من أجل مدرسة رافعة للتعليم والتثقيف
◆ محمد الحمري
يعيش المغرب في سياق حلقة أخرى من حلقات ما يعرف بإصلاح المنظومة التربوية وفق الرؤية الاستراتيجية 15- 30، والتي مرت منها سبع سنوات وما زلنا نعيش على إيقاع المشاكل نفسها قبل هذه الرؤية. ونتمنى ألا نصل سنة 2030 ونعيش لحظة فشل مرة أخرى كما حدث مع الميثاق والبرنامج الاستعجالي حيث يتم التطبيل للإصلاح في البداية، بعدها يتحدثون عن الفشل بدون خجل. هذه التجارب المريرة مع سلسلة الإصلاحات تجعل المغاربة يائسين من كل إصلاح لهذه الأعطاب المزمنة. فقد كان التعليم مجالا من مجالات الصراع ينتج قيادات وطنية تناضل من أجل نظام سياسي واقتصادي بديل، فتدخل النظام بإصلاحاته لإفراغ التعليم من البعد التثقيفي والتنويري. فإذا كان النظام يحقق أهدافه من كل إصلاح، فإن القوى الحية أصبحت عاجزة تماما عن المبادرة والفعل في هذا المجال، فباستثناء الحركات الاحتجاجية المطلبية الجزئية لفئات متضررة من تدبير القطاع، والتي غالبا ما يستجاب لمطالبها بعد سنوات تتخللها إضرابات متتالية لإيهام تلك الحركة بنصر مبين، لتترك ميدان النضال لفئة أخرى وهكذا دواليك (هذه التجربة انطلقت مع تنسيقية أساتذة الإعدادي الذين لم يسبق لهم أن كانوا معلمين، فالعرضيين وهكذا). فعلا تتحقق نتائج خبزية فئوية محدودة، ولكن بأي ثمن؟
طبيعة الأزمة وأسئلة الممكن
إنه عند كل فشل للإصلاحات المتتالية، يتم تبادل التهم بين الأطراف. علما أن تحميل المسؤولية في الفشل لا يتم إلا إذا كان هناك تعاقد على إنجاز مهام أو تكليف مؤسساتي تنتج عنه محاسبة سياسية أو قضائية أو إدارية. في الحالة المغربية فلا أحد يحاسب الفاشل في التدبير، بل أحيانا يتم تثمين وترقية من تحوم حولهم الشكوك في تبديد المال العام. وهذا يقودنا إلى خلاصة أساسية: إن واقع الاختيارات المتبعة في مجال التعليم يؤكد أن حالة الإفلاس التي آل إليها القطاع ليست بفعل الأخطاء أو الارتجال أو سوء التدبير. بل أن هذه الاختيارات مخطط لها، وتجد جذورها في السياسة الاستعمارية إبان الحماية والتي تلخصها مقولة جورج هاردي ” يجب إخضاع النفوس بعد إخضاع الأبدان”. ونظرا للتبعية المطلقة ثقافيا واقتصاديا لفرنسا والغرب عموما، فإن هذه الوصفة مازالت صالحة لإنتاج شخصية مغربية متناقضة ومضطربة من أجل التلاعب بعقلها وتضليلها بهدف إعادة الإنتاج.
فهذه الخلاصة تفسر سبب فشل الإصلاحات المتتالية، مع غياب أي جهة تعلن تحمل المسؤولية وتعلن استقالتها رغم هدر المال العام، وعليه يعد واهما من ينتظر إصلاحا حقيقيا في ظل الخيار السياسي الحالي. وبما أن النضال لتغيير موازين القوى لصالح الطبقة المستغَلة (الفئات الشعبية) طريق طويل وشاق ومتعدد المداخل، فإنه لن ينجح إلا بجيل متعلم وواع ومثقف. إذن، كيف نجعل من المدرسة العمومية مؤسسة تساهم في هذا النضال الاستراتيجي (العمل نضال)؟ وهل سيبقى الجميع يتفرج على تدمير المدرسة العمومية، ويكتفي بتسجيل المواقف؟ ما الذي يمكن فعله في المدرسة العمومية انطلاقا من تجارب ناجحة تعيش نفس ظروف العمل وفي ظل نفس السياسة التعلمية ورغم ذلك تحقق نتائج مبهرة؟ ما حدود المسؤولية الفردية لبعض الأطراف في القطاع؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها علينا جميعا أساتذة وإدارة وهيئة تأطير وهيئة توجيه باعتبار هذه الفئات في ارتباط مباشر وبدرجات متفاوتة بالمتعلم(ة)، وللإجابة عن الأسئلة السابقة، لا بد من ذكر بعض المسلمات حتى لا يعتبر القارئ أنه تم إغفال الترابطات الواقعة بين البنية التحتية والبنية الفوقية في الدولة.
مسلمات
1 . لا يجادل أحد في كون التعليم مفتاح التنمية والتقدم. وبالتعليم فقط يلج الفرد عالم المعرفة وتلج معه المجتمعات عالم التحضر والرفاهية. فالدول التي شهدت نموا اقتصاديا ولا تتوفر على مصادر الطاقة والموارد الطبيعية هي الدول التي يعرف تعليمها ازدهارا. والدول الأكثر ديمقراطية والأكثر احتراما لحقوق الإنسان هي الدولة المتقدمة على مستوى التعليم. و أيضا فالدول التي تشهد أقل نسب الجريمة ما هي إلا تلك التي يعرف تعليمها نسبة مهمة من التطور والازدهار. فالتعليم مدخل التنمية الشاملة للفرد والمجتمع، وبه تتحقق حياة الرفاهية والسعادة بالنسبة للإنسان.
2.إن العلاقة بين نوع التعليم في بلد معين ونظامه السياسي والاقتصادي علاقة جدلية: فالنظام الاقتصادي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والمبادرة الحرة، والحرية الفردية لن يكتب له النجاح والاستمرار إلا من خلال نظام تعليمي يمجد الفرد على حساب الجماعة، ويؤمن بالمنافسة والاجتهاد الشخصي. والنظام الدكتاتوري لا يعمل إلا على تثبيت تعليم ينمي الشخصية الخانعة من خلال مواد دراسية محاربة للفكر النقدي. ووكلاء إيديولوجيون يساهمون في إعادة الإنتاج على حد تعبير بورديو.
3.النظام السياسي والاقتصادي المغربي نظام تبعي للدوائر المالية العالمية، ينفذ تعليمات النظام الرأسمالي المتوحش في جميع القضايا الحساسة ومنها تدبير القطاعات الاجتماعية الصحة والتعليم اللذان يتجهان نحو الخوصصة.
4.تمت شرعنة الطبقية الفجة في التعليم، بدون حياء ولا خوف: فمدارس البعثات والمدارس الخصوصية لأبناء الأعيان في مقابل مدارس عمومية لأبناء عموم الشعب. كما كرس القانون الإطار عدم تكافؤ الفرص بإقرار تعدد أنواع التعليم (العتيق، العمومي العام، الخصوصي).
واقع مرير ونقط ضوء
إن الواقع السوداوي للمنظومة التربوية، باعتراف الداخل والخارج ناهيك عن الاعتراف الرسمي ، واضح وفاضح فقد لا يسع المجال لذكر كل التفاصيل ولكن نورد بعض الأمثلة:
• فشل المنظومة التربوية في تحقيق المردودية بإقرار كل التقويمات الوطنية والدولية بمعنى فشل ذريع في تنمية الجانب المعرفي الذي يأخذ حصة الأسد في زمن التعلم سواء في المدرسة أو في الدروس الليلية.
• المدرسة المغربية منتجة للأمية (ارتفاع نسبة الهدر المدرسي في السلك الثانوي (إعدادي وتأهيلي) 17.8 % علما أنه لا يمكن الحديث عن تحصين التلميذ من خطر الأمية إلا بعد حصوله على الباكالوريا (الباكالوريا ليست إلا شهادة محو الأمية)؛
• التطبيع الكلي مع الغش أفقيا وعموديا (اعتبار الغش حق من طرف التلاميذ وأسرهم، ومساعدة من طرف بعض الأساتذة، وفرصة للترقي بالنسبة للأطر الإدارية والتربوية في الامتحانات المهنية). قد يصل الحد إلى احتقار من يدافع عن تكافؤ الفرص؛
• انتشار العنف بجميع اشكاله وأنواعه في الوسط المدرسي يفسر فشل المدرسة في ترجمة القيم التي تدرسها، إن كانت تتناولها فعلا، على أرض الواقع فبالأحرى حلم نشر هذه القيم في المحيط؛
• الاسترزاق بالمعرفة (الدروس الخصوصية، بيع النقط، النقط مقابل الجنس، الولائم والهدايا)
في خضم هذا الواقع المرير الذي يهيمن بظلاله على المدرسة والجامعة المغربيتان لدرجة يحجب عنا الالتفات لبعض التجارب الناجحة؛ إذ هناك مؤسسات تعلمية تحظى بثقة محيطها وروادها، بل أحيانا نجدها في وسط هامشي أو قروي. فبغض النظر عن السياسة التعليمية، والوسائل، وظروف العمل وغيرها من الشروط الضرورية للمساهمة في تحسين المردودية، فإن هذه المؤسسات الموجودة في كل الأسلاك التعلمية تعتبر نقط ضوء وشعاع أمل وجب إبرازها والتنويه بمجهوداتها وتقديرها لتكريس ثقافة الاعتراف، ولخلق جو المنافسة في الاتجاه الإيجابي. فما الذي يميز مؤسسة عن أخرى؟
إدارة بمواصفات القيادة التربوية
لعل أهم سبب لنجاح مدرسة دون أخرى هو العنصر البشري في شقيه الإداري والتربوي، فجميع المدارس الابتدائية والثانوية الناجحة على قلتها يعود سببها للقيادة التربوية. وكما يقال ” أعطيني مديرا أعطيك مؤسسة” فالمدير الناجح حسب الدكتور علي عسكر في كتابه السلوك التنظيمي في المجال التربوي هو القادر على التأثير إيجابيا على جماعة العمل، وتعزى القوة الذاتية التي يستغلها القائد في التأثير على الآخرين إلى مصدرين هما النفوذ المنصبي والنفوذ الشخصي. فهذا النفوذ لا يـأتي تلقائيا بمجرد تسلم منصب الإدارة (النفوذ المنصبي)، إذ هناك حالات لمديرين يتساوون في التسلسل الوظيفي لكنهم يتباينون في سلطاتهم. فالمدير الناجح هو الذي يتوفر على نفوذ شخصي (مرتبط بالشخصية، ودرجة ذكائه، ومعارفه والقيم المتشبع بها،…) يجعل جماعة العمل منخرطة في المشروع وتابعة للقائد التربوي. وبالتالي فليس كل موظف (ة) حصل على الإقرار في تسيير مؤسسة يستحق لقب مدير(ة).
أطر تربوية (أساتذة) مواطنة وحاملة للرسالة
في سياق مغربة الأطر، فتح التعليم في وجه الجميع بدون شروط لاختيار من سيسهر على تربية وتعليم أجيال. واستمر هذا الوضع في القطاع إلى أن صار التعليم مصاصا للبطالة وحلا للهاجس الأمني للدولة.: لوقف الاحتجاجات المطالبة بالشغل، فكان التوظيف المباشر، والعرضيين، وغيرها من أصناف الموظفين (بروز الفئات)، وفي جميع الأحوال تلجا الوزارة للتوظيف في هذا القطاع الحساس بناء على الشهادة المحصل عليها في غياب أي معايير أخرى تقيس الجانب القيمي والجاذبية المهنية. فيبقى التوافق المهني للصدفة وللجانب الذاتي للأستاذ(ة). الآن ومع دخول القانون الإطار حيز التنفيذ وفي انتظار صدور الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات (المادة 36 من قانون الإطار)، فإنه حان الوقت للقطع مع فكرة أن التعليم مهنة من لا مهنة له والتي ساهم في ترسيخها الجميع: الحكومات من خلال معالجة اعتصامات واحتجاجات المعطلين والمعطلات باعتبار التعليم يضم أكبر عدد من المناصب، والمجتمع وأحزابه ونقاباته وجمعياته (عوض النضال من أجل فرض الحق في الشغل، ومنحة البطالة) تتم المطالبة بفتح المباراة في وجه الجميع مستصغرين مهنة التعليم وتربية وتعليم الأطفال والمراهقين. فبدون مزايدات ولا ديماغوجية، فالجميع يتمنى أحسن الأساتذة معرفيا وسلوكا لأبنائه، والجميع يسأل عن المدرسة الجيدة، وفي المدرسة نفسها يسأل عن الأستاذ(ة) الكفء. لذلك نرى أن السؤال الآتي مشروعا: أي أستاذ(ة) نريده ليعد جيل الغد؟
يعلم الجميع أن التلاميذ (خصوصا في الابتدائي) هم أطفال حاجاتهم الأولى اللعب، أما التعليم فهو مفروض عيلهم من طرف المجتمع، وكما نعلم أن العرض التربوي الحالي لا يتجه نحو احترام حاجات الطفل وتوفير شروط بيداغوجيا اللعب (ضعف البنية التحتية لممارسة الأنشطة الفنية من مسرح وموسيقى وتشكيل وتربية بدنية). وبالتالي فالتوافق المدرسي للمتعلم(ة) مسؤولية الأستاذ(ة) أولا والإدارة ثانيا. وتحقيق هذا التوافق لن يتأتى إلا من خلال إلمام الأستاذ(ة) بمراحل نمو الطفل وحاجاته المتعددة وعلى رأسها الحاجة إلى الأمان بالإضافة إلى البيداغوجيات الحديثة وطرق التنشيط. (المتعلم يحب الأستاذ(ة) قبل المادة) بمعنى نريد أستاذا قدوة يدير علاقة تربوية سمتها الحب المنتج. عندما تترسخ هذه الرؤيا في التعليم الابتدائي سنكون ونربي تلاميذ متوافيقن دراسيا واجتماعيا ويحسون بالانتماء للمؤسسة التربوية التي يجب أن تشتغل بنفس المقاربة في جميع الأسلاك. فأحيانا العنف في التعليم الثانوي هو ردود أفعال انتقامية تجاه مؤسسة غير منصفة.
وفي نفس السياق، على أستاذ(ة) التعليم الثانوي أن يكون على دراية بخصوصية المراهق ودينامية الجماعة، ومتشبع بثقافة حقوق الإنسان ناهيك عن تمكنه من المادة المعرفية ومن كيفية تدبير أنشطتها. ويحترم أخلاقية المهنة ومبادر ومتطوع للدعم المؤسسي المجاني بهذا النوع من الأساتذة يمكن محاصرة السلوكات المسيئة للإطار. (تجربة الثانوية محمد المكناسي بحي شعبي بمكناس، وقفت على هذه التجربة الرائدة في سياق زيارة الافتحاص سنة 2011 حيث انبهرت اللجنة بإشعاع هذه المدرسة في محيطها: دروس دعم مجانا في المؤسسة، احتضان المحيط للمؤسسة….).
جهاز تفتيش يعطي الأولوية للتأطير
إلى جانب المدير القائد تربوي، والأستاذ(ة) المواطن يكتمل النصاب بمفتش(ة) يعطي الألوية للتأطير ومساعدة الأساتذة على إيجاد الحلول للظواهر التربوية، قبل إصدار الأحكام التي تجب أن تكون موضوعية ومؤسسة تشريعيا وتربويا ومنطلقة من التعاقدات المبرمة صراحة بين الأطراف الثلاثة (مدير – أستاذ – مفتش ). فالمطلب مفتش مواكب بانتظام للمدرسة العمومية تأطيرا وتتبعا وليس مسجلا للحضور فقط. كما أن موقع المفتش (ة) (نوع من الرقابة الداخلية للمنظومة) يسمح له بفضح سوء التدبير الإداري والمالي للمؤسسات. وإلى جانب المفتش(ة) في التعليم الثانوي يمكن لهيئة التوجيه التربوي أن تضطلع بهمام ريادية في تتبع تحصيل التلاميذ واستثمار نتائجهم، والبحث عن سبل الدعم والعلاج في تنسيق بين المفتش والمدير والأستاذ والموجه.
خلاصة
إن نجاح المؤسسة التربوية في تحقيق المردودية تتطلب تضافر جهود هذه الأطراف الأربعة: الأستاذ(ة) والمدير (ة) في قاعدة مثلث الأهمية والمفتش في منتصفه والموجه في رأس المثلث. هذه الأطراف الثلاثة (في الابتدائي) والأربعة (في الثانوي) كفيلة بتحقيق الجودة بغض النظر عن عدد اجتماعات المديرية والأكاديمية والوزارة. بل أحيانا يساهم التدبير الإداري المركزي أو الجهوي أو الإقليمي في تدمير الحماس لدى هذه المؤسسات الناجحة من خلال الفساد المستشري في هذه الإدارات تاريخيا (نهب المال العام/ تعويضات على أعباء غير منتجة/ صفقات البناء والعتاد/ انتقالات خارج الضوابط القانونية / فضائح تغيير الإطار/ التستر عن غيابات وتجاوزات البعض / تأخرات وغيابات الموظفين بدون محاسبة/ …. كل ذلك يؤثر سلبا على ثقة المدبر التربوي في المدبر الإداري، بل يشكك في كل مبادراته حتى ولو كانت جيدة لصالح المنظومة فتقابل بالرفض (شبكة تقويم الأداء/ مذكرات التقويم/…)، وأحيانا تكون المؤسسة الناجحة في استقرار تام فيتم عرقلة عملها بتصرفات لا تربوية (ضم الأقسام، التغطية على أستاذ(ة) معين، إسناد السكنيات، تغيير البنية التربوية…). ممارسات إدارية مفسدة للمشروع المجتمعي الذي ننشده، وللأسف تكون أحيانا مدعومة سياسيا ونقابيا وجمعويا. ألم يحن الوقت للنضال لمحاربة الفساد تحتيا كما نفضح الفساد الفوقي. فالفساد فساد كبيرا كان أو صغيرا.