المثقف بين القضايا الإنسانية والنرجسية الزائدة .. أي دور تجاه القضية الفلسطينية؟
لامية بودشيش
إن المثقف يعني الشخص العاقل المستنير، جامح الفكر، جامع العلوم، وبذلك فهو يمثل نهضة الأمة وحضارتها. بمعنى أن دور المثقف هو تنوير الفكر، وتصحيح الوعي، وترميم العقول. إن مهمة المثقف ليست القراءة والكتابة. المثقف هو الشخص الذي يتدخل فيما لا يعنيه، ويمتلك القدرة على الجهر بالحقيقة (1). لهذا كلما ورد ذكر المثقف إلا وتم ربطه بالسلطة، أي علاقته السلطة ومدى التنافر أو الانبطاح لشروطها. فالمثقف ليس له خيار ثالث، إما أن يكون مع قضايا المجتمع والشعب، أو يحلق خارج محيطه.
ويتخذ المثقف عدة مفاهيم، منها “المثقف”، و”الأنتلجنسي”، و”المثقف العضوي”، و”المثقف العمومي”. من هنا يتضح الاختلاف واللبس الذي يشوب تعريف المثقف، وبالتالي الدور أو الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها. ثم مثقفو الأنظمة المستبدة في زمن الثورة، وهم يمثلون تلك الفئة من المثقفين الذين يخدمون أجندة النظام السلطوي القائم ضد مصالح الشعب. لا يمكن إذن للمثقف أن يتخذ كل هذه الصفات، لابد له من الوقوف والتموضع في خانة محددة، أي لابد أن يتصف بالوضوح.
فلسطين ذلك الجرح الغائر الذي لا يندمل. حملناها منذ الصبا حلما، ولحنا للوجود. كبرنا وكبر الحلم فصار قضية، حيث صار الأحمر دما ارتوى به أديم الأرض، وتساقط الشهداء في الربيع. ناحت الثكلى، وصدح صوت العاشقين زغاريد اهتزت لشداها الجبال قبل الأفئدة. صارت فلسطين عشقنا الأبدي.
أما الآن وقد مر من العمر عقود، لم تعد القضية تحتل تلك المساحة في الأنفس. إذ عرفت تراجعا يشي بأن أهل فلسطين أضحوا لوحدهم يكابدون الخسائر، ويشيعون الشهداء، أما صمت المنتظم الدولي، وتواطئ الإخوة العداء. فضاقت الشقة عليهم ليصبحوا استعارة هذه العالم المتخاذل الصامت.
هكذا يبدو المشهد الفلسطيني معتما، لأن من حملوا القضية تخلوا عنها. ونخص هنا المثقفين. فأي دور أضحى يضطلع به المثقفون تجاه القضية الفلسطينية؟
كلما ارتد بنا الزمن القريب تبين ما كانت تحظى به أرض فلسطين من كبير اهتمام، لدرجة أنها باتت قضية وطنية داخل الأوطان العربية، لكن سرعان ما تراجعت هذه القيمة لأسباب متعددة، منها القمع الذي لاقاه المثقفون المنحازون للقضية الفلسطينية، حيث كان يزج بكل ناشط أو كاتب عن القضية الفلسطينية في السجون، لأن الحكومات في مختلف البلدان ظلت ترى في فلسطين مهددا لاستقرارها وأمنها. ومن جهة ثانية انساق العديد من المثقفين وراء حملات التدجين فسخروا أقلامهم لغير الدفاع عن القضية. الفلسطينيون أنفسهم أعطوا الانطباع بالتواني والتخاذل حين انقسموا شيعا، ومنهم من سالم، ومنهم من باع القضية. فكان أن غلب السياسي على الثقافي، فلم نعد نسمع سوى أصوات قليلة هنا وهناك، في مناسبات متفاوتة، تدافع عن القضية. كما يجب الوقوف عند الاجتهاد اللامنهتي الذي سارت في ركبه الصهيونية العالمية من أجل التطبيع وفتح سفارات لها، وأضحى الصهاينة يحتلون المواقع المتقدمة في المحافل الدولية.
المثقف إذن، لم تعد له تلك السلطة الاعتبارية التي تؤجج وتفضح، وتواكب أبعاد القضية وتحولاتها. أصابهم نوع من الفتور نحوها. ساد الصمت. من يكتب الآن عن القضية؟ ألازالت فلسطين قضيتنا؟
لقد تعرضت الثقافة العربية للتحريف عن مسارها الطبيعي عبد عقود من الزمن، فتم تفريغها من القيم، والأخلاق والحرية، بسبب القهر والاستبداد. فإما أن يكون المثقف في خدمة أجندة السلطة الحاكمة، أو يكون مستقلا يعبر عن مواقفه دون خوف مما قد يلحقه من أذى. هؤلاء يحملون عبء القضية الفلسطينية كما يحملون هموم القضايا الإنسانية. وهم بذلك يناهضون المشروع الصهيوني العالمي الساعي لتصفية القضية الفلسطينية واعتبارها منتهية كما حدث في حروب الإبادة لعدد من الشعوب، منهم الهنود الحمر، وتدمير العراق، وسوريا، وخلق بؤر للتوتر في كل البلدان التي تبدو فيها بوادر الديمقراطية والحرية والعدالة، وتضطلع بمواقف واضح تجاه الشعب الفلسطيني.
دور المثقف يجب أن يرتقي ويتحول في اتجاه يقفز على الترهات وما يشهده التاريخ من تزوير، وما يتم زرعه من مغالطات بين الأجيال الحاضرة. لأن هناك من نشأ وهو على يقين تام بأن الصهاينة أصحاب حق، وأن الفلسطينيين إرهابيين. هذه المغالطات يجب أن يتصدى لها المثقف. لابد للمثقف أن ينوع أدوات اشتغاله بعيدا عن الشعارات التي تبح الحناجر والتشهير، والمواقف التي تطغى عليها العاطفة، لأن هذه مواقف الضعفاء. لابد من إعطاء القضية بعدها الإنساني وتحويلها إلى رمز للإبادة الجماعية لشعب تم اغتصاب أرضه على مسمع ومرأى العالم بأكمله. ثم لابد من التأريخ السليم للقضية وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من تصفية، واغتصاب لأراضيه، ومحاولات طمس هويته. دور المثقف أن ينبش في هذا التاريخ وكشف الحقائق لمواجهة التضليل ورفع اللبس عن التزوير والانتهاك الذي يتعرض تاريخ القضية. ثم استحضار البعد الاستعماري وما أقدمت عليه بلدان الاحتلال حين استعمرت بلدان جنوب القارة، وهو تاريخ أسود مأساوي في تاريخ الشعوب، وفلسطين جزء من هذا المخطط الاستعماري، ولو بشكل مختلف، لأن دول الاستعمار انتهكت الأرض والعرض، واستنزفت خيرات هذه البلدان، وعمدت لطمس هوياتها الثقافية. هذا الأمر تطلب عقودا من الزمن لتنزيل هذا المخطط الاستئصالي. وهو ما نجحت في بلورته دول الاستعمار ضمن مخطط إمبريالي صهيوني لتزييف وتحريف مجرى التاريخ.
هنا يكمن دور المثقف لفضح هذا المخطط من خلال مقاربات جديدة، وتناول تاريخ فلسطين والبلدان المستضعفة بالشكل الصحيح، لتستطيع الأجيال القادمة مواكبة الوقائع، وبالتالي تسعى لتحرير بلدانها. لهذا فأرض فلسطين في أمس الحاجة لمثل هذه الأدوار الطلائعية للمثقفين العرب بالخصوص، كي تظل القضية قائمة تراهن على ثورة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية من أجل تحرير الأرض، وربط القضية الفلسطينية بقضايا المجتمعات العربية وغياب الحريات بها.
تبدو القضية الفلسطينية مربط الفرس بالنسبة للشعوب العربية من أجل التحرر والانعتاق من التبعية واستبداد حكامها. لهذا نلاحظ سعي الحكومات لطمس كل رمزية للقضية الفلسطينية، أو ربطها بالقضايا الوطني للبلدان العربية. لأن المثقف هو القوة المؤثر والضاغطة التي تؤثر في الحكومات والمنتظم الدولي لتغيير مواقفه والرضوخ لإرادة الشعوب. السؤال إذن، عن أخلاق المثقف الذي لا يجب أن ينحني أو يخضع لأي سلطة كانت. ثم لابد من تعدد أصوات المثقفين وتحقيق الاختلاف على مستوى وجهات النظر بعيدا عن استبداد المثقف. لابد من البحث بشكل مختلف في اليهودية كهوية مفتعلة لا علاقة لها بالديانة السماوية اليهودية. لأن الصهاينة ركبوا العقيدة من أجل الوهم وتزييف التاريخ وخلق كيان لقيط لا يمت بصلة للديانة اليهودية، لأنه، وبكل بساطة، لا يمكن اعتبار اليهودية شخصية أو هوية، لأنها عقيدة ليس إلا.
يمكن للمثقف أن ينزل للحضيض في لحظة من اللحظات، ليضرب عرض الحائط بكل قيم المثقف الملتزم، الثائر، العضوي، الملتحم بقضايا الجماهير. لهذا نجدد عددا من المثقفين، أو أدعياء الثقافة، يتربصون الفرص لبيع بضاعتهم. هذا ما حدث للقضية، إذ تخلى عنها المثقفون من أهلها ومن غير أهلها، لتضيق الدائرة على شعب فلسطين، ويم الالتفاف على القضية، لتصبح احتفالية للبعض، وورقة ضغط بالنسبة للآخرين. كل يهرول لتزول القضية مراهنا على الزمن والأجيال المقبلة، التي لا تعرف عن فلسطين سوى الصراع حول الأرض بين الصهاينة والفلسطينيين، في حين أن التاريخ الحقيقي الذي يجب أن تتعلمه الأجيال وتعيه الشعوب، هو أن أرض فلسطين للفلسطينيين وليس لغيرهم. لا يمكن أن نعادل بين الحقيقة والوهم.
هنا تتجلى الحاجة للمثقف الصادق ليكشف اللبس عن تزييف التاريخ، بعيدا عن الشعارات التي تبح الحناجر دون طائل. المثقف وحده دون غيره هو القادر على تسليط ضوء الحقيقة وإجلاء العتمة عن واقع فلسطين منذ النشأة إلى الزمن الراهن. كما أن مسؤولية المثقف تكمن في فضح المتاجرين بالقضية من الفلسطينيين أنفسهم.
لقد عمد الصهاينة عبر العالم إلى التشكيك في القضية، وتموقعوا على نفس العتبة التي عليها الفلسطينيون، فأصبحوا يرددون خطاب الحق في الأرض متكئي على تاريخ مفتعل من نسج تسلطهم، وعقيدة هي بريئة من مزاعمهم، في عمل هو سلوك العصابات.
ثم إن القضية الفلسطينية تعاني أكثر بسبب الانقسامات والشرخ الداخلي، سواء بين صفوف المقاومة، أو جناح المثقفين بسبب البحث عن الهوية الحزبية، ومناصرة الأيديولوجيات على حساب القضية. ففسد النضال، والإعلام، وانبطح المثقف بسبب الإغراءات والنزوع نحو المصالح الذاتية.
المثقف هو لسان حال الشعب، فإن خرص انتهك حق الشعب، وأضحى متواطئا بقلمه أو بصمته. لا يمكن لأي كان القيام بوظيفة المثقف، فهو وحده المخول له القيام بهذا الدور(2). ويسود مفهوم مغلوط عند عموم الناس في تعريف المثقف كونه “ذلك الذي يحسن القراءة والكتابة، ذلك الذي يمارس نشاطا ذهنيا، سواء كان طبيبا، كاتبا، مترجما، مهندسا، مدرسا، أم كادرا” (3).
لا ينبغي أن ننكر الحضور القوي للمثقف في العالم العربي، خاصة بعد هزيمة 1967م، بما لها وما عليها، حيث تراوحت التنظيرات بين جلد الذات، وبين الخيانة والخيبة. كانت الهزيمة مفصلية في مسار القضية الفلسطينية، وأعطت صورة جلية عن حجم العدو الصهيوني مقابل الأنظمة العربية. فشكلت بذاك صدمة لا زالت آثارها سارية إلى الزمن الراهن. في هذا السياق يرى المفكر المغربي عبد الله العروي أن المثقف هو “المفكر أو المتأدب أو الباحث الجامعي، وفي بعض الأحيان المتعلم البسيط. بيد أن المفهوم لا يكون أداة للتحليل في العلوم الاجتماعية إلا إذا أطلق على شخصية تظهر في ظروف جد خاصة” (4).
لا يمنك حصر تعريف واحد للمثقف، بل يمكن حصر نوع المثقف من خلال ما يقدمه للقضية الفلسطينية ولجميع القضايا الإنسانية، وعن دوره الذي يجب أيضطلع في خدمة هذه القضايا. فما أكثر المثقفين حين تعدهم، وما أدناهم حيث مواقفهم.
الهوامش
1 – جون بول سارتر، دفاع عن المثقفين، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، 1979م، ص. 33.
2 – جون كاميت، غرامشي: حياته وأعماله، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984. ص 267.
3 – داريوش شايغان، النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا، دار الساقي، بيروت، 1991، ص. 145.
4 – عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، دار التنوير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2 ، 1984، ص. 172