التطبيع وخطر تفكيك الهوية الوطنية
غريب محمد
إن هذا النجاح السهل الذي حققته الدعاية الصهيونية يكشف عن هشاشة المجتمع المغربي الذي فقد الكثير من مناعته أمام الغزو الثقافي.
إن العقل السليم لا يحتاج إلى أدلة ليتأكد أن”إسرائيل” هي التجسيد الحي للشر في عالم اليوم، إذ تكفي العودة إلى تاريخها الدموي وإلى الوقائع والأحداث اليومية للتأكد أنه لا يمكن أن تكون العلاقة طبيعية مع كيان غير طبيعي، إلا إذا اعتبرنا القتل والاحتلال والعنصرية أمورا طبيعية.
لكن هؤلاء المهرولين لم ينتبهوا إلى أن دعوتهم للتطبيع مع “إسرائيل” هي دعوة من جانب واحد.. وأنها ليست نتيجة لحوار متكافئ بل هي نتيجة للابتزاز والضغط والإخضاع.
إنهم يقولون إن الزمن تغير وهو ما يفرض تغيير المواقف.. ولكنهم يقفزون على حقيقة أن الزمن المتغير يفرض أن يكون تغيير المواقف متبادلا، وخاصة من طرف الجانب المعتدي. غير أن الواقع يقول العكس تماما ف”إسرائيل” في الوقت الذي تعطي لنفسها حق احتلال أراضي الفلسطينيين فإنها تنفي عنهم حقهم في الدفاع عن وطنهم.. وهي اليوم تسعى مع سياسة التطبيع إلى أن ترسخ في الأذهان أنها تسعى إلى السلام ولكنها لم تجد شركاء من أجل ذلك في الجانب الفلسطيني.. وأن بناء جدار الفصل العنصري وبناء المستوطنات على أراضي الفلسطينيين هي أمور طبيعية.. وأن غير الطبيعي هو أن يقاوم الفلسطينيون نظام الأبارتهايد هذا المفروض عليهم بقوة الحديد والنار.
إن الحقائق اليومية تؤكد على أن الصهيونية لازالت وفية لثوابتها وأن مقولة الزمن المتغير لم تخترق سوى الوعي المهزوم الذي يطلب من الشعوب العربية والإسلامية أن تعيد صياغة مواقفها.. وتقوم بعملية تطويع ذاتي تؤدي ليس فقط إلى القبول بالهزيمة بل تؤدي إلى الإلغاء الذاتي والتنكر للتاريخ وللتضحيات واعتبارها خطيئة تستدعي إعلان التوبة وطلب الغفران.
لقد كان أول ضحايا الدعاية الصهيونية هم أصحاب الشخصية المهزوزة والضعيفة الذين فقدوا البوصلة وتمكن منهم اليأس.. إنهم مستعدون للقيام بالتطويع الذاتي والانكسار أمام غطرسة الصهاينة.. ولتبرير انهزاميتهم يحاولون الظهور بمظهر المتسامحين و الحداثيين الذين يرفضون التعصب والتمييز العنصري.
إن دعاة التطبيع يبشرون في الواقع بأيديولوجية الانهزام التي تسعى إلى ضرب الأسس الموضوعية التي يقوم عليها النضال من أجل الحرية والكرامة.. إنهم يقبلون أن يبقى تاريخ الصهيونية ثابتا وطاهرا لا يمسه أي تغيير.. وأن تبقى سياستها العدوانية كما هي.. وبرامجها التعليمية التي تغرس في نفوس الأطفال اليهود كراهية واحتقار غير اليهود، وتعتبر قتل الفلسطيني واجبا دينيا.. وفي نفس الوقت نقوم نحن بتغيير مواقفنا وصياغتها بشكل يتوافق مع مخططاتها الاستعمارية والعنصرية.
إذن التطبيع باختصار وبكل بساطة يعني السيطرة والإخضاع من جهة والاستسلام والهزيمة من جهة أخرى.. وكل الثرثرة حول منطق العلاقات الدولية والتسامح بين الأديان وحكاية “أبناء عمومتنا”… الخ، ما هي إلا محاولات لإخفاء هذه الحقيقة الموضوعية وتبرير الهرولة و الانبطاح.
إن ابتزاز الصهاينة لا حدود له وهم خبراء في هذا المجال.. وكلما حصلوا على تنازلات زاد ضغطهم للحصول على المزيد.. ولقد شاهد الجميع رئيس الوزراء الإسرائيلي وهو يفتخر بتطبيع العلاقة مع النظام المغربي وخلفه خريطة تظهر فيه الصحراء المغربية مفصولة عن بقية التراب الوطني. إنه ابتزاز واضح موجه للسلطات المغربيةّ: إذا أردتم اعترافنا بمغربية الصحراء فلذلك ثمن أخر غير تطبيع العلاقات، و بعد ذلك سوف ينتقلون إلى المطالبة بتعويض اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل رغم أن الحركة الصهيونية هي التي قامت بتهجيرهم وسمحت لهم بالسطو على بيوت الفلسطينيين وممتلكاتهم.. وهكذا كلما تنازل المطبعون كلما زاد الضغط.
هذه هي الحقيقة المرة التي يحاولون إخفاءها.. ولكن كيف وصلنا إلى هذه الحالة ؟ وكيف أصبحنا مضطرين للدفاع عن البديهيات ونجد صعوبة في إقناع الناس بالحقائق الصارخة ؟
صحيح أن الصهاينة قد نجحوا في اختراق مجتمعاتنا وان الأنظمة القائمة قد ساعدتهم في تحقيق هذا الاختراق معتقدة أن ذلك سيساعدها على تصفية القضية الفلسطينية، ولكن كيف غاب عن الحكام أن “إسرائيل” تشكل خطرا ليس فقط على الشعب الفلسطيني وإنما على كل الشعوب العربية والإسلامية بل وحتى على كيان الدول القائمة.
إن “إسرائيل” كانت ولا زالت أداة لتنفيذ المخططات الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي.. هذه المخططات التي تهدف إلى تقسيم الشعوب على أسس طائفية وعرقية ودينية لتقضي بذلك على كل محاولة للنهوض والتحرر من التبعية والتخلف.. ومعروف أن “إسرائيل” تحمل عقيدة الحرب على المجتمعات وتشجع حرب المجتمع على نفسه.. ومعروف دورها في بعض المناطق حيث يتم التحريض على الأخر.. ويتم تقديم الخلاص على أنه في انكسار كيان الدولة وفي قيام كيانات عرقية تشبه في طبيعتها الكيان الصهيوني القائم على رابطة الدين والصفاء العرقي.
السؤال الكبير الذي يفرض نفسه هو : إذا وجدت “إسرائيل” في مجتمعاتنا من يريد الخروج من التاريخ والعودة إلى القبيلة والعشيرة.. وإذا وجدت بيننا من يمسك معها بالطرف الأخر من المسطرة العنصرية كما كان يقول الشهيد غسان كنفاني.. فكيف تقبل الدولة أن تفتح حدودها وأراضيها أمام من يهدد سيادتها ويخطط لتفكيكها ؟