشعاره.
مارتن لوغرو: يمكن لشركة غوغل الاعتراض على ذلك بأنّها لا تقوم ببيع المعلومات الفردية، بل المعطيات الجماعية المنتجة من قبل مُعَالِجَاتِها. والمستهلك يمكنه أن يرى أنّه يكسب من خلال ذلك معلومات دقيقة، كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة إلى المعلومات حول مخاطر إصابته بمرض…. وبإيجاز ألا يمكن لكل طرف أن يستفيد بشكل مشترك من عملية معالجة المعطيات؟
شوشانا زوبوف: لقد كان ذلك هو الحلم الأصلي للثورة الرقمية؛ بمعنى أن يستطيع المجتمع، بفضل كل هذه المعطيات، اكتساب كتلة من المعلومات تتيح له معرفة نفسه وإدارتها بشكل أفضل. وتلك هي الحجة التي تم الدفع بها من قبل رؤساء شركة غوغل. فكم من مرة سمعت إريك شميث Ericschmidt ، رئيسها ومديرها العام السابق يؤكد: “اطمئنوا نحن لا نبيع المعلومات الشخصية”. وإذا كانت معلوماتنا ليست إلاّ مادة أولية وخاما لمنتوج يتم اشتقاقه منها، فإنّ ذلك لا يحول دون جمع كتلة مهمة جدا من المعلومات من أجل ابتكار هذا المنتوج. وقد ابتدأ جمع المعطيات مع اقتصادات الحجم والنطاق économies d’échelle et de porté، فتم جمع معطيات أكثر عددا وتنوعا، غير أنّ شدة المنافسة فتحت جبهة جديدة هي المتمثلة في اقتصادات الفعل les économies d’action وقد كانت الفكرة الكبرى لها هي التدخل في سلوكنا لقيادته وتوجيهه بالشكل الذي يجعل فعلنا أكثر تطابقا مع التكهنات… ومتسقا مع حاجات السوق. وما نجم عن ذلك، هو أنّ تقويض الحياة الخاصة أصاب قدرتنا على الفعل والتصرف في مقتل وأثّر سلبا عليها. لكل ذلك نقول بأنّ المعلومة ـ بعيدا عن أن يتم استخدامها في علاج السرطان، أو تجنب الكارثة البيئية أو التخفيف من المجاعة في العالم ـ تبقى مفيدة في إرضاء الأهداف التجارية لزبائن خواصّ، وليس في خدمة أهدافنا نحن. والشيء الوحيد الذي يمكنه الحد من توسع رأسمالية المراقبة هو القانون، لكن في الولايات المتحدة على الأقل، ليس هناك أي قانون تمّ تصوره لمواجهة هذا التأثير. لقد صرنا أبعد ما نكون عن حلم غوتنبرغ باقتسام المعارف، وعُدْنَا القهقري إلى عصر ما قبل غوتنبرغ المطبوع بتركيز المعرفة والسلطة بين أيدي القلّة.
مارتن لوغرو: ترون أنّ المنصّات الرقمية تبحث عن إقامة “مناطق تجريب”، حيث يمكنها أن تعطي مسارا حرّا لطموحها إلى تعديل سلوكياتنا، فما هي “منطقة التجريب” المقبلة يا ترى؟
شوشانا زوبوف: المدينة هي التي تمنح فضاء مثاليا من أجل اختبار الكيفية التي يمكننا بها تعويض الحكم الديمقراطي بالحوكمةالخواريزمية la gouvernance algorithmique؛ فالشركة التابعة لغوغل GOOGLE Alphabet، SidewalkLabs التي تضع منذ سنوات أكشاك شبكة الوايفاي المجانية في المدن الكبرى، تضغط لكي تتوصل إلى اتفاق مع مدينة طورونطو Toronto، حتى تتولى تدبير وتسيير واجهتها البحرية. والإعلان الابتدائي عن هذا الاتفاق يشترط أن يتم النظر إلى كل ما يحدث ويجري في هذه المنطقة، واعتباره مسبقا على أنّه “معطى حضري Urbain Data «donnée urbain فسواء أكان ذلك داخل شقتك أم في سيارتك أم بالشارع أم في المقهى، وسواء أكان ذلك يخص الكائنات الإنسانية أم يتعلق بالحيوانات أم بالآلات، فإنّ كل ما يحدث في هذا المكان هو “معطى حضري” يمكن للجميع استعماله…. لكن وحدها شركة غوغل أو شركة أمازون على الأرجح، هما وحدهما من يكون قادرا على معالجته بكيفية فعّالة وتكهّنية.
مارتن لوغرو: تقولون بأنّ التدبير والتسيير الخوارزمي يتيح التهرب من القانون، بأي معنى يتم ذلك؟
شوشانا زوبوف: يتجمّع المواطنون داخل المدينة ويلجؤون إلى السياسة من أجل اتخاذ القرار بشأن الكيفية التي يريدون العيش وفقا لها عيشا مشتركا. لكن في المدينة –غوغل، يمكننا أن نتجاوز هذا الفن في تنظيم الصراعات. فبدلا من المناقشة التي تنعقد في المكان حول نوع الجوار الذي تريدونه، تكون الخوارزميات هي من يتولّى تحديد المعالم والإحداثيات الأجود لهذا الجوار، كما هو الشأن بالنسبة إلى مستوى الضوضاء المقبول. وعلى هذه الشاكلة تحُلُّ الحوْسبة المعلوماتية محلَّ التداول الديموقراطي. ولأن الرساميل الخاصة هي من بلور الخوارزميات، فلاشك أنها ستسير في اتجاه تفضيل وخدمة مالكي هذه الرساميل الخاصة.
مارتن لوغرو: إن المعطيات تبقى بدورها في حاجة إلى أن تكون متاحة للجميع حتى يتم تجويدها… وبالتالي، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما البديل؟
شوشانا زوبوف: من الواجب علينا التأكيد على مبدأ يقضي بحق كل شخص في أن يقرّر إمكانية استعمال معطياته وكيف؛ ففي الوقت الحالي ليس هناك من ضبط ديمقراطي للمراقبة، وهو ما يشكّل هجوما ضد السيادة الفردية يسهم في تركيز لا سابق له لسلطة تشكيل السلوك الإنساني وصياغته، أسميها بـ “السلطة الأداتية”؛ بمعنى تلك السلطة التي تقوم بتحويل شكل الحياة إلى مادة مطواعة وقابلة للتوظيف والاستغلال.
مارتن لوغرو: أليست هناك هوّة تفصل بين المراقبة التي تمارس في البلدان الديمقراطية ونظيرتها التي تمارس في الصين، بواسطة نظام “القرض الاجتماعي” مثلا؟
شوشانا زوبوف: ما يحدث في الصين هو أنّ “السلطة الأداتية” تخدم أهداف الدولة السلطوية، الشيء الذي يدفع إلى زحزحة وتحويل مجموع النسق عن الأهداف التجارية نحو أهداف اجتماعية وسياسية. وسبيل من هذا القبيل ليس سبيلا يتم فرضه من الخارج، بل هو مغروس وراسخ داخل مناهج وطرائق رأسمالية المراقبة نراه في الصين، لكن سبق لنا أن رأيناه مع كامبريدج أناليتكا Cambridge Analytiquaفي الولايات المتحدة.
مارتن لوغرو: لكن هل نموذج المراقبة في أساسه نموذج اقتصادي أم تراه نموذجا سياسيا؟
شوشانا زوبوف: إنه نموذج مجتمع لا يعتمد أكثر على الديمقراطية والمساواة، وإنما على معرفة غير متماثلة ولا هي بالمتقايسة وعلى سلطة أداتية قادرة على فرض انسجامها على المجتمع ويبقى الاتجاه في الغرب سائرا صوب استخدام السلطة الأداتية بغرض خدمة الأهداف الخاصة للسوق أكثر من خدمة الأهداف السياسية. لكن رأسمالية المراقبة تتجه نحو توسيع مناطق التجريب، حيث يكون في إمكانها صياغة السلوكيات وفقا لأسلوبها ونمطها، وهو ما سبق أن أدى إلى انتقال الاقتصاد إلى دائرة الحياة الخاصة. والسؤال الذي يفرض نفسه هو التالي: إلى أي حد سيصل اتساع وامتداد السلطة الأداتية، حتى تقيّم تحكّمها وترسي مراقبتها؟