الزوايا بالمغرب: السياسة والدين وبناء الدولة
◆ محمد بنطاهر
ليس الغرض من هذه المساهمة استحضار الوظائف الدينية والسياسية لحركة الزوايا بالمغرب بإسهاب، ولا وصف التنظيمات الطرقية بشكل دقيق، وإنّما الهدف هو تتبع تأثيرات بعض الزوايا الكبيرة من الناحية السياسية والإيديولوجية داخل مؤسسة السلطة، وذلك من خلال الإشارة للأسباب المتحكمة في اختلاف توجهات السلاطين في التعاطي معها.
ومن بين المسائل التي استوقفتنا ودفعتنا لدراسة هذا الموضوع سببين، الأول ذاتي والثاني موضوعي.
– السبب الذاتي: تمثل في سلوك الزوايا الاجتماعي وقدرة بعضها على لف أوسع عدد ممكن من المواطنين وقدراتهم على التعبئة الشعبية لمصلحة المخزن في آخر المطاف، وامتصاص السلوك “السلبي” الطبقي وتحويله إلى سلوك “إيجابي” مخزني على حد تصورهم، والدور الذي يلعبه الإسلام السياسي في تحديد التوجيهات المخزنية الحالية والمهام المطروحة على قوى التغيير.
- السبب الموضوعي : من خلال الاطلاع على عدد كبير من الكتب التي تناولت الزاوية، لاحظت أن معظمها اعتمد على الوصف بدون إبراز العلاقة الوطيدة مع الإسلام السياسي، ولهذا حاولت إجراء هذه الدراسة حتى تكون مدخلا لمن يشتغل على مثل هذه المواضيع.
وللتذكير فقد ازددت وترعرعت في أحضان زاوية سيد الهبري، والتي كانت طول حياتي وإلى سن 27 سنة، كان مقدمها جدي السي إدريس لمقدم. والاهتمام بالزوايا وعلاقتها مع الدولة، جاءني مبكرا لخاصية مهمة وهي دورها في بناء الدولة، وجزء منها في مقاومة المستعمر إذ كانت هاته الزاوية معروفة بوطنية قياديها ومقدميها. فرفضت التعاون مع المستعمر الفرنسي وقاومته ومنهم الأب والأعمام الذين رفعوا السلاح في منطقتهم بعين بني مطهر، والذين اختاروا هذه الزاوية كملجأ ديني، روحي، اجتماعي ووطني.
وسوف يتبين لنا من خلال هذا العمل أن الثابت عند كل هذه الزوايا هو العلاقة مع الدولة والمخزن وأن عامل التشكيل الطبقي لم يكن محددا أو حاسما أكثر من عامل الإصلاح والديني والاجتماعي في استمرار ترسخها في تاريخ المغرب وبين فئات الشعب.
الزوايا وعلاقتها بالحكم القائم
لعبت الزوايا في المغرب دورا مهما بالعلاقة مع العائلات الحاكمة بالمغرب واحتلت مكانة مهمة في تدبير الشؤون الدينية والعشائرية والقبيلة بطلب ودعم من الأسر الحاكمة وذلك منذ القرون الوسطى، حيث أن بعضها نشأ في القرن الخامس الهجري. فاستندت الأسر الحاكمة على شرعيتها الدينية واعتمدت عليها في حل المشاكل الاجتماعية والدينية وأشركتها مباشرة أو بشكل غير مباشر في تدبير السلطة المحلية، حسب احتياجاتها وحسب الأزمات التي تحدث بين القبائل، وحققت بتدخلها هدوءا خدم مشروعها بالاستيلاء على السلطة، واستمر العمل معها إلى يومنا هذا، ودعمت الحكم على اعتبار مشاركتها مع السلطة الحاكمة في الأصول الشريفة نفسها. ولعبت الزوايا دورا مهما في المشاكل والتمرد الذي تعرضت له الأسر الحاكمة والسلطات المنبثقة عنها، فحملت الزوايا سلاح الجهاد إذا احتاجت له الطبقات الحاكمة وكافحت لحمايتها، كما لجأت إلى أعمال اجتماعية وخيرية في زمن السلم لتتبنى خطط تربط فيها علاقة سلمية مع المواطنين، من خلال الدعم المالي والهبات التي تحصل عليها من طرف الناس المخالفين والمساندين لها، حيث راكمت أموالا طائلة، كان يوزع جزء منها على الزائرين والمحتاجين المغاربة والأجانب، حيث تستقبل الزوايا في مواسمها أفواجا عديدة من المعتكفين من الداخل والخارج، واستعملت كمأوي للمشردين والتائهين الذين يبحثون في الغالب عن غداء أو مكان للنوم، والمتبركين، وطالبي الخير والسائحين الدينين ولاحقا المستعمرين الذين مهدوا الطريق للاستعمار واحتلال البلاد. لم تكن الزوايا في نشأتها مهيكلة كما أصبحت بعضها عليه الآن، وسنشير إلى كيفية هيكلتها ولعبها دورا سياسيا واجتماعيا في التشكيلة الاجتماعية المغربية، فتحولت تارة إلى سند للسلطة الحاكمة وتارة إلى خصمها، وتحالفت مع العائلات الصاعدة التي كبرت وأصبحت مستولية على زمام الأمور. يقول عبد الله ستيتو (في مقاله القيم حول الزوايا) : “إذا كانت بلاد المشرق هي بلاد الرسل والأنبياء، فإن بلاد المغرب هي أرض الصالحين والأولياء”. فالمغرب عرف ازدهارا متواصلا للزوايا، إذ ترعرع بكثرة نشاط الأولياء والصالحين، وانتشارهم في أرجاء المغرب بطقوسهم وعاداتهم ومواسمهم السنوية لم يقتصر على منطقة معينة. وقد أجمع الباحثون أن من أشهر الزوايا نجد الزاوية الدلائية والزاوية الناصرية والزاوية التيجانية وزاوية سيد الهبري بشرق المغرب والزاوية البودشيشية، و ذكرت دراسة أكاديمية مغربية أن عدد الزوايا والطرق الصوفية يجاوز 140 زاوية وطريقة في أنحاء المغرب برعاية حكومية، وقد تطورت مع الزمن من محاولة لضبط كل ما يتعلق بالمجال الديني إلى توظيف في مسعى لإيجاد توازنات سياسية. وتشير الدراسة إلى أن الزاوية الدينية الطريقة التيجانية تؤطر 43 زاوية، والطريقة القادرية البودشيشية حوالي 20 زاوية. ولا يمكن فهم تاريخ المغرب دون التطرق لها والدور الذي لعبته في مختلف المراحل والحقب بحيث لا يمكن فهم هذا الماضي دون استحضار هذا العامل الذي ظل حاضرا في خاصيات الزوايا والرابطات و شيوخ الزوايا والمتصوفين والطرقيين.
الدور الديني للزوايا ووظيفتها السياسية مند أمازيغ ما قبل الإسلام
عرف المغرب ظاهرة المزارات المقدسة قبل الفتح العربي الإسلامي، وعرف الأمازيغ بتعدد المزارات، منها من هو وثني، ومنها من هو يهودي ومنها من هو يسوعي إلى غير ذلك، وحسب إدوارد ميشو بلير(أنظر بحث محمد اسهيلي مفهوم الزاوية داخل المجتمع المغربي عند إدوارد ميشو بلير) شكل المغاربة منذ قرون وقبل الإسلام دينا مغربياً أكثر تسامحاً مع الثقافات الأخرى، وتعايشوا مع باقي الأديان السماوية وسمحوا لها في أن تشكل هويته الروحية المتعددة. (إلهام الطالبي: يهود ومسلمون مغاربة يتبركون من نفس الأولياء). واستمرت هذه العلاقة إلى يومنا هذا واستمر التعامل مع الأولياء والصالحين والمزارت بنفس الطقوس ونفس الارتباطات العقائدية، وتقدم لهم قربانا وهدايا مختلفة يتصرف فيها أشخاص وجماعات لها خصوصيتها وتأثيراتها وتحقق أو لا تحقق المقصود من زائريها والوافدين عليها. ويشرح محمد شقير في بحثه منافسة الزوايا للسلاطين، حيث أن احتدام التنافس السياسي بين السلطة المركزية والزوايا، وصل حد عمل كل من الطرفين على استمالة أكبر عدد من الناس من خلال انتهاج سياسة ما يمكن تسميته بـ “ملء الأفواه والبطون لاستقطاب العقول” ، حسب قوله، فعمل عدد من الملوك والسلاطين على الواجهة الاجتماعية لإطعام ذوي الحاجات واستقطابهم من أجل المحافظة أو الدفاع على سلطتهم ضد خصومهم وأعدائهم. فعلى سبيل المثال، عمل السلطان أبو عنان المريني على تأسيس عدد من الزوايا خاصة بفاس. وبإقامته لزوايا كثيرة بالمغرب، جاءت “بمعالم عمرانية ذات هندسة رقيقة، وآيات فنية يقل نظيرها، شبيهة بمدارس فاس التي تشهد بعظمة الدولة المرينية”. (نفس المرجع).
الأهداف التاريخية والاجتماعية للزوايا ودورها في السلطة
عرف المغرب فترات الاستقرار السياسي كما عرف فترات سياسية اتسمت بالصراع، أو الفراغ في السلطة، أو أزمات ناتجة عن الحالة الطبيعية والجفاف وقلة الغلة الفلاحية وانتشار الأوبئة والأمراض، واجتياح الحشرات كاجتياحات الجراد والقحط والطوفان أو الفيضانات، وغيرها من الكوارث التي كان لها تأثير كبير على السلطة وتدبيرها، وأصبح أساس المعاش لعدد من القبائل والعشائر واحتداد الصراع موضوع السلطة المركزية المخزنية، أو الإطاحة بها في مسلسل من الحقب التاريخية التي لعبت فيها الزوايا دورا مهما. في الجانب الآخر شكلت إطارًا لتوزيع النفوذ المخزني، حيث عملت الدولة على استمالة الزوايا، وتوطيد العلاقات مع شيوخها لتوسيع سلطتها على القبائل الأمازيغية أو العربية أو بلاد السيبة وعلى بسط سلطانها عليها، و كذلك منح شيوخ الزوايا نوعا من التوقير والاحترام، وهكذا استغلت نفوذها لتقليص بلاد السيبة، ولا ننسى تلك العلاقة المتوترة أحيانًا بينها وبين بعض قيادات الزوايا. إضافة إلى أن الزاوية تشكل نوعًا من الإسلام المحلي، بحيث من خلالها يتم استحضار الحياة الاجتماعية المحلية، ويختلط فيها الإسلام ببعض العادات والتقاليد الما ـ قبل إسلامية، وبالخصوص في المناطق الأمازيغية منها، وكما يعتقد ميشو بلير إضافة إلى أنها تشكل نوعًا من الإسلام المحلي، تعبر في نفس الوقت على نوعِ من الوطنية الفطرية. كما أن الزاوية عند ميشو بلير تعتبر سلطة مركزية إلى جانب سلطة المخزن، وقاعدة تنظيمية للمجتمع، إلى جانب دورها الاقتصادي والسياسي. (محمد اسهيلي – حول مفهوم الزاوية عند الشعب المغربي..). ولا ننسى في هذا السياق العامل الخارجي والحروب ضد الأعداء ذوي الأهداف الاستعمارية، سواء مشرقية من العالم العربي أو الأوروبية خصوصا الأيبيرية أو غيرها. فتحركت نزعة الدفاع عن الوطن عند بعض الزوايا وأتباعهم للترصد للأخطار الخارجية المحدقة والتي تهدد الوحدة الوطنية وسلطتها القائمة.
الزاوية الشاذلية وضعف السلطة السعدية والوطاسية
تعتبر الطريقة الشاذلية من أقوى الطرق في المغرب، إذ واكبت ابتداء من القرن ال 13 الميلادي ضعف السلطة المركزية المرينية والوطاسية وفتحت الباب على مصراعيه لصعود قبائل وزوايا أخرى في مواجهة الاعتداء المسيحي والإيبيري على أرض المغرب، فتبنتها الأوساط الشعبية كباقي الزوايا وأصبحت واسعة الانتشار بحضورها، ولها تأثير مستمر منذ تطور الطرق في المغرب، ووجد فيها المغاربة ما يقود جهادهم وصمودهم ضد الأعداء الخارجيين، وأصبح من الصعب التمييز بين ما كان مرتبطا بالعامل الديني وما كان سياسيا في توجهات هذه الزوايا.
ظهور الطريقة الجازولية
تأسست الزاوية الجازولية على حساب الزاوية الشاذلية بعد اغتراب مؤسس الزاوية الشاذلية إلى مصر، وساهمت في صعود السعديين إلى مرتبة السلاطين و تكوين الدولة. كما جعلت من مراكش عاصمة السعديين ومركزا للطرق و للزوايا وأسسها زعيمها محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر الجز ولي، المتوفى عام 1465م/870هـ، والذي ساند قيام الإمارة السعدية وكان في حالات متعددة يلعب الدور المنوط بالسلطان، إذ لجأ المغاربة إليه للخروج من تبعات الهجمة الأيبيرية، بعد احتلال العديد من المدن والمناطق المغربية كأﮔـادير (1405م)، ومليلية (1509م)، وسبتة (1415م) وغيرها. (ورد في سرد عبد الله ستيتو). وقد تبنت الزاوية كنمط للحكم أدلجة النسب الشريف، وتأسيس الشرعية السياسية على الانتماء إلى آل البيت، وسياسة الإعفاء من الضرائب ومغربة التصوف وجعله في وجه التصوف المشرقي المتمثل في القادرية كإيديولوجية لأتراك الجزائر، المنافسين للسعديين ومحاربة الطرق التي لا تنتمي إلى الجزولية أو الشاذلية (برومي عبد الوهاب – الطرق الصوفية في الريف الشرقي). وكان للمؤسس عدة مريدين وأتباع ولم يكونوا إصلاحيين كلهم، إذ شابت عملهم مجموعة من الشوائب ومنهم العزيز التباع، وهو من الرجال السبعة في مراكش (ت.1508م). والشيخ زروق (مات سنة 1519م)، والذي أسس الطريقة الزروقية. والشيخ مولاي عبد الله الشريف مؤسس الزاوية الوزانية، وهو من أحفاد بن مشيش، الذي ظهر بقيام الدولة العلوية بتافيلالت.
الزوايا وسقوط الدولة السعدية : الزاوية الدلائية
تشكلت الزاوية الدلائية، يقول الكاتب محمد حجي في أطروحته القيمة سنة 1963 “الزاوية الدلائية ودورها الديني والسياسي (انظر كتب محمد حجي ص 12 طبعة 1987)” و حيث يرد في قراءة عباس زعري لكتابه، “ينتسب الدلائيون إلى قبيلة مجاط أحد فروع صنهاجة، وقد رفع أحد المؤرخين نسب الدلائيين إلى أبي بكر الصديق، ويعتبر”الشيخ أبو بكر بن محمد بن سعيد الدلائي، المؤسس الفعلي للزاوية الدلائية بتادلة عـــام (974ه/1566م)، بإشارة من شيخه أبي عمر القسطلي، وقد تضاربت الروايات حول موقع الزاوية بسبب تخريبها وطمس معالمها، وظل الغموض سيد الموقف إلى أن جاء الأستاد محمد حجي، الذي أكد أن هناك زاويتين قديمة وحديثة لا تزال أطلالها قائمة الذات حتى اليوم، فالزاوية القديمة أسسها أبو بكر الدلائي، أما الزاوية الحديثة أسسها محمد الحاج الدلائي، والتي قامت عليها زاوية آيت إسحاق الحالية. وقد أسس الزاوية بالسير على نهج شيخه، من تعليم أصول الدين وإطعام الزوار وإكرامهم، وعرفت الزاوية انتشارا واسعا، وتمكنت من تأسيس إمارة كبيرة، وقد شهدت الزاوية الدلائية في بداية عهدها العصر الذهبي للسعديين، ثم أدركت زمن الفتنة والتدهور، غير أنها نظرا لمناعة موقعها في جبال الأطلس ولمكانة رجالها الصالحين، استطاعت أن تحتضن الثقافة الإسلامية في عصر عصفت فيه الاضطرابات بالمراكز العلمية التقليدية مثل فاس ومراكش. وعمرت الزاوية الدلائية زهاء قرن ظلت فيه مركز إشعاع للعلم والدين. وستتقوى الزاوية الدلائية بسقوط الدولة السعدية، حيث ستتمكن من الهيمنة على الأطلس المتوسط وفاس، والسيطرة على مناطق واسعة وعلى السواحل أيضا، كانت الزاوية الدلائية قوية، وهو ما سمح لها بعقد علاقات تجارة مع دول أجنبية، وسيبرز طموحها السياسي ومعارضتها لسلطة (المخزن) وهو ما جعل السلطان الرشيد يقوم بهدم الزاوية الدلائية القديمة والزاوية التي تفرعت عنها، وما زالت بقايا الزاويتين قائمة إلى يومنا هذا.
الزوايا في فترة السلطة العلوية : صراعات الزوايا والسلطة
في العهد العلوي ظهرت بالمغرب ثلاث طرق صوفية متتابعة تطورت بسرعة كبيرة في جميع جهات المغرب، وهي الطريقة الناصرية و الطريقة الدرقاوية والطريقة التيجانية، ورغم كل ما لعبته من أدوار في المغرب كتفقيه الناس في أمور دينهم، وتلقينهم مفاهيم الطريقة، بجانب هذه المهام الدينية كانت الزاوية تقدم دروسا في الآداب والحكمة لتابعيها. أما في المناطق التي بها تمثيل ضعيف للسلطة المخزنية أو غياب لهذه السلطة، فإن الزوايا كانت تقوم فيها بالأدوار التحكيمية في النزاعات والخلافات بين القبائل، وكانت تملأ الفراغ السياسي الذي يخلفه غياب السلطة المخزنية وخاصة في المناطق الحدودية النائية، مثل مناطق الجنوب الشرقي؛ بحيث لعبت الزوايا هناك أدوارا طلائعية في تأطير السكان واستنهاضهم ضد الغزو الفرنسي للأراضي المغربية، كما كان للزاوية حضور هام في تحديد مجالات الرعي والانتجاع وتوزيع المياه في المناطق الصحراوية والمتصحرة، وبذلك فالزاوية تم الاعتراف بها كمكان مقدس، له حرمة لا يمكن انتهاكها بأي حال من الأحوال، فظلت قبلة للملهوفين، وملجأ آمنا للفارين من التسلط المخزني أو من العقوبات الثقيلة المفروضة عليهم، الشيء الذي جعل الزوايا ذات حساسية كبيرة بالنسبة إلى ممثلي المخزن، كالخلائف والعمال والقياد، الذين بدءوا يتقربون منها لاستغلالها في ضبط مجالاتهم القبلية، فظل شيخ الزاوية دوما آلية من آليات استمرار قياد المخزن في القيام بوظائفهم؛ لأنه يضفي عليهم نوعا من الشرعنة، ويزكيهم لدى السلطان وخليفته ما دام هؤلاء الصلحاء والمرابطون يتوفرون على تزكية دائمة من خلال ظهائر التوقير والاحترام، والتي كان يخصهم بها سلاطين وملوك الدولة المغربية من حين لآخر(أطروحة احمد البوزيدي لنيل دكتوراه الدولة – عبد الله ستيتو – المقال أعلاه)، إدراكا منهم للأدوار الحيوية التي تلعبها هذه المؤسسات بالنسبة إلى دعم السلطة المركزية في المجالات القبلية، التي كان من الصعب على المخزن اقتحامها، لولا هذه الزوايا التي أسهمت في تحقيق الوحدة السياسية للبلاد في ظل التواجد المخزني، وخاصة بعد التغلغل الأجنبي في المغرب، إلى درجة أن بعض شيوخ الزوايا تحولوا إلى قياد مخزنيين؛ كما كان الحال مع شيخ زاوية تازروالت ابن الحسين بن هاشم، الذي عينه السلطان مولاي الحسن قائدا على منطقة تازروالت عام 1886م/ 1304هـ، وبذلك استطاع التحكم في مجال قبلي ضخم وصعب المراس، يتكون من عدة قبائل غاية في الخطورة؛ مثل قبائل ماسا، وقبائل آيت باعمران، وقبائل مجاط، وأهل الساحل، وإيدا وطيط، وقبائل أخصاص، وغيرها، ونفس الشيء قام به السلطان المولى الحسن الأول تجاه الزاوية الناصرية عندما عين عليها الشيخ محمد الحنفي لمساعدته على ضبط الشؤون الدرعية.(انظر المرجع أعلاه – ع. ستيتو).
الزاوية التيجانية
تعتبر الزاوية التيجانية من الزوايا الصوفية أيضا الأكثر شهرة في المغرب والجزائر وبعض دول أفريقيا. تأسست على يد أبي العباس بن محمد بن المختار بن أحمد سالم التيجاني، الذي ولد بالجزائر وتوفي بالمغرب، وتلقى تعليما صوفيا ونشأ في حضرة الزاويا الدرقاوية والناصرية والوزانية، وهو ما أثر في تكوينه الفكري والديني مؤسسا بذلك طريقة تعرف انتشارا واسعا جدا اليوم. انتقل الشيخ التيجاني من الجزائر إلى المغرب فارا من اضطهاد الأتراك واستقر بفاس بالمغرب، وتلقى ترحيبا من السلطة الحاكمة وعناية خاصة من السلطان سليمان، وكان يعتبره ذا حظوة إلهية خاصة. أتى الشيخ أبو العباس التيجاني بأمور جديدة في نهجه الصوفي، وتجاوز طابع الزهد والتقشف الذي كان يعرف بها الزهاد والمتصوفة، بل إنه كان يؤمن بالعيش الرغيد في الدنيا والآخرة، وهو ما يفسر اتساع دائرة مريديه، حيث شملت التجار والأثرياء والراغبين في حياة الغنى والترف في الحياة الدنيا قبل الآخرة. من بين أهم ما تؤمن به الطريقة التيجانية، وصول المريد إلى درجات عليا من الصفاء الروحي الذي يوصل إلى لقاء حسي ومادي مع النبي محمد حسب زعمهم، وهو ما تمكن من الوصول إليه الشيخ التيجاني في لقائه مع النبي محمد، والذي خصه وأتباعه بصلاة “الفاتح”، وعلى هذا الأساس أيضا يتم التشديد في شروط الانتساب إلى الطريقة التيجانية، لأن من يلتحق بها لا يحق له الخروج منها أو الالتحاق بطريق أخرى. تعتمد الطريقة التيجانية -كغيرها من الطرق الصوفية- على الذكر والصلاة وقراءة الأوراد، وتبدأ بعض طقوسها بعد صلاة العصر بجوهرة الكمال التي تميز هذه الطريقة، وذلك لأن مريدي هذه الطريقة يؤمنون بأن الشيخ التيجاني تلقاها شخصيا ومباشرة من الرسول محمد حسب قولهم، ولذلك فروح النبي تنزل خلال الاستغفار والتهليل وترديد “جوهرة الكلام”. ثم تليها “صلاة الفاتح” وهي الصلاة التي يؤمن التيجانيون بأن الله أنزلها مع ملَك إلى الرسول محمد. (ع. استيتو نفس المقال). ظلت الزاوية التيجانية إلى يومنا هذا متمسكة بالأسس والمقومات الروحية الأولى التي جاءت مع الشيخ أحمد التيجاني، وركزت على تقديسه وتبجيله وتمجيده، وحافظت على طريقته في التلاوة والذكر والصلاة، ويعد المنتسبون للطريقة التيجانية اليوم بالملايين، ويتعدى وجودهم دولتي المغرب والجزائر إلى دول في أفريقيا وعدد من دول العالم.
الزاوية الدرقاوية الهبرية
مؤسسها هو الحاج محمد الهبري العزاوي، وهو سيدي محمد بن قدور الوكيلي نسبة الى عبد الله بن عزة من آل البيت الإدريسي، دفين قسم بني خالد، وينقل الرواة أن الحاج محمد الهبري المذكور أخذ السر عن زاوية كركر التي كان يرأسها مولاي العربي الدرقاوي. وهذه الزاوية واقعة في الريف من قبيلة تمسمان، وفي ملحقة اعزيب ميضار إقليم الناظور. توجد هذه الزاوية بالضريوة، والتي هي من ملحقات أحفير على الحدود المغربية الجزائرية وقريبة من السعيدية. فالشرفاء أولاد سيدي عبد الله بن عزة كانوا معروفين بالبطولة وقيادة القبائل قيادة سياسية، وعلى الخصوص منهم أولاد المجدوب. ولكن الحاج محمد الهبري هذا يحكى عنه انه لما حفظ القرآن الكريم وشب كان يمارس الأوراد والأذكار إلى جانب الأوراد الخاصة بتسخير الجن، ويحكى عنه أيضا انه بلغ في ذلك مستوى ملحوظا. وقد ظهر له أثناء هذه الحياة في عالم الأوراد والجن، أن ينقطع إلى العبادة وممارسة تعاليم التصوف، فرحل إلى زاوية ” كركر ” المذكورة، وأخذ السر عن رئيسها. وأن هذا الأخير أمره بإنشاء زاوية في بني يزناسن وفتح أبواب الأسرار في وجوه المريدين. وعملا بهذا “الأمر الإجباري” أنشأ له زواية الضريوة ودعيت بزاوية الهبري أو الزاوية الدرقاوية. ولقد وقع إقبال عظيم على هذه الزاوية حتى أن الأغلبية الساحقة من بني يزناسن مرتبطة بزاوية الهبري، وأكثر البطون إقبالا عليها: التاكميون من بني وريمش، والورطاسيون، وبنو وشكراد، والجواهرة، وبنو بويعلى، وبنو موسى من بني عتيق.
نفت فرنسا أحد شيوخ الزاوية الهبرية المعروف بوطنيته وهو الشيخ محمد الصغير، أثناء الحرب العالمية الثانية إلى أفلو بالجزائر، والسبب في ذلك تقول بعض المصادر أنه رفض التعاون مع الفرنسيين لإخضاع الأهالي التابعين لطريقته رغم الإغراءات، لكنه خاطب الضابط الفرنسي الذي حاوره في هذا الشأن بان مهمته تنحصر في إرشاد الناس إلى ذكر الله وعبادته والتمسك بالدين والقيم الروحية الأخلاقية. فمكث في منفاه مدة تزيد على الأربع سنوات، ومات في 31 دجنبر 1939م ودفن في زاويته.
الزاوية القادرية البودشيشية
بلدة “مداغ” التي لا تبعد عن مدينة بركان، تصبح مزارًا لمئات الآلاف من المريدين مع إطلالة ذكرى المولد النبوي، هنا تتربع إحدى أكبر الزوايا الدينية في المغرب، الزاوية القادرية البودشيشية، مريدون يأتون من كل حدب وصوب من داخل المغرب وأوروبا وأميركا وآسيا. تنتسب الطريقة القادرية البودشيشية إلى الشيخ عبد القادر الجيلالي الذي عاش في القرن الخامس الهجري، وتمكنت الزاوية من الحفاظ على استمراريتها وتناقل المشيخة إلى يومنا هذا، وخاصة أنها تحولت من مهمتها الدعوية إلى المهمة التربوية، ومن بين شيوخها: أبو مدين بن المنور، والحاج العباس، الذي ورث عنه الشيخ حمزة مشيخة الزاوية تفعيلا لوصية الشيخ العباس. الشيخ حمزة القادري شيخ البودشيشية، تولى زعامتها عام 1972 بعد وفاة والده، مما جعل عبد السلام ياسين يغادر الطريقة غاضبا ويؤسس لاحقا جماعة العدل والإحسان، في نزاع على أحقية التولي. انتشرت الطريقة في عهد الشيخ حمزة داخل المغرب وخارجه، وظل على رأسها حتى أعلن عن وفاته في 17 يناير 2017 عن 95 عاما، إثر إصابته بنزلة برد قوية. تعد الزاوية البودشيشية من بين أشهر الزوايا بالمغرب وأقواها اليوم، وتمكنت من استقطاب آلاف المريدين من داخل المغرب وخارجه، ويغلب على طقوسها الجانب الروحي والصوفي. وتوجد الزاوية البودشيشية في شرق المغرب (قرب مداغ بإقليم بركان) ، ويحج إليها العديد من الباحثين عن لذة التصوف وأقصى درجات حب الله، والباحثين عن الاعتكاف الجماعي والتسبيح والتهليل، وقيام الليل، كما يحضرون حصص التربية الدينية التي يطغى عليها التوجه الصوفي (ع. ستيتو نفس المرجع). تستقطب الزاوية البودشيشية اليوم عدداً كبيراً من المريدين داخل المغرب، ولا يقتصر الأمر على فئات معينة، بل إنها تشمل الفئات الشعبية والطبقات الفقيرة، كما تستقطب الفئات المثقفة والطبقات الغنية، وهو ما يعني تحولا على مستوى مريدي الزوايا بالمغرب. وبالإضافة إلى المغاربة، فالزاوية البودشيشية تمكنت من استقطاب جنسيات أخرى بكثرة، إفريقية و أوروبية وأمريكية (دور المغني عبد الملك واللاعب بنعرفة وغيرهم من النجوم كان مهما)، وتوجد لديها فروع في دول خارجية مختلفة، ويعود هذا الإقبال على الزاوية البودشيشية إلى منحاها الصوفي الروحي، الذي يحقق للفرد صفاء الروح والتوازن النفسي – كما يقول بعض مريديها من الأجانب. ولذلك يحرصون على الزيارة السنوية للزاوية ولشيخها من أجل تلقي دروس الترقي الروحي من الشيخ، وتعلم كيفية دخول حضرة الله بالقلب والروح.
وزن ونفوذ الزاوية القادرية البودشيشية
يشير الصحافي يحيى بن الطاهر في مقال موثق له في موقع إيلاف، أن الزوايا تلقى عناية خاصة من لدن النظام في المغرب بعد أن أدمجها ضمن سياسته الدينية، وهو ما أعطى الانطباع بأنه يحاول بذلك احتواء تيارات الإسلام السياسي. وقد كان هذا الاحتواء باديًا حين خرج مريدو الزاوية في مظاهرات حاشدة مؤيدة للنظام المغربي وداعمة للإصلاحات الدستورية التي أفضت إلى دستور جديد في العام 2011 إبان حراك 20 فبراير وجهه المغربي. مع أنه غير مسموح للزوايا في المغرب بمزاولة أي نشاط سياسي مباشر رغم قرابتها من التنظيمات السياسية كالعدل والإحسان والعدالة والتنمية ما دامت تعتبر حركات دينية تشتغل في مجال التصوف والروحيات. ويرى الباحث سعيد لكحل أن ثمة مصالح وخدمات متبادلة بين الزاوية والنظام السياسي في المغرب تصل إلى حد توفير خدمات لمريدي الزاوية تشمل التوظيفات والترقيات الإدارية والتدخل لدى القضاء والتعيينات والترقيات في الجيش. وقال الباحث لـ”إيلاف” إنه يمكن هنا أن نميز بين نوعين من المريدين: مريدون لديهم اجتذاب روحي للزاوية منهم مغاربة ومنهم أجانب، ويتوزعون بين أطر وأناس بسطاء، إذ يجدون في الزاوية غذاء روحياً لا يتسنى لهم إيجاده خارج الزاوية، سواء داخل المساجد أو في الزوايا الأخرى أو داخل تنظيمات دينية أخرى، وآخر متعلق بالزاوية وهو ما توفره الدولة للزاوية في قضاء مصالح إدارية أو مصالح في الوظيفة أو مصالح اقتصادية تجارية.”. وتسعى الدولة، عبر دعمها للزاوية إلى توسيع القاعدة الشعبية وتوسيع المرتكزات الدينية عبر تشجيع الزوايا، ومن بينها الزاوية البودشيشية نظراً للخدمات التي تقدمها. وكانت الزاوية البودشيشية قد تصدت للأصوات الداعية للخروج إلى الشارع ومقاطعة الاستفتاء على الدستور في العام 2011 أو رفض الدستور، والتي كانت دعت إليها حركة 20 فبراير المعارضة، حين خرج مريدوها في مظاهرات حاشدة معلنة دعمها له.
كما سجل الباحث انه في مقابل الخدمات الدينية والسياسية التي تقدمها الزاوية البودشيشية للنظام، تقدم الدولة أيضًا خدمات للزاوية، فهناك نوع ما من الحصانة للأطر العليا للزاوية البودشيشية وخدمات على المستوى الإداري لصالح أعضاء الزاوية بناءً على تدخلات من قيادة الزاوية حيث تلبي طلباتهم سواء أكانت إدارية أو وظيفية.. ويضيف: “هناك خدمات أخرى على المستوى العسكري لأجل الترقية في الرتب العسكرية، حيث تتدخل الزاوية البودشيشية، وهذا كله يتم في ظل خدمات متبادلة بين الزاوية والدولة.”
إلا أن أحد أحفاد شيخ الزاوية البودشيشية، كان قد سبق وأن نفى “كل ما يروج حول الطريقة القادرية البودشيشية من اتهامات لها بتلقيها دعمًا من السلطات الرسمية، والولايات المتحدة الأميركية، كما نفى ما يقال بشأن انتماء وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى الزاوية، معتبرًا ذلك مجرد كلام فارغ، ولا يستند إلى أي أساس. إلا أن الدعم الأمريكي عبر نادية ياسين أو الاستحواذ على ثروة هائلة للزاوية من طرف عبد السلام ياسين، وتسجيل بعد ذلك لممتلكات الجماعة باسمه لازال موضع نقاش بعضه وصل إلى المحاكم.
وحسب تصريحات الباحث : “الدولة تٌرَقِّي، وهذا يفتح شهية أطماع كثير من الناس الذين يرغبون في تحسين وضعياتهم الإدارية أو الاجتماعية، إذ يسلكون أقرب الطرق وأضمنها عبر الالتحاق بالزاوية البودشيشية، ومن تم تتوسط لهم لأجل تحسين أوضاعهم، في الوقت نفسه، تقدم الزاوية للدولة مريدين وأتباعًا طيعين لهم ولاء للنظام والدولة وللشيخ وللطريقة، ولاء مشتركُ.”
كل هذا يناقض تصريحات مسؤولي الزاوية رغم ثقل الحالات والأدلة من الذين غادروا الزاوية، إذ صرح الناطق الرسمي للزاوية البودشيشية لحسن السباعي الإدريسي نفي الاتهامات الموجهة للزاوية بالولاء للنظام المغربي، واعتبر” إننا أناس ضد استغلال الدين وتوظيفه من أجل الدنيا سواء كان توظيفًا من قبل العمل السياسي أو على المستوى الشخصي، لأنه يصل الدنيا بالدين، وأن هدفنا في الطريقة لا علاقة له بذلك، وأتحدى من يدّعي علينا أن يأتينا بأمثلة، لا أن يلقي الكلام على عواهنه، كل هذا الكلام لا أساس له من الصحة، حقيقة نمتلك مشتلاً مهمًا من الأطر الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه بناءً على مجهوداتهم الشخصية.”
وتحفل الزاوية البودشيشية بالعديد من الأطر من النخبة المتعلمة التي وصلت إلى مراكز مهمة في الدولة والمصالح الخارجية للوزارات وغيرها.
يضيف السباعي: “غالبًا ما تطرح وسائل الإعلام علاقة الزاوية البودشيشية بالسياسة، لكن لا أحد يسأل كيف أن هذه الطريقة، رغم ضعف الإمكانيات والتشويش على عملها والافتراءات والكذب والادعاءات التي لا أساس لها من الصحة، تستطيع أن تجمع نخبة من الرجال والنساء من المغرب وخارجه ومن كافة المستويات الاجتماعية.”
ويوضّح: “دائمًا ما شكلت السياسة هوسًا وكأنها، سواء عندنا أو لدى غيرنا، تتحكم في جميع الأمور. لنكن واضحين، كمواطنين من واجبنا أن نكون ملمين بجميع ما يروج حولنا، إلا أن التصوف هو منهاج مناقض للعمل السياسي، بمعنى أن التصوف، بحكم أنه منهاج تربوي روحي يبحث طالبه من خلاله على تطهير فريضته وعلى التوجه الخالص لله، وبهذه الصفة لا يكون طرفًا في لعبة سياسية تتطلب خططًا.”! وأشار إلى أنه لا يمكن للصوفي أن يدخل في هذه المعادلات السياسية، معتبرًا أنه من “حقنا كمغاربة أن يكون لنا رأي، فيما يتعلق بالاهتمام بالشأن العام من قبيل الوحدة الترابية للبلاد والمؤسسات التي تضمن استقرار المملكة. لدينا ثابت منظورنا إليه يتحكم فيه الشرع لا السياسة وهو الالتفاف حول جلالة الملك”. ويخلص الباحث محمد ضريف إلى اعتبار الزاوية القادرية البودشيشية كما خلص إليه بعض المراقبين أنهم لا يستبعدون أن يكون نزول الزاوية البودشيشية بكل ثقلها في الشارع لمواجهة جماعة الشيخ ياسين إبان دستور 2011، ما هو إلا رسالة إلى عبد السلام ياسين، على اعتبار أنه قرر في يوم من الأيام أن “يرتد” على الزاوية التي كان أحد مريديها. لكن وبغض النظر عن أهداف ودوافع التحركات الأخيرة للزاوية البودشيشية فإن الشارع المغربي أصبح يتساءل عن إمكانية تحول الزاوية البودشيشية إلى حزب إداري جديد أو توافق الزاوية مع العدل والإحسان والمخزن؟ (محمد ضريف أنظر فاطمة العفاني: هل يساند الصوفي المغربي الدولة لمواجهة جماعة العدل والإحسان).
الزوايا، الإسلام السياسي والإسلام الشعبي
الإسلام الشعبي الذي هو إسلام العامة والذي يقع في النقيض من أو في مواجهة الإسلام الرسمي، ومن بينه الإسلام السياسي والذي تلعب فيه الزوايا والرابطات والجماعات دورا مهما. فيجب التفريق إذن بشكل أساسي بين ما يسمى بالدين الرسمي الذي تمارسه السلطة بامارة المؤمنين أو باسم الأحزاب الإسلامية والدين الشعبي.
هناك صفات عامة بين نمطين من التدين، والذي يفرق بين هذين النمطين هو علم الاجتماع الديني بمساعدة الانتربولوجيا وعلم النفس، حتى يؤسس لمفهوم جديد يمكن أن يطلق عليه علم اجتماع الإسلام. فالإسلام شانه شان سائر الأديان الكبرى، شهد منذ تكوينه اختلافا في ممارسة الطقوس والشعائر وفي السلوك الديني عامة، وشكل محور ممارسة المؤيدين وأتباع الشيوخ في الزوايا. أما التدين الشعبي فقد ارتبط بالمقدس أكثر من ارتباطه بالدين الذي لا يمثل إلا بنية ضمن البنى المشكلة للدين. والتدين الشعبي كأحد أوجه هذا التدين ، تدين مضاد للعقلنة، يلجأ في كثير من طقوسه إلى السحر والخرافة وهو تدين انفعالي تحركه ظروف لحظية مرتبطة بالعقل الجمعي، وهو نفعي بالضرورة هدفه الحصول على مكاسب فردية غالبا ومرتبطة بالظروف المعاشية اليومية ، كدرء الخطر أو المرض وطلب المال آو البنون، وغيرها من الأمور المرتبطة بالفرد أو الجماعة الصغيرة، وهو لصيق بدور الزوايا والطرق. أما التدين الرسمي أو التدين العالِم فهو تدين معقلن إلى حد ما ومقنن ومرتبط بالمؤسسة الدينية الرسمية، والتي تسيسه غالباً وبذلك يكون أكثر براغماتية ونفوذا، وتتغير بعض أهدافه وبنوده وفقاً لمصالح استراتيجية على مستوى الجماعة الأكبر.
وقد يتنوع التدين الشعبي تبعاً لظروف نشأته والتأثيرات المرتبطة بالطائفة والوسط والطريقة، وقد يتغير مع التطور الذي يحجمه ويلغي الكثير من طقوسه وحتى شعبيته مما يؤدي إلى ذوبانه تدريجياً بالدين الرسمي، وهذا الثاني قد يعمد أو يستغل في مراحل تاريخية الدين الشعبي ويحاول أن يضبط مساره أو يجاريه بما يتلاءم مع المصلحة النفعية للدولة، كأن يستغل تأثيره الذي لايستهان به في محافل الانتخابات مثلاً، أو لتمرير قانون أو تحشيد سياسي وغيرها من الأمور المرتبطة بالسياسة غالباً. ومع تنوع التدين الشعبي وهو تنوع ليس جوهرياً ، أي أنه تنوع في التفاصيل أو الطقوس ومرجعياتها الطائفية ، فان التدين الرسمي قد يتنوع أيضا وقد ينقسم إلى كتل أو اتجاهات واضحة الملامح وتقودها منظومات فكرية مختلفة، فهناك التدين المرتبط بالمؤسسة الدينية الحاكمة، وهناك التدين الاحتجاجي المعارض الذي تمثله الحركات الدينية عموماً أو الأقليات الدينية، وهناك الإسلام المعلمن الذي تمثله فئات متعلمة تحمل مواقف مختلفة عن الدين ووظائفه ودوره في المجتمع. وهذا الانقسام بدوره قد يؤدي إلى انقسام التدين الشعبي من خلال اختلاف الطقوس وارتباطها بالطائفة ومن ثم من يمثلها من مرجعيات ومراكز إفتاء مرتبطة آو غير مرتبطة بالسلطة.
ويتبين لنا من خلال تتبع مظاهر ممارسة الدين الشعبي ونماذجه الواقعية أنه تدين احتفالي يتمتع بالمرح والتلقائية (طقوس الموالد والطهارة والدروشة وزيارة الأولياء). وهذه المنظومة من التدين بما يسمى بالتدين الشعبي لم تلبث أن اهتزت مع تطور المجتمع وانصهاره بقيم جديدة وتأثره مباشرة بالتحولات التي طرأت على المجتمعات الإسلامية نتيجة الاختراق الثقافي والاستعماري، وشيوع قيم جديدة مما أدى إلى انحسار مجال فاعليته وذوبان مؤسساته وفقدانه عددا من وظائفه، وفقدان منظومته الرمزية والطقسية، وفقدانها إلى الانسجام الذي يطبع ملامحها لتتحول إلى شتات.
وهذا لا يمنع من ظهور أنماط من التدين الشعبي وخصوصاً بفعل الأزمات السياسية أو الاقتصادية والحروب أو الغزو الثقافي، تحت ذريعة الحفاظ على الهوية ومقاومة الانسلاخ ومجابهة العولمة، ويتجلى هذا الظهور في استخدام السياسي للديني في ظل انعدام الأطر الاجتماعية والسياسية اللازمة لتاطير الجماعات التي لم تجد غير التدين الشعبي ملاذاً يحقق توازناً مفقوداً ويشعر بالاستقرار ولو وهميا، في ظل غياب مفهوم متكامل لمجتمع مدني متقدم.
المخزن بين تدين الزوايا وسياسة العصا والجزرة
الإسلام السياسي في عمقه التاريخي الغالب هو علاقته مع السنة النبوية في تطبيقاتها السياسية وأبعادها التدبيرية لشؤون الجماعة البشرية التي كانت تعيش في الجزيرة العربية إبان الدعوة. إسلام ترعرع وانتشر بانتشار الزوايا والطرق والرابطات منذ القرن الخامس الهجري. خلاصة القول أنه إسلام ماضوي يلجأ إلى إدراج الإسلام الشعبي في حلبة اختباراته السياسية.
في المغرب منذ قرون تشكل المخزن كسلطة مركزية حاكمة. ويرمز تاريخيا منذ حكم السعديين إلى مخازن الضرائب العينية التي تستخلصها إدارة وأعوان السلطان من الأفراد ومن القبائل. والمخزن سياسيا مصطلح خاص بالمغرب يَدُلُّ على مؤسسة حكم تقليدي، يتألف من مؤسسة السلطان والبرجوازية الكمبرادورية والأعيان والملاكين الكبار للأراضي وزعماء القبائل الموالين للسلطان والقياد وكبار العسكريين ومُدراء ورؤساء الأمن، يترأسهم السلطان كحاكم مطلق السلطات بإمارة المؤمنين. هذا إضافة إلى شيوخ القبائل الذين أشركوا في السلطة أو ساهموا في استقرارها أو في سقوطها.
إلى حدود عام 1956، تاريخيا كان يسوس المغرب سلطان، ويحف حضرته بمخزن، وليس نمطا لملك تساعده حكومة. وهو في الواقع نسق في التسيير يعكس طبيعة العلاقة بصانع الكون، على اعتبار أن السلطان خليفة الله في الأرض. وتقوم القاعدة الأصلية المؤسسة للسلطة السياسية على البيعة كصيغة لإضفاء الشرعية على النظام السياسي، وتعبر في شكلها ومضمونها على فكرتي اليمين والعقد الواردة في الآية: “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله”.
و”المخزن” في نظر ابن خلدون هو سلطان، قبيلة أو زاوية. في الحالة الأولى تغلب على الدولة خصائص القبيلة في تنظيماتها وسياستها وغاياتها كما كان الأمر أيام المرابطين والمرينيين وغيرهم. وفي الحالة الثانية تغلب صفات الزاوية كما عند الأدارسة والفاطميين والسعديين وبأحرى الدلائيين. وفي الحالتين المخزن تنظيم مضاف، يتلخص في جيش وديوان، (سيف وقلم). ومن يحمل هذا أو ذاك، الجندي والكاتب، فهو مخزني، وأسرته مخزنية متى توارث فيها المنصب. المخزني صاحب “كلمة”، يتلقاها ويبلغها، له مأمورية، يأمر ليطاع لأنه هو مأمور مطيع. المخزن بالتحصيل هو هاته البنية البشرية للدولة، في معناه الضيق، يتعلق الأمر بالمشتغلين في الجهاز الإداري أي الجيش والبيروقراطية. وهما العنصران الأساسيان المكونان له، وكل من يتقاضى أجرا من الخزينة السلطانية، وليس ممن يتم تعويضهم من مال الأحباس كأعضاء الإدارة الحضرية، والهيأة المكلفة بالحفاظ على الأمن في المدن، وإلى حد ما في القرى. أما في معناه الواسع فيشمل جميع الجماعات المشكلة لأعضاء المخزن الضيق، الخاصة وقبائل الكيش، الشرفاء والعلماء والأعيان والمرابطون المنتشرون في البوادي. وهم إجمالا من يحضون بالصلاة، أي الهدايا ويملكون ظهائر التوقير والاحترام أو بإمكانهم الحصول عليها، ومن يعتبرون أنفسهم جزءا من المخزن تأسيسا على إقراره لهم بفضائل لا تتوفر في العامة. بهذا التعريف نجد هذا الجهاز المخزني ذا طابع ازدواجي :
ـ أولا، أنه يستند إلى القوى المحلية ويفرض نفسه بشكل شبه مستديم على المناطق الخارجة عن سلطته بالاعتماد على قوى محلية كالزوايا والزعامات،..
ـ ثانيا، كون المخزن يعتمد على قبيلة حاكمة أو إقطاعية تقترب من النموذج الاستبدادي الشرقي مع نزعة إلى مراكمة الثروة مع حلفاء الحٌكم؛ من فلاحين وكسابين وصناع وتجار، أصحاب مهن متميزة، وعلاقتهم بالإنتاج. أضف إلى ذلك جحافل من شرفاء وعلماء وشيوخ وقادة. وفوق هؤلاء و أولائك يوجد الحكام أهل الحل والعقد، أصحاب الأمر والكلمة. فهم إما عسكر(السيف) وإما كتاب (القلم) وإما قضاة (الشرع): الشرفاء والعلماء والشيوخ… هيئات متميزة، لكن تجمعهم ظاهرة، كونهم لا يباشرون الإنتاج. فهل من شريف فلاح أو عالم صانع إلا مضطرا أو زاهدا !! فإلى حدود القرن التاسع عشر ظل الجيش يرمز إلى النظام القديم ولم يحدث فيه أي تغيير، بينما شهد الجهاز البيروقراطي تطورا ملموسا، دون أن يصل به الأمر إلى درجة حصول قطيعة مع الماضي. لكن هذا القرن شهد تطورا في المراتب المرتبطة بالإدارة المركزية المتمثلة في “البنيقات” بشكل يمكن الحديث عن بيروقراطية وازنة، بسبب اتساع حجم العلاقات بين المغرب وأوربا. ودأب المتعاملون الفرنسيون معها في نهاية القرن إلى الإشارة إليها بعبارة “Administration maure”.
في المغرب “الجديد” يتغير رأس النظام لكنه في العمق يحافظ على المنطق نفسه، إذ لا يدخل أي تغيير جوهري على المخزن، ذلك أن السمة الغالبة على الأنشطة الرسمية حافظت على تركة تقليدية بكاملها، وذلك بتتبع إرث السلف السلطاني. ويتركز ذلك أكثر عند تنظيم حفل البيعة. وتحاول المخزنية تجديد دوام تقليديتها بإشعال المنافسة بين الأجيال الجديدة، حول حب الولاء، إذ يتأكد عجز النخب عموما والنخبة المثقفة على الأخص و السياسية على وجه الخصوص وأوهامها عن مقاومة التطويع. أضف إلى هذا أن جمود الفعل السياسي التغييري وغرقه في الاستبداد هو أن المعارضة أضعف من المخزن. علما أن مشروع المخزن كارثي بتقليديته وتوجهه لخدمة برجوازية تابعة لمراكز القرار الامبريالي، وخصوصا، ولأنه في جوهره قمعي واستبدادي يقوم على الدولة التي تحشر أنفها في كل شيء.فعلى منوال المخزن التقليدي تشكلت أبرز تنظيمات وأحزاب الموالاة الإسلامو- ظلامية وأحزاب الموالاة الإدارية على حد سواء، في شكل “مخزنيات صغيرات” أو مملكات أو ممالك صغيرة، لكل واحدة منها ملكها أو زعيمها الخالد وأمراءها ونظامها الريعي والقبلي والعشائري والعائلي الخاص بها.
الجماعات الإسلاموية.. الاستبداد بغلاف الشريعة
جماعات الإسلام السياسي بالمغرب تريد إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية بمنطق تكفيري، وهذه وصفة للاستبداد والخراب طبعا، أما الاقتصاد المعقلن فلا يهم الإسلاميين، ونظرتهم الاقتصادية قريبة جدا من النموذج الرأسمالي بتوحش ليبراليته. فالإسلامي سيستخرج لك من نصوص الإسلام كل ما يبتغيه خاطرك ويشتهيه قلبك: “الاشتراكية الإسلامية”، “الرأسمالية الإسلامية”، “التكافل الإسلامي”، “الميركانتيلية الإسلامية”، “البنك الإسلامي”، “الخيرية الإسلامية”، “الدينار الإسلامي”، “الغنائم الإسلامية”، “التجارة الإسلامية”، “إعادة توزيع الثروة الإسلامية”…إلخ. المطلوب منك هو فقط القبول بالدولة الإسلامية والشريعة الإسلامية والخضوع لخليفة المسلمين ثم التوكل على الله. ولكن الشيء المؤكد تأكيدا تاما هو أن الدولة الإسلامية دولة استبدادية طغيانية، لأنها قائمة على الطاعة العمياء للخليفة ما دام يقيم الصلاة، ولأن هدف الدولة الإسلامية هو نشر الإسلام ودحر الأديان الأخرى، ومنع كل فكرة أو كلمة أو سلوك أو كتاب أو فيلم يتعارض مع الإسلام. الدولة الإسلامية (من أجل حماية ونشر الإسلام) تتحكم في عقل المواطن وسمعه وبصره وتصرفاته وكلامه ولباسه ووقت أكله وشربه وما يأكله وما يشربه وما يسمعه وما يراه وما يقرأه. فهذا نظام استبدادي كامل.