الحقل السياسي البارد

◆ محمد امباركي

ما‭ ‬الذي‭ ‬يدفعنا‭ ‬لتوصيف‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬بكونه‭ ‬حقلا‭ ‬باردا‭ ‬رغم‭ ‬حرارة‭ ‬الفعل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وتمدد‭ ‬الخريطة‭ ‬السوسيومجالية‭ ‬للاحتجاج‭ ‬؟

في‭ ‬مقاربة‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الفرنسي‭ “‬بيير‭ ‬بورديو‭” ‬القريب‭ ‬نظريا‭ ‬من‭ ‬التيار‭ ‬الماركسي‭ ‬البنيوي،‭ ‬لمفهوم‭ ‬الحقل‭ ‬يعتبره‭ ‬فضاء‭ ‬لصراع‭ ‬وتنافس‭ ‬قوى‭ ‬تستثمر‭ ‬كل‭ ‬مواردها‭ ‬المادية‭ ‬والرمزية‭ ‬و‭”‬هابيتوساتها‭” ‬للهيمنة‭ ‬على‭ ‬الحقل،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬رهانات‭ ‬تمنح‭ ‬المعنى‭ ‬للصراع‭ ‬والتنافس‭ ‬لأن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بعلاقات‭ ‬قوة‭ ‬وصراعات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تغيير‭ ‬تلك‭ ‬العلاقات‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاجها‭ ‬والمحافظة‭ ‬عليها‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬بورديو‭ ‬لنظرية‭ ‬الحقل‭ ‬في‭ ‬مقاربة‭ ‬الفضاءات‭ ‬الفكرية،‭ ‬الرمزية‭ ‬والأكاديمية،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬قادر‭ ‬في‭ ‬اعتقادنا‭ ‬أن‭ ‬يشكل‭ ‬أداة‭ ‬استكشاف‭ ‬وقراءة‭ ‬لبعض‭ ‬ملامح‭ ‬ومواصفات‭ ‬حقلنا‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬ألصقنا‭ ‬به‭ ‬صفة‭ ‬البرودة‭ ‬والرتابة‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬العمليات‭ ‬الانتخابية‭ ‬الأخيرة‭.‬

لتفكيك‭ ‬استراتيجية‭ ‬هندسة‭ ‬هذه‭ ‬البرودة‭ ‬نتوقف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬مخرجات‭ ‬اقتراع‭ ‬8‭ ‬شتنبر‭ ‬2021‭ ‬باعتباره‭ ‬بعدا‭ ‬من‭ ‬الأبعاد‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬بعض‭ ‬ديناميات‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬عامة‭.. ‬ونكتفي‭ ‬هنا‭ ‬بثلاث‭ ‬خلاصات‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬تقديرنا‭ ‬تستوجب‭ ‬الفهم‭ ‬ثم‭ ‬صناعة‭ ‬الفعل‭ ‬وليس‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬غير‭ ‬الرسمي‭ ‬أو‭ ‬السلطة‭ ‬المضادة‭.‬

أولا،‭ ‬عودة‭ ‬الأوليغارشية‭ ‬المالية‭ ‬ونخب‭ ‬الأعيان‭ ‬التقليديين‭ ‬والجدد‭ ‬إلى‭ ‬قيادة‭ ‬المشهد‭ ‬الانتخابي‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات‭ : ‬الانتخابات‭ ‬المهنية،‭ ‬الغرف،‭ ‬الانتخابات‭ ‬الجماعية‭ ‬والجهوية‭ ‬والتشريعية‭ ‬وبالتالي‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬سلطة‭ ‬توجيه‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬كامتداد‭ ‬لاحتكار‭ ‬الثروة‭ ‬والوجاهة‭ ‬والنفوذ‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تنزيل‭ ‬نموذج‭ ‬تنموي‭ ‬جديد‭ ‬يصنعه‭ ‬الخبراء‭ ‬والتكنوقراط‭ ‬بشكل‭ ‬يعزز‭ ‬من‭ ‬استراتيجية‭ ‬قتل‭ ‬السياسة‭ ‬وإفراغ‭ ‬الحقل‭ ‬الانتخابي‭ ‬من‭ ‬الرهانات‭ ‬الفعلية‭ ‬والمنتجة‭.. ‬فجملة‭ ‬من‭ ‬بيانات‭ ‬وتعاليق‭ ‬القوى‭ ‬والفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬اعتبرت‭ ‬هذه‭  ‬الانتخابات‭ ‬من‭ ‬أسوأ‭ ‬التجارب‭ ‬الانتخابية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب‭ ‬وشكلت‭ ‬سوقا‭ ‬حقيقية‭ ‬لسلطة‭ ‬المال‭ ‬وبالتالي‭ ‬امتحانا‭ ‬سيئا‭ ‬جدا‭ ‬للنظام‭ ‬السياسي‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬نتيجته‭ ‬مكلفة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬إغلاق‭ ‬كل‭ ‬مسارات‭ ‬ضمان‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬تكافؤ‭ ‬فرص‭ ‬التنافس‭ ‬الانتخابي‭ ‬قبليا‭ ‬وبعديا‭ ‬وبالتالي‭ ‬تزايد‭ ‬حجم‭ ‬المخاطر‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬تحويل‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬للبزنس‭ ‬الذي‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬إما‭ ‬صناعة‭ ‬النخب‭ ‬أو‭ ‬شراء‭ ‬نخب‭ ‬توفرت‭ ‬لها‭ ‬الجاهزية‭ ‬والتدريب‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬أخرى‭ …‬

ثانيا،‭ ‬إن‭ ‬فشل‭ ‬رهان‭ ‬القطبية‭ ‬الثنائية‭ ‬خلال‭ ‬انتخابات‭ ‬2016‭  ‬وبالتالي‭ ‬فشل‭ ‬هيمنة‭ “‬قطب‭” ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭ ‬على‭ ‬الحقل‭ ‬الانتخابي‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬امتدادات‭ ‬متعددة‭  ‬أرخت‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬غضب‭ ‬المخزن‭ ‬على‭ ‬أداته‭ ‬الحزبية‭ ‬المختارة‭ ‬والاستعداد‭ ‬لاستبدالها‭ ‬بحزب‭ ‬قديم‭ ‬اختير‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يقود‭ ‬دفته‭ ‬رجل‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬المال‭ ‬والأعمال،‭ ‬وكذلك‭ ‬توسيع‭ ‬مفاعيل‭ “‬البلوكاج‭ ‬الحكومي‭” ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الترويض‭ ‬السياسي‭ ‬والأخلاقي‭ ‬لحزب‭ ‬العدالة‭ ‬والتنمية‭ ‬وتعريضه‭ ‬لعقاب‭ ‬ثلاثي‭ ‬المصدر‭ : ‬السلطة‭  ‬باعتبارها‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ “‬فوكو‭” “‬كلما‭ ‬كانت‭ ‬متخفية‭ ‬تكون‭ ‬فعالة‭”‬،‭ ‬الحزب‭ ‬نفسه‭ (‬الذراع‭ ‬الدعوي‭) ‬والمجتمع‭ (‬جزء‭ ‬من‭ ‬الكتلة‭ ‬الناخبة‭)‬،‭  ‬وبالتالي‭ ‬تحضير‭ ‬الشروط‭ ‬الملائمة‭ ‬كي‭ ‬تشكل‭ ‬اللحظة‭ ‬الانتخابية‭ ‬الفصل‭ ‬الأقوى‭ ‬في‭ ‬مسلسل‭ ‬العقاب‭ ‬الداخلي‭ ‬والخارجي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬125‭ ‬مقعد‭ ‬حصيلة‭ ‬الانتخابات‭ ‬التشريعية‭ ‬سنة‭ ‬2016‭  ‬إلى‭ ‬23‭ ‬مقعد‭ ‬سنة‭ ‬2021‭ ‬وبالتالي‭ ‬تحويله‭ ‬الى‭ ‬حزب‭ ‬تقنوبيروقراطي‭ ‬مستعد‭ ‬للتماهي‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الحكومة‭ ‬والمعارضة‭ ‬معا‭ ‬ويمتلك‭ “‬هابيتوسا‭” ‬قويا‭ ‬للتأقلم‭ ‬مع‭ ‬قواعد‭ ‬اللعبة‭.‬

ثالثا،‭ ‬استمرار‭ ‬الانقسامية‭ ‬كخاصية‭ ‬سوسيوتاريخية‭ ‬وانتربولوجية‭ ‬ملازمة‭ ‬لجسم‭ ‬يساري‭ ‬يزداد‭ ‬تمزقا‭ ‬ولم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬ولوج‭ ‬المؤسسة‭ ‬التشريعية‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬اللائحة‭ ‬الجهوية‭ !‬،‭ ‬مما‭ ‬أفقده‭ ‬ثقة‭ ‬واحترام‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الكتلة‭ ‬الانتخابية‭ ‬التي‭ ‬احتضنته‭ ‬خلال‭ ‬انتخاب‭ ‬2016‭ ‬وراهنت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يشكل‭ ‬سلطة‭ ‬مضادة‭ ‬حقيقية‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬السياسية‭ ‬والانتخابية،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الفكرية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الفقر‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يطال‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬والتي‭ ‬تحولت‭ ‬الى‭ ‬مرتع‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬المنافع‭ ‬المادية‭ ‬والرمزية‭ ‬أو‭ ‬مراكمتها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬حقلا‭ ‬لإنتاج‭ ‬مثقفين‭ ‬نقديين‭ ‬ونخب‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬صياغة‭ ‬البعد‭ ‬الثقافي‭ ‬والأخلاقي‭ ‬والقيمي‭ ‬للممارسة‭ ‬السياسية‭.‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬حقلنا‭ ‬السياسي‭ ‬البارد‭ ‬والذي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الديناميات‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬مصدر‭ ‬خوف‭ ‬للنظام‭ ‬السياسي‭ ‬أساسا‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬نهج‭ ‬الاختيار‭ ‬الأمني‭ ‬الصرف‭ ‬دون‭ ‬مراعاة‭ ‬تكاليفه‭ ‬الباهظة‭ ‬الحاصلة‭ ‬والممكنة،‭ ‬فإن‭ ‬مهمة‭ ‬تجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬المركبة‭ ‬رهين‭ ‬بالضرورة‭ ‬الحيوية‭ ‬لتحريك‭ ‬البرك‭ ‬الآسنة‭ ‬في‭ ‬جسم‭ ‬اليسار‭ ‬الديمقراطي‭ ‬بدء‭ ‬بضرورة‭ ‬تجاوز‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الأمريكي‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬الشبكات‭ ‬الاجتماعية‭ “‬رولان‭ ‬بورث‭”‬،‭ ‬بالثقب‭ ‬الهيكلي‭ (‬Le‭ ‬trou‭ ‬structurel‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬اليسار،‭ ‬وجود‭ ‬فجوات‭ ‬بين‭ ‬مكوناته‭ ‬ككل‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬بعضها‭ ‬أو‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬المجتمع،‭  ‬وبالتالي‭ ‬غياب‭ ‬التفاعل‭ ‬الحي‭ ‬أو‭ ‬محدوديته‭ ‬يجعل‭ ‬كل‭ ‬مكون‭ – ‬من‭ ‬داخل‭ ‬وضعية‭  ‬الثقب‭ ‬الهيكلي‭ ‬هاته‭-‬،‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬الأجدر‭ ‬والأحق‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الفهم،‭ ‬التقدير‭ ‬والفعل،‭ ‬وبالنتيجة‭ ‬يسقط‭ ‬في‭ ‬نزعة‭ ‬التمركز‭ ‬الشديد‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬والشعور‭ ‬الوهمي‭ ‬بالقوة،‭ ‬مما‭ ‬يستوجب‭ ‬الحوار‭ ‬الصريح‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬جنبا‭ ‬الى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬ممارسة‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬ذات‭ ‬تطلع‭ ‬وحدوي‭ ‬واضح‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الصعاب‭ ‬ومبنية‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬تقييم‭ ‬المسارات‭ ‬السابقة‭ ‬والنقد‭ ‬الذاتي‭ ‬وبلورة‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬البرنامجي‭ ‬من‭ ‬الناحية‭  ‬السياسية،‭ ‬التنظيمية‭ ‬والفكرية‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬اليسار‭ ‬من‭ ‬الشعار‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬العام‭ ‬الى‭ ‬الفعل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الملموس‭. .‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى