المسألة التعليمية بين التشخيص ومعركة الآفاق
◆ يونس فراشن
مدخل عام:
ظل سؤال إصلاح التعليم في المغرب مطروحا منذ الاستقلال إلى الآن، لكنه لم يجد الأجوبة الحقيقية و العملية، السؤال المطروح هو من المسؤول؟ وما هو مفهوم الإصلاح عند المسؤولين المغاربة؟
كل الخطابات تتحدث عن الإصلاح وعن أزمة قطاع التعليم لكن الخطاب الذي لا يعرف طريقه إلى التنفيذ يتحول إلى خطاب ديماغوجي بلا معنى. فهل يستقيم إصلاح التعليم بدون إصلاح البنيات السياسية الاقتصادية والاجتماعية؟ وبدون الحديث عن الإصلاح الشمولي والشروع في وضع آلياته؟ لأن التربية والتعليم قضية مجتمعية مرتبطة بالمشروع المجتمعي الذي نريد. وهو المشروع الذي يجب أن يكون مبنيا على قيم الديمقراطية والحداثة والعقلانية والمواطنة.
نحن في النقابة الوطنية للتعليم المنضوية تحت لواء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، نعتبر أن إصلاح التعليم حاجة مجتمعية وضرورة تاريخية موضوعية، لأنه وصل إلى الحد الذي لم يعد يحتمل الصمت. فالأزمة البنيوية في حاجة إلى إصلاح بنيوي جذري، ولا تنمية بشرية حقيقية دون المرور عبر بوابة العلم والمعرفة.
التشخيص:
إن الحديث عن نموذج تنموي جديد يقتضي الوقوف بعمق على الأزمة البنيوية التي وصلناها في قطاع التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي. ولن نخوض في الفرص التاريخية الضائعة على امتداد ما يزيد على نصف قرن من الزمن، فهي معروفة ولا مجال لذكرها. لكن نريد الوقوف على بعض المحطات الأخيرة المهمة.
الميثاق الوطني للتربية والتكوين والذي جاء في لحظة خاصة دوليا ووطنيا رافعا العديد من الشعارات من بينها ” الشراكة” والانفتاح على العالم السوسيواقتصادي وبأن التعليم مسؤولية الجميع.
لكن هذا الإصلاح الجديد المبلور في الميثاق لم يستطع تجاوز كل الأسباب والمعوقات التي تعتمل في نظامنا التعليمي تاريخيا، بالإضافة إلى تحديات الحاضر والمستقبل الأكثر تعقيدا، حيث لم يستطع الإجابة على مجموعة من الإشكاليات العالقة والتحديات على أرض الواقع. والتي لا تقتصر فقط على مستوى المنظومة التعليمية بل تتعداه إلى باقي المنظومات والمؤسسات المجتمعية الأخرى (السياسية، الاقتصادية، الثقافية والمجالية…) ذلك أن التعليم جزء لا يتجزأ من هذا الكل المجتمعي، يتفاعل معه بنيويا ووظيفيا، سلبا وإيجابا.
إلا أنه وبعد فشل المرحلة الأولى من الميثاق وببرودة دم هادئ وبدون الوقوف على الأسباب الحقيقية لهذا الإخفاق سيجد قطاع التربية والتكوين نفسه مجددا أمام برنامج استعجالي ترتكز منهجيته على ثقافة الإقصاء والمنظور الأحادي متمثلا في عدم إشراك الأطر التعليمية والفرقاء الاجتماعيين والفاعلين التربويين في صياغة المشروع. من أجل المساهمة في بنائه وتبنيه وبالتالي الانخراط في تنفيذه.
كما أن البرنامج الاستعجالي لم يكن يترجم لا جزئيا ولا كليا الميثاق الوطني للتربية والتكوين، بل كان من أهم تجلياته الشرعنة التعسفية لكل التدابير المالية والإدارية للتضييق على مجانية التعليم وتعزيز خوصصته، وضرب مبدأ تكافؤ الفرص وتطويق المدرس وتحويله إلى أداة منفعلة متحكم فيها إداريا. ولعل أخطر ما في المخطط الاستعجالي هو محاولة نقل المنظومة التربوية من مجال إلى آخر مغاير تماما إنه مجال المقاولة التي يختلف موضوعها عن موضوع المدرسة والمدرس.
ورغم إلحاحنا في النقابة الوطنية للتعليم على ضرورة فتح نقاش حول المدرسة العمومية لصياغة مشروع برنامج كفيل بإصلاح أعطاب منظومة التربية والتكوين، فإن الدولة وحكوماتها المتعاقبة ظلت مصرة على نفس النهج و وفية لنفس الاختيارات بمرجعية نيوليبرالية متوحشة، و هو ما تجسد في الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 التي وإن كانت تحمل بين طياتها بعض الشعارات الجميلة فإنها في العمق تشكل استمرارا لنفس الرؤية التي تستهدف تفويت التعليم العمومي عبر الشراكة قطاع عام قطاع خاص و دعم هذا الأخير الذي تطور كميا بشكل لافت جعل بلادنا من أكثر الدول في العالم التي يدرس تلاميذها في المستويات الابتدائية في المدارس الخصوصية. لقد فضح القانون الإطار المتعلق بالتربية و التكوين ما أخفاه النص الجميل و الشعارات البراقة للرؤية الاستراتيجية و أكد الثابت في مشاريع الإصلاح المتعاقبة وهو غياب الإرادة السياسية الحقيقية للصلاح الشامل و العميق الذي يضمن تعليما منصفا ومجانيا و جيدا لكافة بنات وأبناء الشعب المغربي. بل إن الرؤية الاستراتيجية والقانون الاطار عمقوا أزمة نظامنا التعليمي من خلال مأسسة الهشاشة في القطاع عبر التشغيل بالتعاقد.
الآفـــــاق:
*أي إصلاح نريد لمنظومة التربية و التكوين؟
نريد إصلاحا مندمجا في إطار إصلاح شامل لكل المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد. مندمج في مشروع مجتمعي ديمقراطي ضامن للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
فكل إصلاح لا يستحضر المشروع المجتمعي للمغرب ولا يندرج ضمن الإصلاح الشامل سيكون مآله الفشل.
وذلك عبر:
1) تعليم وطني عمومي يحتضن كل أبناء المغاربة دون تميز ضامن لمبدأ تكافؤ الفرص. بدءا بالمرحلة ما قبل المدرسة حتى الجامعة وهنا لابد من فتح قوس حول التعليم الأولي المندمج في التعليم الابتدائي الذي نعتبره إحدى المداخل الأساسية للارتقاء ب ( جودة ) التعليم والضامن لمبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء المغاربة خاصة العالم القروي وشبه القروي وذلك بتفعيل ما جاء في الميثاق الوطني للتربية والتكوين وتوفير اللوجستيك المادي والبشري لنجاح هذا المشروع الهام.
2) التشبث بمجانية وجود التعليم باعتباره حق إنساني وخدمة عمومية دون تمييز أو انتقاء.
3) التزام الدولة بموجب مسؤوليتها كمعبرة عن إرادة المجتمع وبمقتضى وظيفتها بضمان هذا الحق.
4) وجوب توحيد التعليم في جميع أسلاكه وضمان استقلاليته الفكرية وحث رجال ونساء التعليم بالتحلي بالسلطة العلمية والبيداغوجية.
5) الاهتمام بالموارد البشرية باعتبارها الرافعة الأساس لكل إصلاح وذلك بتمكينها من التكوين الأساس والتكوين المستمر الوظيفي والنافع وفتح المجال أمامها لمتابعة الدراسات العليا، وضمان استقرارها وتحفيزها بتحسين أوضاعها المهنية والمادية والاجتماعية والرفع من وثيرة استشارتها وإشراكها في تدبير شؤونها، وهذا سيلزم ضمن ما سيستلزم:
◆ إعادة النظر كليا في التكوينات الحالية بما يواكب الثورة العلمية والمعرفية ويستجيب للحاجيات.
◆ دعم وتطوير المراكز الجهوية للمهن التربية والتكوين بتمكينها من استقلالها المالي والبيداغوجي والإداري وفق هندسة للتكوين ترتكز على أسس التربية الحديثة.
◆ التفاعل الإيجابي مع المطالب المهنية والاجتماعية والمادية للشغيلة التعليمية.
◆ ادماج الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد في نظام أساسي موحد و محفز لكافة فئات الشغيلة التعليمية في إطار الوظيفة العمومية.
6) البرامج والمناهج:
يجب أن تكون مبنية على أسس الفكر العقلاني الحداثي ومستحضرة للقيم الإنسانية الكونية في كل أبعادها المستجيبة لحاجيات المغرب في التحرر والنمو والبناء الديمقراطي الحداثي، وهي المهمة التي يجب أن توكل إلى كفاءات وخبرات وطنية من ذوي الاختصاص المنشغلين بقضايا التربية والتكوين وذلك وفق مشروع مجتمعي متوافق بشأنه، بعيدا عن مكاتب الدراسات وبعيدا عن النظرة المحاسباتية التي تختزل التعليم في أرقام.
وفي نفس المنحى لابد من اقتراح المقاربة/ات البيداغوجية المناسبة على أن يتحقق فيها شرط أو شروط الانجاز والملائمة لأهداف المشروع المجتمعي للتمكن من تحويل التعليم إلى آلية لبناء الفكر النقدي لدى المتعلم والمساهمة في البناء الديمقراطي الحداثي.
كما أن الحديث عن إصلاح منظومة التربة والتكوين لا يستقيم أبدا دون الاهتمام بمكون أساسي من مكونات العملية التعليمية التعلمية، إنه نظام تقويم الذي له أهمية كبيرة في تقدير مدى تحقق الأهداف المنشودة من كل عملية والوقوف على مكامن القوة والضعف في المنهاج المدرسي وفتح إمكانية مهمة للدعم والمعالجة.
لذا لابد من مراجعة شاملة لأنماط التقويم التي أضرت بالمردودية الداخلية للنظام التعليمي المبنية على الخريطة المدرسية بهاجس تحسين مؤشرات التمدرس والنجاح لتقديمها للمؤسسات الدولية في محاولة لتلميع صور المغرب وتحسين تربيته في مؤشر التنمية البشرية.
وهنا تجدر الإشارة إلى قضيتين في غاية الأهمية تتطلبان أن تأخذ نصيبهما في هذا النقاش الدائر الآن وهما قضيتي التوجيه والتخطيط والمراقبة التربوية.
7) مسألة لغة التدريس:
لابد من الحسم في لغة التدريس التي يجب التعاطي معها كأداة للتفكير والبحث العلمي ومن منطلق علمي وبعد تربوي.
8) البنيات التحتية وفضاءات الاستقبال في:
◆ المجال التربوي : حجرات ملائمة خاصة في العالم القروي.
◆ المجال المادي : التجهيزات الأساسية (الصرف الصحي- الماء والكهرباء- المسالك. الطرقية- المطاعم المدرسية- الداخليات).
◆ المجال الثقافي : عودة الثقافة الى المدرسة.
◆ الجهوية واللامركزية.
خيار استراتيجي يقتضي توفير كافة الشروط السياسية لتجعل من الجهة لبنة في سيرورة البناء الديمقراطي الحقيقي على قواعد سليمة تخدم أهداف سياسة القرب وعلى المقاربة التشاركية الحقيقية ( مجالس الأكاديميات نموذجا). فالجهة لا يجب أن تبقى إطارا فارغا من مضمونه الديمقراطي أو شماعة لشرعنة التعاقد.
خلاصة:
في الأخير لابد من التأكيد على أن الخروج بالمدرسة من الأزمة البنيوية التي تعيشها تقتضي ضمن ما تقتضيه التخلي عن اعتبارها أداة لإعادة إنتاج نفس البنية الطبقية. ويجب أن يتمظهر ذلك في قوة توفر إرادة سياسية حقيقية لإصلاح منظومة التربية والتعليم. فلا إصلاح ولا تقدم لهذه المنظومة دون أن يشمل هذا الإصلاح كذلك باقي المنظومات المجتمعية الأخرى وفق مبادئ الديمقراطية الحقيقية.
إن قضية التربية والتعليم قضية مجتمعية تهم مستقبل المغرب والمغاربة يجب التعامل معها كقطاع وطني استراتيجي يجب أن يحظى بالرعاية الكاملة للدولة وتوفير كل الشروط المادية واللوجستيكية والبشرية الضامنة لنجاحه. وهو الرهان الذي سيضع الجميع على المحك والذي يفرض التعبئة المجتمعية الشاملة لإنجاحه حتى لا تكرر خيبات التجارب السابقة.
يونس فراشن
عضو المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم
الكونفدرالية الديمقراطية للشغل
المراجع
- القراءة النقدية للبرنامج الاستعجالي ( النقابة الوطنية للتعليم كدش)
- مقررات و بلاغات النقابة الوطنية للتعليم كدش