الترامبية والماكرونية نموذجي التغول اليميني
◆ المصطفي زوبدي
في سابقة من نوعها عاشت الولايات المتحدة الأمريكية منذ إجراء الانتخابات الرئاسية حالة استنفارات قصوى، وعاش الأمريكيون حالة رعب حقيقي، بفعل الفوضى والاضطرابات المترتبة عن رفض ترامب لنتائج الاستحقاق الرئاسي، بدعوى تزويرها أوسرقتها كما يقول من قبل الديمقراطيين، محرضا أتباعه على إسقاطها، أو بالأحرى إنجاحه، وقد وصل التجييش أوجه بالهجوم الهمجي الخطير على (الكابتول = مقر الكونغرس) يوم 6 يناير2021 للحيلولة دون مصادقة الكونغرس على النتائج، وكاد الأمر يؤدي إلى مالاتحمد عقباه بفعل ماقام به المهاجمون، في دولة تعتبر قائدة العالم، ومركز الحضارة والتقدم، فإلى ماذا يعود ذلك؟
هل تشكل الظاهرة الترامبية بداية انهيار النظام الليبرالي؟
يرى ابن خلدون أن الدولة تمر من خمسة أطوار هي: الظفر، الانفراد، المجد، الفراغ، الدعة، القنوع والمسالمة ثم الإسراف والتبذير، ويربط أطوارها الخمسة بثلاثة أجيال هي:
- الجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية.
- الجيل الثاني يسير على خطى الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد (بكسر الحاء الممدودة).
- الجيل الثالث والأخير، هو مايمكن تسميته بالجيل الهادم، فالدولة لها أعمار طبيعية كما البشر حسب ما يرى.
في تباين وتقاطع المنشأين :
بالرغم من تباين المنشأ والمسار، فإن طرح هذا التقديم الذي تناول فيه ابن خلدون أطوار الدولة الشرقية المستبدة، يعود إلى استنتاج أن هذه الرؤية اقتضتها بعض التجليات التي تكشف على أن هناك تقاطعا بين النمطين من يدري؟ فقد يكون مرد ذلك للطبيعة البشرية التي دفعت الشاعر بحدسه إلى القول: الناس كالناس والأيام واحدة …. والدهر كالدهروالدنيا لمن غلب
سيما وأن المارد القاهر واحد وإن اختلفت هيئته وموطنه، وهو الذي أضحى يطلق عليه بلغة (علم الاجتماع الحديث الدولة العميقة) الشبيهة بذلك الوحش الشرس الذي ينقلب على محيطه عندما تفتح شهيته لما هو أكثر من فريسته “البرانية” وهذا مايتضح من خلال بعض التمظهرات التي تكشفت منذ هزم الوحش الامبريالي للمعسكر الشرقي خلال التسعينيات إلى الآن، وهذه أهم المؤشرات مما تمت الإشارة إليه، وسيكون البدء بما يجري حاليا بواشنطن:
تمظهرات ومؤشرات الأزمة:
إن تداعيات الانتخابات الرئاسية بتاريخ 3 نونبر2020، جعلت المتتبع لتاريخ هذا البلد الذي يتسيّد العالم، ويبهر الكثير ممن ينقصهم الإلمام بكثير من بواطن الأمور، يسجل وكأنه أمام كيان لايؤمن إلا بالقوة، ودون اعتبار لما يتباهى به أبناؤه من كون أمريكا مصدرالتفوق الحضاري، وهكذا فإن ما طفا على السطح يكشف أن تلك المظاهر الخادعة كاذبة لسبب بسيط، وقد تجلى ذلك في كون تلك الحضارة انبنت على أنقاض الغير، وعلى أساس اعتماد التفوق العرقي الأبيض، وهذا ماتجسد في سعي اليمين المتطرف وبزعامة الرجل الأول في البلد (ترامب) إلى الاستيلاء على السلطة والتحكم في البلد عبر نظام العصابات التي بدا أنها تخترق الأجهزة الأمنية والجيش والإدارة والكونغرس، وهو ما قد يشكل خطورة، سيما إذا كان ضمنهم من يحمل قناعات إيديولوجية لليمين المتطرف التي صاغها منظرو الإنجيليين الجدد.. وهكذا لم يبق لترامب إلا أن يطلق على نفسه زعيم الحشد الشعبي الأمريكي الأبيض المسلح ببركة الإنجيلية الجديدة.
أكيد أن هذه الطفرة الفوضوية المتطرفة ليست وليدة اللحظة، ولاهي عفوية، بل إنها نتاج لتوجه أفرزته عقيدة التفوق التي آمن بها من سادوا بعد إبادتهم للشعوب الأصلية (الهنود الحمر)، وبنوا قوتهم ومجدهم بفضل سواعد من استعبدوا من الأفارقة، فتكونت لديهم عقدة تفوق الجنس الأشقر، فتمادوا في قهر واضطهاد واستغلال الأقليات على جميع المستويات وخاصة الأفارقة السود، ويكفي الاستدلال بما طالهم خلال الولاية الترامبية، حيث وصل الاستغلال والقمع والتعنيف منتهاه، كما تبرز ذلك العديد من الأحداث الخطيرة التي طالت الأقلية المضطهدة، وصلت حد التصفية علي يد قوات الأمن، كما حدث مع (جورج فلويد) وغيره والذين تم قتلهم أمام أنظار العالم، وحري بالأمر القول: إن هناك منظرون ومخططون يعتبرون النواة الصلبة للدولة العميقة يقفون وراء هذه الأمور، والتي لم يكتو بنارها أبناء الوطن فقط، بل إن النصيب الأوفر من نارها الظالمة طال الشعوب المستضعفة.
إن ماحدث ويحدث داخل الولايات المتحدة هو جزء من التوجه النيوليبرالي، ويرتبط بسياسة الإدارة الأمريكية التحكمية التي تعتبر نفسها قائدة ماتسميه بالعالم الحر، وقد تجلى ذلك بشكل مكشوف مع الظاهرة الترامبية، التي تضرر منها الكثير، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، ناهيك عما طال الشعوب المستضعفة والعديد من دول العالم التي تحسب على المحيط حسب تعبير المفكر الراحل سمير أمين، وخاصة الدول المعارضة للتوجه النيوليبرالي، والراغبة في تحصين استقلالية قرارها، ويتضح ذلك من دعم الأنظمة الديكتاتورية والمستبدة، أو التدخل المباشر لتشكيل أنظمة موالية لها (إيران ـ فنزويلا – كوبا – البرازيل – نيكاراغوا – بوليفيا..)، وجدير بالقول أن هذه السياسة تتم وفق هندسة المخابرات الأمريكية، وتتبع إدارة البيت الأبيض، وبمباركة الكونغرس بشقيه الجمهوري والديمقراطي، وإن اقتضى الأمر الردع عبر الجيش الأمريكي، وهذا ما تثبته العديد من الوقائع، وتؤكده العديد من الأحداث، والدراسات، وأكيد أن المتضرر الأكبر من هذه السياسة الجائرة هي شعوب المحيط، وفي مقدمتها بلدان ما يسمى بالوطن العربي وخاصة ما يطال محور المقاومة، والرامي إلى تصفية القضية الفلسطينية، بمباركة الأنظمة العربية الرجعية التي تتسارع إلى الهرولة للتطبيع الرسمي والعلني مع الكيان الصهيوني، ضدا على إرادة شعوبها وقواه الحية، إنها سياسة أبناء العم سام التي وصل فيها الأمر حد إهانة رؤساء وقادة دول حليفة ذات حضارة عريقة، وديمقراطية ليبرالية متزنة، إذ لم يشفع لها حتي انتماؤها إلى الامبريالية، فقد وصلت الوقاحة بمجنون عصره (ترامب) حد توجيه إهانات وسخرية وعلى الهواء مباشرة إلى رؤساء العديد من الدول، (فرنسا – كندا – ألمانيا – اليابان..)، ومن سخرية القدر أن عجرفته تخف تجاه من يتحدونه إلى درجة الدخول معهم في علاقة ملتبسة (القيصر الروسي بوتين - كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية !؟)
في التشابه بين الترامبية والماكرونية:
بالتأكيد أن هذا التوجه النيوليبرالي المتوحش الذي يكشف المأزق الذي تسعى الإمبريالية إلى تجاوزه عبر أساليب الضغط وتضييق الخناق على القوى الممانعة، لا ينحصر فيما كشفته الظاهرة الترامبية فقط، بل يتعداه إلى العديد من الدول الإمبريالية بأوروبا، وأسطع مثال على ذلك ما يجري في فرنسا، في ما بات يعرف بالتوجه الماكروني الذي لا يختلف عن الترامبية إلا في بعض الجزئيات التي يفرضها السياق العام، فتوجهه يسعى إلى بناء الدولة البوليسية من خلال التضييق على المواطنين عبر تعنيفهم وقمعهم، والسعي إلى سن قوانين تكبيلية خدمة للعولمة المتوحشة، ناهيك عن حشر أنفه وبطريقة فجة في العديد من الملفات الإقليمية والدولية وبأسلوب لا يخلو من شعبوية وانتهازية (سوريا – ليبيا – الدول الإفريقية) وهذا ما جعل الفرنسيين يتصدون لهذا التوجه بالعديد من الأساليب، أبرزها الاحتجاجات التي نظمتها حركة السترات الصفراء، والتنظيمات النقابية، إضافة إلى الاعتراضات والتحفظات الإقليمية والدولية على توجهاته التي حشرت حتى الجاليات المسلمة في الأمر، بتوظيف ورقة الإسلاموفوبيا لتسويق الماكرونية بدغدغة عواطف اليمين المتطرف، وبالجملة هناك توجه شعبوي يميني يتسع ويتنامى داخل العالم الغربي الإمبريالي، وهو ما يؤكد على المأزق الذي تعرفه الليبرالية، ويسفه العديد من الأطروحات التي بشر بها فرنسيس فوكوياما بشكل يقيني حول نهاية التاريخ بانتصار قيم الليبرالية ونظام السوق.
لكن يبدو أن الأطروحة بدت، مهزوزة، رغم ادعاء مناصريها بكون الليبرالية وقيمها، في منأى عما بات لصيقا بالليبرالية الجديدة وسياستها المتوحشة، ويعتبرون ما طال الليبرالية الأصلانية (نسبة إلى الأصل) مجرد نتوءات عارضة سرعان ما ستلفظها فيتم التعافي، على اعتبار أن الديمقراطيات الغربية لاتتوافق ولايمكنها التعايش مع الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية -داخلية كانت أم خارجية- والناجمة عن الليبرالية الجديدة المتوحشة، ويذكرون بما عرفته الديمقراطيات الغربية في أزهى فتراتها، حيث سادت العدالة والمساواة، وتوارى النهب والاستغلال، فكانت أنظمة الحكم تتبنى السلم والسلام، وقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، لكن هذه الأطروحات يفندها الواقع، والدراسات الجادة، وفي ذلك يقول الكاتب العراقي علي حسن الفواز في مقالة له، ربطها بتصور الفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو: “..إن الحديث عن الليبرالية الجديدة، ليس بالضرورة حديثا عن التنوير والحداثة، وعن قيم الحرية، فكل هذه المظاهر تملك ضدا نوعيا في تاريخ أوروبا، الذي فرض أنماطا من السيطرة والرعب والحروب وعلى القهر الاجتماعي والجندري وأحسب أن ميشيل فوكو كان من أكثر فلاسفة أوروبا حضورا في التعاطي مع أزمة التاريخ والسلطة، ومع قوتها العقابية، ففوكو اعتمد نقد تاريخ أوروبا الوسطى بوصفه المسؤول عن صياغة ظاهرة السلطة كعنف، عنف مقدس، وعنف استعبادي، عنف يقوم على تعسير العقل، وهو ما يمكن أن يكون تأسيسا لظاهرة الاستعمار القديم ولشراسة الرأسمالية الحديثة. وصولا إلى تغول الليبرالية الجديدة التي اختلطت فيها قيم العنف مع الفردانية والحرية العارية والسلطة التي تبحث عن هوية ومجال للسيطرة والاعتراف.”
إن هذا النص يؤكد أن التوجه الليبرالي توجه طبقي استغلالي استعماري استعبادي، يعتبر سياسة السوق الحرة، والمبادرة الفردية هي الفيصل منذ وضع المرتكزات الأولى لليبرالية وإلى الآن، وهذا ما تجلى في توسع الفجوة الساحقة بين أقلية من الأغنياء وأغلبية كبيرة من الفقراء، ناهيك عن الاستعمار والهيمنة التي تطال الشعوب وتعمل بكل الوسائل على نهب خيراتها، رفضا لهذا المنحى الإمبريالي القهري، وقد ألّف المفكر الراحل سمير أمين في ذات السياق كتابا قيما بعنوان: “الفيروس الليبرالي، الحرب الدائمة وأمركة العالم” كشف فيه سوءة الليبرالية المتوحشة، ودعا إلى مواجهتها.
من المؤشرات أيضا على تمأزق الليبرالية هيمنة الشركات المتعددة الجنسية على مختلف المجالات الحيوية المتعلقة بالشأن الاقتصادي، وبهذا التوجه فإنها أضحت تتدخل في تشكيل مؤسسات الدولة، لربما في أفق إزاحتها، وهذا مايتجلى في جعل النخبة السياسية المسيرة لشؤون الدولة على الهامش، وغالبا ما يكون تدبيرها تدبيرا شبه صوري، وهكذا فقد أضحت معظم الخدمات بما في ذلك ذات الطبيعة الاستراتيجية والحساسة تحمل بصمة قوية لمؤسسات الشركات المتعددة الجنسية العابرة للقارات (الأمن – التواصل والإعلام – الخدمات – الآمن الغذائي…).
ويبدو أن المؤشر الأبرز يتجلى في تآكل الأحادية القطبية التي عاشت الولايات المتحدة أزهى فتراتها، وبداية تشكل التعددية القطبية التي أضحى يتزعمها المارد الصيني والعودة القوية لروسيا، وكذا صعود الهند، وربما آخرون، مما يدل على أن النيوليبرالية في طريقها إلى الاندحار، وأن مرحلة مابعد الترامبية وجائحة كورونا لن تكون كما قبلها، ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه، ما مدى فائدة هذا التحول بالنسبة للسلام والسلم، ورقي الإنسانية، وتحقيق العدالة الاجتماعية؟ وما وضع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالنسبة لهذه التحولات.
قد يكون للحديث بقية:
تلك بعض المؤشرات التي تفرض مواصلة النضال على كل القوى العالمية المحبة للتغيير الإيجابي المبني على ضمان حقوق الأنسان، وسيادة الأمن والسلام، وتخليص الشعوب من ربقة التسلط والاستعباد، وفي مقدمة ذلك إنصاف الشعب الفلسطيني برفع الاحتلال الصهيوني الغاشم عن أرضه، وتمكينه من إنشاء دولته المستقلة وعاصمتها القدس، ترى هل ستعمل هذه القوى دون تردد على ترتيب أوراقها وفق مايخدم هذا المنحى النبيل، وهل سيكون لليسار المنتمي إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مَوطِئَ قدم في انجاز هذا المشروع؟ قد يكون للحديث بقية.