الهجرة وصدام القيم الثقافية

◆ فيروز فوزي

ليست‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الغرب،‭ ‬المتقدم‭ ‬حضاريا،‭ ‬مجرد‭ ‬أسراب‭ ‬وأجيال‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬يغادرون‭ ‬أوطانهم‭ ‬الفقيرة‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬تؤمن‭ ‬معاشهم‭ ‬وتحفظ‭ ‬كرامتهم‭. ‬هي‭ ‬حيوات‭ ‬مكلومة‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬الأعم‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬هواء‭ ‬جديد‭ ‬وفرص‭ ‬أجد‭ ‬لترميم‭ ‬وجودها‭ ‬الإنساني‭ ‬حيث‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬الجوهر‭. ‬يرتد‭ ‬المهاجر‭ ‬عن‭ ‬أمه‭ ‬الأرض،‭ ‬عن‭ ‬وطنه‭ ‬الشاهد‭ ‬على‭ ‬صرخته‭ ‬الأولى،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬الجمل‭ ‬بما‭ ‬حمل‭.. ‬بل‭ ‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬حقائبه‭ ‬ونذوبه‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬ترسخ‭ ‬في‭ ‬عقله‭ ‬من‭ ‬نمط‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬والتفكير‭. ‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬سجلا‭ ‬حافلا‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬الأليمة‭ ‬والمترسبة‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬العقل‭. ‬يهاجر‭ ‬وكأنه‭ ‬يدير‭ ‬ظهره‭ ‬لوطن‭ ‬غادر،‭ ‬لأرض‭ ‬خؤون‭ ‬تضيق‭ ‬عن‭ ‬أحلامه‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬مسكنا‭ ‬يقيه‭ ‬العراء‭ ‬وشغلا‭ ‬يجنبه‭ ‬الفاقة‭ ‬والتسول‭. ‬

يبدو‭ ‬منذ‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬المهاجر‭ ‬يصبح‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬من‭ ‬مشاكله‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬تطأ‭ ‬قدماه‭ ‬بلد‭ ‬المهجر‭ ‬وبمجرد‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬عملا‭ ‬قارا‭ ‬ومسكنا‭ ‬يآويه‭. ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المشاكل‭ ‬تبدأ‭ ‬بالتفاقم‭ ‬نتيجة‭ ‬حالة‭ ‬الإغتراب‭ ‬التي‭ ‬تداهم‭ ‬الوافد‭ ‬الغريب،‭ ‬إذ‭ ‬تنجم‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬إجتماعية‭ ‬واقتصادية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬واردة‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭. ‬ولاسيما‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المهاجر‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الإنفتاح‭ ‬والتسامح‭ ‬مع‭ ‬محيطه‭ ‬الجديد‭. ‬

وقد‭ ‬تطورت‭ ‬دواعي‭ ‬وأسباب‭ ‬الهجرة‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يتدفق‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬العمال‭ ‬والحرفيين‭ ‬الذكور،‭ ‬وأغلبهم‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬فقيرة‭ ‬من‭ ‬شرق‭ ‬أوروبا‭ ‬أو‭ ‬آسيا‭ ‬وأفريقيا‭. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وتحديدا‭ ‬بداية‭ ‬الثمانينيات‭ ‬توالت‭ ‬أجيال‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬الطلبة‭ ‬والمهندسين‭  ‬ذوي‭ ‬الخبرات‭ ‬والكفاءات‭ ‬العالية‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬الهجرة‭ ‬عرفت‭ ‬تحولات‭ ‬بنيوية‭ ‬ببروز‭ ‬ظاهرة‭ ‬التجمعات‭ ‬العائلية‭ ‬التي‭ ‬أحدثت‭ ‬صدمة‭ ‬ثقافية،‭ ‬عصفت‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الأسر‭. ‬فمع‭ ‬نزوح‭ ‬عائلات‭ ‬عربية‭ ‬مسلمة‭ ‬إلى‭ ‬كندا‭ ‬واجه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأزواج،‭ ‬بسبب‭ ‬نقص‭ ‬في‭ ‬الكفاءة‭ ‬ومحدودية‭ ‬المؤهل‭ ‬الدراسي‭ ‬والعلمي،‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬المعضلات‭ ‬تتعلق‭ ‬باللغة‭ ‬وصعوبة‭ ‬الإندماج‭ ‬في‭ ‬النسيج‭ ‬الإجتماعي‭ ‬الكندي‭ ‬والولوج‭ ‬إلى‭ ‬أسواق‭ ‬الشغل،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬تعيش‭ ‬تحت‭ ‬الضغط‭ ‬والعجز‭ ‬عن‭ ‬إيجاد‭ ‬حلول‭ ‬للمشاكل‭ ‬المادية‭ ‬و‭ ‬النفسية‭ ‬والأسرية‭ ‬المتراكمة‭.‬

يحدث‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬تصدعا‭ ‬أسريا‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬ويدفع‭ ‬بأرباب‭ ‬الأسر‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬ذكور‭ ‬إلى‭ ‬إرغام‭ ‬زوجاتهن‭ ‬على‭ ‬تفريخ‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬النسل‭ ‬بهدف‭ ‬الإستفادة‭ ‬من‭ ‬التغطية‭ ‬الإجتماعية‭ ‬المتاحة‭ ‬للأسر‭ ‬المعوزة،‭ ‬وهي‭ ‬حيلة‭ ‬تتلائم‭ ‬مع‭ ‬استراتيجية‭ ‬الدولة‭ ‬الكندية‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬إعمار‭ ‬البلد‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬المستوطنين‭ ‬الجدد‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يثقل‭ ‬كاهل‭ ‬المرأة‭ ‬ويحولها‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬ربحية‭ ‬ويفقدها‭ ‬الإحساس‭ ‬بآدميتها‭.‬

ذاك‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬المهاجرة‭ ‬تهفو‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬إجتماعي‭ ‬مريح‭ ‬ينسيها‭ ‬حياة‭ ‬النكد‭ ‬والعوز‭ ‬التي‭ ‬لازمتها‭ ‬لسنوات‭ ‬طوال‭ ‬بالوطن‭ ‬الأم،‭ ‬فتصبح‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الإكتئاب‭ ‬والضيق‭ ‬مما‭ ‬يحيق‭ ‬بها‭. ‬أيضا‭ ‬إنفتاح‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬المسلمة‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الكندي‭ ‬والإنخراط‭ ‬في‭ ‬برامجه‭ ‬الإجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬غيضا‭ ‬لدى‭ ‬الزوج‭ ‬الشرقي‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬أن‭ ‬تنقاد‭ “‬الحرمة‭” ‬وراء‭ ‬مغريات‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬بل‭ ‬يرفض‭ ‬رفضا‭ ‬قاطعا‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬عصمته‭ ‬أو‭ ‬تفكر‭ ‬يوما‭ ‬في‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬سلطته،‭ ‬ظنا‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬حرية‭ ‬الزوجة‭ ‬تفقد‭ ‬الرجل‭ ‬هيبته‭ ‬وتمس‭ ‬بفحولته‭. ‬

هي‭ ‬إختلالات‭ ‬كبيرة‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬هجرة‭ ‬سليمة‭ ‬وتتسبب‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المآسي‭ ‬الأسرية،‭ ‬تؤدي‭ ‬ثمنها‭ ‬المرأة‭ ‬المغلوب‭ ‬على‭ ‬أمرها‭ ‬والأبناء‭ ‬أمام‭ ‬حالات‭ ‬الشقاق‭ ‬والطلاق‭ ‬المتزايدة‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الجاليات‭ ‬العربية‭ ‬المسلمة‭. ‬

وتفيد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التقارير‭ ‬التي‭ ‬أنجزتها‭ ‬بعض‭ ‬المراكز‭ ‬البحثية‭ ‬المتخصصة‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الهجرة‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬الطلاق‭ ‬تبقى‭ ‬عالية‭ ‬نسبيا‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الجاليات‭ ‬العربية‭ ‬بسبب‭  ‬الضغوطات‭ ‬التى‭ ‬تتعرض‭ ‬لها‭ ‬المرأة‭ ‬المهاجرة‭. ‬فالهجرة‭ ‬من‭ ‬زاويتها‭ ‬القاتمة‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬أوضاع‭ ‬مأساوية‭ ‬بسبب‭ ‬سيادة‭ ‬العقلية‭ ‬الذكورة‭ ‬المتسلطة‭ ‬والتي‭ ‬تمنع‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬التمتع‭ ‬بحقوقها‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬متقدم‭ ‬يصون‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬حرية‭ ‬غير‭ ‬محكومة‭ ‬بالتقاليد‭ ‬والنواهي‭ ‬المجحفة‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الإنسانية‭. ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬يرضخن‭ ‬للأمر‭ ‬الواقع‭ ‬ولا‭ ‬تشكل‭ ‬الهجرة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهن‭ ‬منفرجا‭ ‬لتحسين‭ ‬أوضاعهن‭ ‬المادية‭ ‬والحقوقية،‭ ‬بل‭ ‬تسوء‭ ‬في‭ ‬أحايين‭ ‬كثيرة‭ ‬وتفضي‭ ‬إلى‭ ‬عاهات‭ ‬نفسية‭ ‬مدمرة‭. ‬بعض‭ ‬النساء‭ ‬يخترن‭ ‬الممانعة‭ ‬والمقاومة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنعتاق‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬الزوج‭ ‬المتجبرة،‭ ‬مما‭ ‬يجعلهن‭ ‬أمام‭ ‬خيار‭ ‬أبغض‭ ‬الحلال‭ ‬وقد‭ ‬يعرض‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬أطفال‭ ‬الأسر‭ ‬المتصدعة‭ ‬إلى‭ ‬مآلات‭ ‬تضر‭ ‬بصحتهم‭ ‬النفسية‭.‬

فالهجرة‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬هي‭ ‬هجرة‭ ‬عقليات‭ ‬تصطدم‭ ‬بالواقع‭ ‬الجديد،‭ ‬و‭ ‬بالقوانين‭ ‬والأعراف‭ ‬الحديثة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬حيث‭ ‬تؤول‭ ‬فيها‭ ‬السيادة‭ ‬للقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات‭ ‬وحيث‭ “‬الذكورة‭” ‬أو‭ “‬الفحولة‭” ‬لا‭ ‬تعدو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حالة‭ ‬بيولوجية‭ ‬حيوانية‭. ‬يكون‭ ‬أمام‭ ‬الوافدين‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬المهجر‭ ‬خياران،‭ ‬إما‭ ‬الإنخراط‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬القيمية‭ ‬الجديدة‭ ‬والإيمان‭ ‬بها‭ ‬تنظيرا‭ ‬وتنزيلا‭ ‬وإما‭ ‬اجترار‭ ‬قيم‭ ‬وأعراف‭ ‬الوطن‭ ‬الأم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬من‭ ‬تناقضات‭ ‬وأعطاب‭ ‬حد‭ ‬الإخلال‭ ‬بالقوانين‭ ‬والقيم‭ ‬الكونية‭. ‬

أمام‭ ‬هذا‭ ‬الإختلال‭ ‬البنيوي‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬الذي‭ ‬يعتور‭ ‬بعض‭ ‬العقليات‭ ‬المهاجرة‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬التأطير‭ ‬الإجتماعي‭ ‬والمواكبة‭ ‬الصحية‭ ‬لمساعدة‭ ‬الأسر‭ ‬الهشة‭ ‬وتيسير‭ ‬سبل‭ ‬الإندماج‭ ‬السلس‭ ‬والتأقلم‭ ‬مع‭ ‬البيئة‭ ‬الجديدة‭ ‬لتلافي‭ ‬كل‭ ‬أعطاب‭ ‬الهجرة،‭ ‬وهي‭ ‬مسؤولية‭ ‬الجمعيات‭ ‬والمراكز‭ ‬والمؤطرين‭ ‬الإجتماعيين‭ ‬لقيام‭ ‬بأدوار‭ ‬الوساطة‭ ‬الإجتماعية‭ ‬وتقديم‭ ‬حلول‭ ‬ناجعة‭ ‬لرأب‭ ‬التصدعات‭ ‬الأسرية‭ ‬المحتملة‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬المهاجرين‭. ‬

◆‭ ‬فيروز‭ ‬فوزي‭ – ‬مونتريال‭ ‬كندا

رئيسة‭ ‬المعهد‭ ‬الكندي‭ ‬المغربي‭ ‬للدراسات‭ ‬والأبحاث‭ ‬حول‭ ‬الهجرة‭ ‬والتفاعل‭ ‬الثقافي‭ ‬ICER2I‭.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى