الردة الحقوقية انتهاكات بطعم الماضي
◆ رشيد الإدريسي
تثار العديد من الأسئلة حول مغزى هذه التراجعات الماسة بحقوق الإنسان في السنوات الأخيرة، وخاصة في هذه الظروف الاستثنائية التي يعيشها المغاربة من جراء جائحة كورونا. تراجعات حقوقية تتخذ طابعا شموليا، فمن منع مختلف أشكال التعبير والتظاهر من وقفات واحتجاجات، ومواجهتها بالقوة والعنف والمتابعات القضائية، إلى اعتقال المدونين وتقديمهم للمحاكمة، إلى اعتقال النشطاء الحقوقيين والمناضلين والصحفيين ومحاكمتهم والزج بهم في السجون، إلى التعاطي الأمني مع الحركات الاجتماعية الواسعة، كما حصل مع حراك الريف وجرادة وزاكورة.. ومتابعة نشطاء هذه الحركات وإصدار أحكام ثقيلة في حقهم، كما هو الشأن بالنسبة لمعتقلي الحسيمة.
انتهاكات الماضي مكاسب هشة وتوصيات معلقة
هذه الردة الحقوقية التي تسعى لتقويض كل مكتسبات الشعب المغربي في مجال الحريات وحقوق الإنسان، والتي جاءت نتاج كفاحه المرير منذ سنوات وأدى المناضلون في سبيلها الثمن غاليا، رغم أنها ظلت تاريخيا خاضعة للمد والجز ولموازين القوى بين الحركة التقدمية والنظام، مع العلم أنها اتخذت طابعا دستورياً قويا، حيث اعتبر دستور 2011 دستور حقوق الإنسان بالأساس، ناهيك عن اعتراف الدولة بمسؤوليتها التاريخية على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة لمعالجة انتهاكات الماضي وجبر ضرر الضحايا، وقد أصدرت الهيئة تقريرها النهائي، الذي تضمن توصيات مهمة حول تدابير عدم تكرار انتهاكات الماضي على المستوى السياسي والأمني والقضائي، هذه التوصيات التي ظلت موضوع انشغال من طرف القوى الحقوقية واليسارية من أجل تنفيذها، وبغض النظر على التقييمات المختلفة حول هذا المسلسل ومآلاته، وما لَحِقَه والقضايا التي لازالت عالقة وخصوصا الحقيقة الكاملة حول ملف المختطفين، وفي مقدمتهم قضية الشهيد المهدي بنبركة.
لقد شكل ملف الإنصاف والمصالحة مرحلة تاريخية مهمة، أعادت الاعتبار للمناضلين وضحايا انتهاكات الماضي حيث وقف الشعب المغربي على حقائق ما أنتجه الاستبداد والقمع والتسلط من مآسي وويلات ومعاناة وما سببه من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، ومسؤوليته في إعاقة طموحات المغاربة في التقدم والخروج من واقع التبعية والتخلف وتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
وخلق هذا المسلسل دينامية حقوقية وسياسية تسعى إلى القطع مع الماضي وإرساء الضمانات الدستورية والسياسية والقانونية والحقوقية لعدم تكرار انتهاكات الماضي وإرساء ديمقراطية حقيقة وتأسيس دولة الحق والقانون والمؤسسات والقطع مع سياسة الإفلات من العقاب.
الحراك الشعبي وسياسة الاحتواء
لقد بدا واضحا أن عدم التقدم في تحقيق الأهداف والتوصيات يعكس الإرادة السياسية الفعلية للحكم في استمرارية سياسة الاستبداد والتحكم وتكريس ديمقراطية الواجهة، وهذا ما يفسر هذه العودة المحمومة لأساليب الماضي، من قمع ومصادرة الحريات وخنق مختلف أشكال التعبير، كمسعى لإرجاع عقارب الزمن للوراء، فالنظام وجد نفسه بعد حركة 20 فبراير في وضع حرج، خصوصا أن الحركة أعطت زخما وقوة للمطالب الديمقراطية والحقوقية للشعب المغربي، وأفشلت سعي النظام لتنزيل النموذج التونسي لبنعلي وسياسة الحزب الوحيد على أرض الواقع، والتي كان يجري التهييء لها قبل 2011، بعد إضعاف الأحزاب الوطنية والتي فقدت هويتها وقام النظام بإدماجها في منظومته وتوظيف نخبها في تدبير سياسته الاقتصادية والاجتماعية.
لقد شكل الحراك منعطفا حاسما في تاريخ نضال الشعب المغربي بما حمله معه من دينامية وحيوية في التأطير والتعبئة والمشاركة الواسعة للمواطنين في الحراك الشعبي، والذي رفع شعارات ضد الفساد والاستبداد واحتكار السلطة والثروة.
إن ما عاشته المنطقة العربية من ردة وسعي لخنق الحراك الشعبي لعبت فيه الأنظمة الرجعية والقوى الامبريالية دور المنفذ، وقد وُظفت الحركات الأصولية أيضا من أجل إعادة التحكم في مصير المنطقة وثرواتها ومستقبلها، ولذلك كان طبيعيا أن يتم استغلال هذه الأوضاع المضطربة بمحاولة تسويق أن الثورات والحركات الشعبية تساوي الفوضى والعنف واللااستقرار وغياب الأمن، وأن الحرية لم تحمل معها سوى الخراب على أرض الواقع، مما جعل النظام كغيره من الأنظمة الرجعية في المنطقة يبدأ في الهجوم المضاد على التعبيرات الديمقراطية والحقوقية، ولكل مكامن توهج الحراك الشعبي من رموز وقوى سياسية ومدنية، منطلقا من حقيقة أن هذا الحراك له بعد تاريخي وأن ديناميته لن تتوقف إلا بتحقيق أهداف الحراك وهو ما يهدد مصالح قوى الفساد والاستبداد على المدى المتوسط والبعيد. لذلك استخدمت الدولة كل الوسائل والطرق لتطويق تلك الدينامية الشعبية وتلك التعبيرات الواسعة للمواطنين بمختلف الأشكال، وخصوصا أن الحراك الشعبي كسر جدار الخوف واسترجع الشارع قوته وزخمه وبعده السلمي والحضاري، وحضور الإبداع في التعبير عن المطالب والتطلعات لتحقيق مجتمع الحرية والكرامة والديمقراطية.
ملاحقة نشطاء 20 فبراير
لقد عملت الدولة في البداية على ملاحقة نشطاء ومناضلي حركة 20 فبراير، والذين لعبوا أدوارا مهمة على مستوى تأطير الحراك والتعبير عنه والتعريف به والدفاع عنه، واستعملت الأجهزة كل الوسائل من أجل ملاحقة وحصار الكثير من الفعاليات البارزة، ونظمت حملات إعلامية ممنهجة لتشويه تلك الطاقات وتسفيهها واتخذت المتابعات والاعتقالات طابعا انتقاميا في سعي لتشويه تلك الرموز وتحطيمها والقضاء على رصيدها، كما استخدم النظام أساليبه القديمة في الاستقطاب والإغراء ووظف العديد من الوسطاء الذين يحملون يافطات حقوقية ومدنية، والتي تشتغل في الوسط السياسي والحقوقي والمدني بإمكانيات ووسائل مسخرة، ورغم أن هذه الحملة كانت ممنهجة ومتناسقة فإن القوى الديمقراطية واليسارية، لم تهتم بالشكل الكافي بحماية هذه الطاقات الشابة، مع العلم أن حملات القمع استهدفت كذلك مناضلي اليسار في أكثر من منطقة وتعرضت أنشطته للحصار والمنع وشنت عدد من المواقع القريبة من السلطة حملات ضد اليسار ورموزه وقياداته، وخصوصا أن اليسار الديمقراطي ظل في الصفوف الأمامية في النضال مدافعا عن قضايا الحريات وحقوق الإنسان، وفاضحا للنهج التسلطي والاستبدادي، ومنخرطا في الحراك الاجتماعي بمختلف المناطق ومدافعا عن ضحايا القمع والاعتقال السياسي.
محاصرة الجمعيات الحقوقية
لعبت تنظيمات اليسار والتنظيمات الحقوقية والجمعوية أدوارا مهمة في الحراك الشعبي، وإذا كان اليسار الديمقراطي قد استعاد حيويته وديناميته خصوصا وأن مطالب الحرية والكرامة ومناهضة الاستبداد والفساد اتخذت طابعا شعبيا، فإن التنظيمات الحقوقية والمدنية لعبت هي الأخرى أدوارا مهمة ليس فقط على المستوى الوطني بل في مختلف المناطق العربية التي عرفت حراكا شعبيا مما جعل قوى الاستبداد تتجه، والى محاصرتها كجزء من استراتيجية شاملة، هكذا ستتعرض الحركة الحقوقية وعلى الخصوص الجمعية المغربية لحقوق الإنسان لحملة غير مسبوقة من القمع والمنع وحظر أنشطتها، وإثارة موضوع التمويل بغاية حرمانها من الوسائل والإمكانيات المادية، التي كانت تسخرها في مجال الحماية والنهوض بحقوق الإنسان، وهي الحملة التي لازالت متواصلة رغم حملات التضامن وطنيا ودوليا، وهي حملة ترافقت مع محاولة التحكم في المشهد الحقوقي بشكل عام وإضعافه واختراقه والسعي إلى بلقنته وتمييعه، لقد شكلت هذه الحملة أحد مظاهر الردة الحقوقية، لأن الجمعيات الحقوقية في المغرب تميزت بنشاطها في الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.
المقاربة الأمنية في مواجهة الحركات الاحتجاجية
أعطت حركة 20 فبراير زخما للاحتجاج الشعبي ولكل أشكال التعبير ضد الظلم والتسلط والحكرة، وأطلقت دينامية عميقة في المجتمع ليس فقط بالمجال الحضري بل في القروي أيضا ولدى كل الفئات، وتوجهت الأنظار للمعيش اليومي والحاجيات الاجتماعية في الشغل والصحة والتعليم والسكن..، وتدبير المرافق العمومية وطرحت قضايا العدالة ببعدها الاجتماعي والمجالي، حيث وجهت سهام النقد لمظاهر الفساد ونهب المال العام، والخصاص على مستوى المرافق والخدمات والبنيات التحتية والتدبير السلطوي للشأن المحلي، ولذلك توسعت الحركات الاحتجاجية في جل المناطق واتخذت طابعا قويا وزخما كبيرا في الريف وجرادة وزاكورة.. وبدل التعاطي الإيجابي للدولة مع هذه ا لحركات، التجأت للقمع والمقاربة الأمنية، بكل ما نتج عنها من متابعات ومحاكمات انتهت بإصدار أحكام قاسية أبرزها محاكمة نشطاء الريف الذين صدرت أحكام ضدهم وصلت إلى عشرين سنة، وأعادت الدولة سيناريهات الأحداث التاريخية بالمغرب 81 و84 و90 كعنوان عريض على الأزمة السياسية والحقوقية والتدبير السلطوي للقضايا المجتمعية.
السلطوية وجائحة كورونا
لقد استغلت السلطوية جائحة كورونا التي أثرت على مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية، وحملت معها أوضاعا قاسية لعدد من الفئات والمواطنين في معيشتهم وظروفهم في ظل أزمة صحية خطيرة، لقد تم استغلال هاته الظروف التي وجد المواطنون أنفسهم داخلها وفي وضع صعب، لتكريس السلطوية والقمع والتضييق واستخدام قانون الطوارئ في التضييق على الحريات وعودة العديد من مظاهر التدبير السلطوي بعد أن تم تهميش العديد من المؤسسات والتحكم في العديد من التدابير، ولقد بدا واضحا إن هذه السياسة مرتبطة بالردة الحقوقية لإعادة ترسيخ مظاهر الخوف والترهيب في نفوس المواطنين.
استهداف وسائل التواصل والصحافة
لقد وضعت قوى الاستبداد وسائل التواصل الاجتماعي كهدف نظرا لأدوارها سواء في الحراك أو التعبئة أو فضح كل مظاهر الفساد والظلم، وأصبح لها تأثير قوي على الحاكمين وعلى المسؤولين في الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات، وبالتالي تحولت هذه الوسائل في التعبير والتواصل لأدوات رقابة وتأثير، وهو ما أثار إزعاج المسؤولين الذين وجدوا أنفسهم يتعرضون للمحاسبة ليل نهار، وأصبح الرأي العام له سلطة وتأثير، ولذلك تحركت السلطوية في أكثر من اتجاه في محاولة لإصدار قوانين قمعية مستغلة ظروف الجائحة وخاصة قانون 20/22 حول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والذي قدمته حكومة العثماني في شخص وزير العدل الاتحادي محمد بن عبد القادر والذي جوبه برفض شعبي قوي أدى إلى سحبه مؤقتا تحت ضغط الرأي العام، وبالموازاة مع ذلك تواصل مسلسل قمع ومتابعة عدد من المدونين والمناضلين اليساريين والحقوقيين بسبب تدوينات على وسائل التواصل الاجتماعي في سعي إلى التضييق على مساحة التعبير، والترهيب والتخويف، وهو ما يتناقض مع التزامات الدولة في مجال الحريات وحقوق الإنسان.
ولم تفلت الصحافة من مسلسل القمع حيث تعرض الصحفيون للتضييق والمتابعات القضائية بتهم مثيرة ومتشابهة، هدفها توجيه رسائل ترهيب واضحة للجسم الصحافي ككل، والذي وجد نفسه من جديد أمام سيف المنع والحصار والخطوط الحمراء والرقابة وتحجيم دور الإعلام والتحكم في مؤسساته العمومية في تناقض صريح مع مبادئ الحرية والتعددية، حيث لاحظنا الحصار المضروب على الرأي الآخر وخصوصا القوى الديمقراطية واليسارية الحقة وهو ما دفع منظمة مراسلون بلا حدود للتعليق على هذا الوضع ب “إن المغرب وفي لرتبته المتأخرة في حرية الصحافة، المرتبة 133 عالميا من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة”. كما لم تكتفي السلطة بذلك بل أطلقت العنان لبعض المواقع الإعلامية للتشهير وتسفيه المعارضين والحقوقيين واستهدافهم في تحد سافر للقوانين بما فيها قوانين الصحافة.
الوضع الحقوقي والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان
لقد عكست التقارير والبيانات الصادرة عن مجموعة من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان الوضع المقلق لأوضاع حقوق الإنسان ببلادنا، وعادت الدولة من جديد وبقوة لأساليب الماضي في إنكار الحقائق وتسخير وسائل الإعلام لتسفيه تلك التقارير واعتبارها متحاملة، ونفي وجود معتقلين سياسيين وهو ما يذكرنا بالعهد السابق، رغم أن منهجية بعض تلك المنظمات تعتمد الحوار والتواصل والتعاون مع الحكومات في سبيل تعزيز حقوق الإنسان، ومواكبة الدول وتتبع مدى احترامها لالتزاماتها وتعهداتها من خلال مصادقتها على عدد من الاتفاقيات والصكوك الدولية.
وفي الوقت الذي كانت من قبل الدولة ومؤسساتها تتغنى بالاعتراف الدولي ببعض المكتسبات والإنجازات الحقوقية كتجربة الإنصاف والمصالحة، عادت نفس الأصوات لسياسة التجاهل والنفي وإخفاء الشمس بالغربال كما يقول المثل، ولقد برز واضحا هذا التوجه الذي تكرس أكثر بعد التغييرات التي شهدتها المؤسسات الرسمية المعنية بحقوق الإنسان من مجلس وطني لحقوق الإنسان ومندوبية ووزارة، وأصبح شغلها الشاغل هو الرد على تلك التقارير والاصطدام معها كما وقع مع أمنيستي، بتجاهل ملاحظاتها وتوصياتها، في انتصار للمقاربة التي تحكمت في هذه الردة الحقوقية، والتي تعتقد أن الظروف الدولية مواتية لتكريس استبداد الدولة.
الرهان الخاسر
إن الرهان على سياسة القمع والتخويف والترهيب للسيطرة والتحكم في مصير المجتمعات وخدمة الفساد والاستبداد، هو رهان خاسر ويعاكس منطق التاريخ، كما أن التجربة المغربية تؤكد فشل سياسة القمع والتسلط في القضاء على نضال الشعب المغربي وقواه الحية حيث دفع مناضلوه الثمن غاليا من أجل الكرامة والحرية.
إن الاحتقان الذي تعرفه بلادنا والأزمة العميقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا يمكن معالجتها بمزيد من الضغط والتسلط، وإن ما حصل بالفنيدق مؤخرا من احتجاج شعبي واسع، يحمل معه العديد من الرسائل للحاكمين، مفادها أن تجاهل قضايا الشعب وممارسة القمع والظلم والتهميش لن ينتج عنه سوى الرفض والتعبير عنه بمختلف الأشكال، وغير المتوقعة أحيانا.
إنه لا بديل عن تحقيق مطالب الشعب المغربي وقواه الحية في الحرية والكرامة والديمقراطية، وإن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين واحترام الحريات وحقوق الإنسان هو المدخل الوحيد لوضع حد للاحتقان والأزمة المتفاقمة.