المثقف بين القضايا الإنسانية والنرجسية الزائدة .. أي دور تجاه القضية الفلسطينية؟

 لامية بودشيش

إن‭ ‬المثقف‭ ‬يعني‭ ‬الشخص‭ ‬العاقل‭ ‬المستنير،‭ ‬جامح‭ ‬الفكر،‭ ‬جامع‭ ‬العلوم،‭ ‬وبذلك‭ ‬فهو‭ ‬يمثل‭ ‬نهضة‭ ‬الأمة‭ ‬وحضارتها‭. ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬دور‭ ‬المثقف‭ ‬هو‭ ‬تنوير‭ ‬الفكر،‭ ‬وتصحيح‭ ‬الوعي،‭ ‬وترميم‭ ‬العقول‭. ‬إن‭ ‬مهمة‭ ‬المثقف‭ ‬ليست‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭. ‬المثقف‭ ‬هو‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يتدخل‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬يعنيه،‭ ‬ويمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الجهر‭ ‬بالحقيقة‭ (‬1‭). ‬لهذا‭ ‬كلما‭ ‬ورد‭ ‬ذكر‭ ‬المثقف‭ ‬إلا‭ ‬وتم‭ ‬ربطه‭ ‬بالسلطة،‭ ‬أي‭ ‬علاقته‭ ‬السلطة‭ ‬ومدى‭ ‬التنافر‭ ‬أو‭ ‬الانبطاح‭ ‬لشروطها‭. ‬فالمثقف‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬خيار‭ ‬ثالث،‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مع‭ ‬قضايا‭ ‬المجتمع‭ ‬والشعب،‭ ‬أو‭ ‬يحلق‭ ‬خارج‭ ‬محيطه‭.‬

ويتخذ‭ ‬المثقف‭ ‬عدة‭ ‬مفاهيم،‭ ‬منها‭ “‬المثقف‭”‬،‭ ‬و‭”‬الأنتلجنسي‭”‬،‭ ‬و‭”‬المثقف‭ ‬العضوي‭”‬،‭ ‬و‭”‬المثقف‭ ‬العمومي‭”. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يتضح‭ ‬الاختلاف‭ ‬واللبس‭ ‬الذي‭ ‬يشوب‭ ‬تعريف‭ ‬المثقف،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الدور‭ ‬أو‭ ‬الأدوار‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يضطلع‭ ‬بها‭. ‬ثم‭ ‬مثقفو‭ ‬الأنظمة‭ ‬المستبدة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الثورة،‭ ‬وهم‭ ‬يمثلون‭ ‬تلك‭ ‬الفئة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬الذين‭ ‬يخدمون‭ ‬أجندة‭ ‬النظام‭ ‬السلطوي‭ ‬القائم‭ ‬ضد‭ ‬مصالح‭ ‬الشعب‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إذن‭ ‬للمثقف‭ ‬أن‭ ‬يتخذ‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الصفات،‭ ‬لابد‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الوقوف‭ ‬والتموضع‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬محددة،‭ ‬أي‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يتصف‭ ‬بالوضوح‭.  

فلسطين‭ ‬ذلك‭ ‬الجرح‭ ‬الغائر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يندمل‭. ‬حملناها‭ ‬منذ‭ ‬الصبا‭ ‬حلما،‭ ‬ولحنا‭ ‬للوجود‭. ‬كبرنا‭ ‬وكبر‭ ‬الحلم‭ ‬فصار‭ ‬قضية،‭ ‬حيث‭ ‬صار‭ ‬الأحمر‭ ‬دما‭ ‬ارتوى‭ ‬به‭ ‬أديم‭ ‬الأرض،‭ ‬وتساقط‭ ‬الشهداء‭ ‬في‭ ‬الربيع‭. ‬ناحت‭ ‬الثكلى،‭ ‬وصدح‭ ‬صوت‭ ‬العاشقين‭ ‬زغاريد‭ ‬اهتزت‭ ‬لشداها‭ ‬الجبال‭ ‬قبل‭ ‬الأفئدة‭. ‬صارت‭ ‬فلسطين‭ ‬عشقنا‭ ‬الأبدي‭.‬

أما‭ ‬الآن‭ ‬وقد‭ ‬مر‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬عقود،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬القضية‭ ‬تحتل‭ ‬تلك‭ ‬المساحة‭ ‬في‭ ‬الأنفس‭. ‬إذ‭ ‬عرفت‭ ‬تراجعا‭ ‬يشي‭ ‬بأن‭ ‬أهل‭ ‬فلسطين‭ ‬أضحوا‭ ‬لوحدهم‭ ‬يكابدون‭ ‬الخسائر،‭ ‬ويشيعون‭ ‬الشهداء،‭ ‬أما‭ ‬صمت‭ ‬المنتظم‭ ‬الدولي،‭ ‬وتواطئ‭ ‬الإخوة‭ ‬العداء‭. ‬فضاقت‭ ‬الشقة‭ ‬عليهم‭ ‬ليصبحوا‭ ‬استعارة‭ ‬هذه‭ ‬العالم‭ ‬المتخاذل‭ ‬الصامت‭. ‬

هكذا‭ ‬يبدو‭ ‬المشهد‭ ‬الفلسطيني‭ ‬معتما،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬حملوا‭ ‬القضية‭ ‬تخلوا‭ ‬عنها‭. ‬ونخص‭ ‬هنا‭ ‬المثقفين‭. ‬فأي‭ ‬دور‭ ‬أضحى‭ ‬يضطلع‭ ‬به‭ ‬المثقفون‭ ‬تجاه‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية؟‭ ‬

كلما‭ ‬ارتد‭ ‬بنا‭ ‬الزمن‭ ‬القريب‭ ‬تبين‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تحظى‭ ‬به‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬من‭ ‬كبير‭ ‬اهتمام،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنها‭ ‬باتت‭ ‬قضية‭ ‬وطنية‭ ‬داخل‭ ‬الأوطان‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تراجعت‭ ‬هذه‭ ‬القيمة‭ ‬لأسباب‭ ‬متعددة،‭ ‬منها‭ ‬القمع‭ ‬الذي‭ ‬لاقاه‭ ‬المثقفون‭ ‬المنحازون‭ ‬للقضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يزج‭ ‬بكل‭ ‬ناشط‭ ‬أو‭ ‬كاتب‭ ‬عن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬السجون،‭ ‬لأن‭ ‬الحكومات‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬البلدان‭ ‬ظلت‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬مهددا‭ ‬لاستقرارها‭ ‬وأمنها‭. ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭ ‬انساق‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬وراء‭ ‬حملات‭ ‬التدجين‭ ‬فسخروا‭ ‬أقلامهم‭ ‬لغير‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬القضية‭. ‬الفلسطينيون‭ ‬أنفسهم‭ ‬أعطوا‭ ‬الانطباع‭ ‬بالتواني‭ ‬والتخاذل‭ ‬حين‭ ‬انقسموا‭ ‬شيعا،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬سالم،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬باع‭ ‬القضية‭. ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬غلب‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬الثقافي،‭ ‬فلم‭ ‬نعد‭ ‬نسمع‭ ‬سوى‭ ‬أصوات‭ ‬قليلة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬متفاوتة،‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬القضية‭. ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬الاجتهاد‭ ‬اللامنهتي‭ ‬الذي‭ ‬سارت‭ ‬في‭ ‬ركبه‭ ‬الصهيونية‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التطبيع‭ ‬وفتح‭ ‬سفارات‭ ‬لها،‭ ‬وأضحى‭ ‬الصهاينة‭ ‬يحتلون‭ ‬المواقع‭ ‬المتقدمة‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬الدولية‭.‬

المثقف‭ ‬إذن،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬له‭ ‬تلك‭ ‬السلطة‭ ‬الاعتبارية‭ ‬التي‭ ‬تؤجج‭ ‬وتفضح،‭ ‬وتواكب‭ ‬أبعاد‭ ‬القضية‭ ‬وتحولاتها‭. ‬أصابهم‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الفتور‭ ‬نحوها‭. ‬ساد‭ ‬الصمت‭. ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬الآن‭ ‬عن‭ ‬القضية؟‭ ‬ألازالت‭ ‬فلسطين‭ ‬قضيتنا؟

لقد‭ ‬تعرضت‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬للتحريف‭ ‬عن‭ ‬مسارها‭ ‬الطبيعي‭ ‬عبد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬فتم‭ ‬تفريغها‭ ‬من‭ ‬القيم،‭ ‬والأخلاق‭ ‬والحرية،‭ ‬بسبب‭ ‬القهر‭ ‬والاستبداد‭. ‬فإما‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬أجندة‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬أو‭ ‬يكون‭ ‬مستقلا‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬مواقفه‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يلحقه‭ ‬من‭ ‬أذى‭. ‬هؤلاء‭ ‬يحملون‭ ‬عبء‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬كما‭ ‬يحملون‭ ‬هموم‭ ‬القضايا‭ ‬الإنسانية‭. ‬وهم‭ ‬بذلك‭ ‬يناهضون‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬العالمي‭ ‬الساعي‭ ‬لتصفية‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬واعتبارها‭ ‬منتهية‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬الإبادة‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الشعوب،‭ ‬منهم‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر،‭ ‬وتدمير‭ ‬العراق،‭ ‬وسوريا،‭ ‬وخلق‭ ‬بؤر‭ ‬للتوتر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬فيها‭ ‬بوادر‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والحرية‭ ‬والعدالة،‭ ‬وتضطلع‭ ‬بمواقف‭ ‬واضح‭ ‬تجاه‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭. ‬

دور‭ ‬المثقف‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يرتقي‭ ‬ويتحول‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬يقفز‭ ‬على‭ ‬الترهات‭ ‬وما‭ ‬يشهده‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬تزوير،‭ ‬وما‭ ‬يتم‭ ‬زرعه‭ ‬من‭ ‬مغالطات‭ ‬بين‭ ‬الأجيال‭ ‬الحاضرة‭. ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬نشأ‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬تام‭ ‬بأن‭ ‬الصهاينة‭ ‬أصحاب‭ ‬حق،‭ ‬وأن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬إرهابيين‭. ‬هذه‭ ‬المغالطات‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتصدى‭ ‬لها‭ ‬المثقف‭. ‬لابد‭ ‬للمثقف‭ ‬أن‭ ‬ينوع‭ ‬أدوات‭ ‬اشتغاله‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الشعارات‭ ‬التي‭ ‬تبح‭ ‬الحناجر‭ ‬والتشهير،‭ ‬والمواقف‭ ‬التي‭ ‬تطغى‭ ‬عليها‭ ‬العاطفة،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬مواقف‭ ‬الضعفاء‭. ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إعطاء‭ ‬القضية‭ ‬بعدها‭ ‬الإنساني‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬للإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬لشعب‭ ‬تم‭ ‬اغتصاب‭ ‬أرضه‭ ‬على‭ ‬مسمع‭ ‬ومرأى‭ ‬العالم‭ ‬بأكمله‭. ‬ثم‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التأريخ‭ ‬السليم‭ ‬للقضية‭ ‬وما‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬من‭ ‬تصفية،‭ ‬واغتصاب‭ ‬لأراضيه،‭ ‬ومحاولات‭ ‬طمس‭ ‬هويته‭. ‬دور‭ ‬المثقف‭ ‬أن‭ ‬ينبش‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬وكشف‭ ‬الحقائق‭ ‬لمواجهة‭ ‬التضليل‭ ‬ورفع‭ ‬اللبس‭ ‬عن‭ ‬التزوير‭ ‬والانتهاك‭ ‬الذي‭ ‬يتعرض‭ ‬تاريخ‭ ‬القضية‭. ‬ثم‭ ‬استحضار‭ ‬البعد‭ ‬الاستعماري‭ ‬وما‭ ‬أقدمت‭ ‬عليه‭ ‬بلدان‭ ‬الاحتلال‭ ‬حين‭ ‬استعمرت‭ ‬بلدان‭ ‬جنوب‭ ‬القارة،‭ ‬وهو‭ ‬تاريخ‭ ‬أسود‭ ‬مأساوي‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعوب،‭ ‬وفلسطين‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المخطط‭ ‬الاستعماري،‭ ‬ولو‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف،‭ ‬لأن‭ ‬دول‭ ‬الاستعمار‭ ‬انتهكت‭ ‬الأرض‭ ‬والعرض،‭ ‬واستنزفت‭ ‬خيرات‭ ‬هذه‭ ‬البلدان،‭ ‬وعمدت‭ ‬لطمس‭ ‬هوياتها‭ ‬الثقافية‭. ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬تطلب‭ ‬عقودا‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬لتنزيل‭ ‬هذا‭ ‬المخطط‭ ‬الاستئصالي‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬بلورته‭ ‬دول‭ ‬الاستعمار‭ ‬ضمن‭ ‬مخطط‭ ‬إمبريالي‭ ‬صهيوني‭ ‬لتزييف‭ ‬وتحريف‭ ‬مجرى‭ ‬التاريخ‭.‬

هنا‭ ‬يكمن‭ ‬دور‭ ‬المثقف‭ ‬لفضح‭ ‬هذا‭ ‬المخطط‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقاربات‭ ‬جديدة،‭ ‬وتناول‭ ‬تاريخ‭ ‬فلسطين‭ ‬والبلدان‭ ‬المستضعفة‭ ‬بالشكل‭ ‬الصحيح،‭ ‬لتستطيع‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬مواكبة‭ ‬الوقائع،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تسعى‭ ‬لتحرير‭ ‬بلدانها‭. ‬لهذا‭ ‬فأرض‭ ‬فلسطين‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأدوار‭ ‬الطلائعية‭ ‬للمثقفين‭ ‬العرب‭ ‬بالخصوص،‭ ‬كي‭ ‬تظل‭ ‬القضية‭ ‬قائمة‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬ثورة‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬والشعوب‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحرير‭ ‬الأرض،‭ ‬وربط‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بقضايا‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬وغياب‭ ‬الحريات‭ ‬بها‭. ‬

تبدو‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مربط‭ ‬الفرس‭ ‬بالنسبة‭ ‬للشعوب‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التحرر‭ ‬والانعتاق‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬واستبداد‭ ‬حكامها‭. ‬لهذا‭ ‬نلاحظ‭ ‬سعي‭ ‬الحكومات‭ ‬لطمس‭ ‬كل‭ ‬رمزية‭ ‬للقضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬أو‭ ‬ربطها‭ ‬بالقضايا‭ ‬الوطني‭ ‬للبلدان‭ ‬العربية‭. ‬لأن‭ ‬المثقف‭ ‬هو‭ ‬القوة‭ ‬المؤثر‭ ‬والضاغطة‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬الحكومات‭ ‬والمنتظم‭ ‬الدولي‭ ‬لتغيير‭ ‬مواقفه‭ ‬والرضوخ‭ ‬لإرادة‭ ‬الشعوب‭. ‬السؤال‭ ‬إذن،‭ ‬عن‭ ‬أخلاق‭ ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ينحني‭ ‬أو‭ ‬يخضع‭ ‬لأي‭ ‬سلطة‭ ‬كانت‭. ‬ثم‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬تعدد‭ ‬أصوات‭ ‬المثقفين‭ ‬وتحقيق‭ ‬الاختلاف‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬استبداد‭ ‬المثقف‭. ‬لابد‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ ‬في‭ ‬اليهودية‭ ‬كهوية‭ ‬مفتعلة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالديانة‭ ‬السماوية‭ ‬اليهودية‭. ‬لأن‭ ‬الصهاينة‭ ‬ركبوا‭ ‬العقيدة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوهم‭ ‬وتزييف‭ ‬التاريخ‭ ‬وخلق‭ ‬كيان‭ ‬لقيط‭ ‬لا‭ ‬يمت‭ ‬بصلة‭ ‬للديانة‭ ‬اليهودية،‭ ‬لأنه،‭ ‬وبكل‭ ‬بساطة،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬اليهودية‭ ‬شخصية‭ ‬أو‭ ‬هوية،‭ ‬لأنها‭ ‬عقيدة‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭. ‬

يمكن‭ ‬للمثقف‭ ‬أن‭ ‬ينزل‭ ‬للحضيض‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬اللحظات،‭ ‬ليضرب‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬بكل‭ ‬قيم‭ ‬المثقف‭ ‬الملتزم،‭ ‬الثائر،‭ ‬العضوي،‭ ‬الملتحم‭ ‬بقضايا‭ ‬الجماهير‭.‬‭ ‬لهذا‭ ‬نجدد‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬المثقفين،‭ ‬أو‭ ‬أدعياء‭ ‬الثقافة،‭ ‬يتربصون‭ ‬الفرص‭ ‬لبيع‭ ‬بضاعتهم‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬للقضية،‭ ‬إذ‭ ‬تخلى‭ ‬عنها‭ ‬المثقفون‭ ‬من‭ ‬أهلها‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬أهلها،‭ ‬لتضيق‭ ‬الدائرة‭ ‬على‭ ‬شعب‭ ‬فلسطين،‭ ‬ويم‭ ‬الالتفاف‭ ‬على‭ ‬القضية،‭ ‬لتصبح‭ ‬احتفالية‭ ‬للبعض،‭ ‬وورقة‭ ‬ضغط‭ ‬بالنسبة‭ ‬للآخرين‭. ‬كل‭ ‬يهرول‭ ‬لتزول‭ ‬القضية‭ ‬مراهنا‭ ‬على‭ ‬الزمن‭ ‬والأجيال‭ ‬المقبلة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭ ‬سوى‭ ‬الصراع‭ ‬حول‭ ‬الأرض‭ ‬بين‭ ‬الصهاينة‭ ‬والفلسطينيين،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتعلمه‭ ‬الأجيال‭ ‬وتعيه‭ ‬الشعوب،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬وليس‭ ‬لغيرهم‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعادل‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والوهم‭.‬

هنا‭ ‬تتجلى‭ ‬الحاجة‭ ‬للمثقف‭ ‬الصادق‭ ‬ليكشف‭ ‬اللبس‭ ‬عن‭ ‬تزييف‭ ‬التاريخ،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الشعارات‭ ‬التي‭ ‬تبح‭ ‬الحناجر‭ ‬دون‭ ‬طائل‭. ‬المثقف‭ ‬وحده‭ ‬دون‭ ‬غيره‭ ‬هو‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬تسليط‭ ‬ضوء‭ ‬الحقيقة‭ ‬وإجلاء‭ ‬العتمة‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬فلسطين‭ ‬منذ‭ ‬النشأة‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬الراهن‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مسؤولية‭ ‬المثقف‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬فضح‭ ‬المتاجرين‭ ‬بالقضية‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬أنفسهم‭.‬

لقد‭ ‬عمد‭ ‬الصهاينة‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬التشكيك‭ ‬في‭ ‬القضية،‭ ‬وتموقعوا‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬العتبة‭ ‬التي‭ ‬عليها‭ ‬الفلسطينيون،‭ ‬فأصبحوا‭ ‬يرددون‭ ‬خطاب‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬متكئي‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬مفتعل‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬تسلطهم،‭ ‬وعقيدة‭ ‬هي‭ ‬بريئة‭ ‬من‭ ‬مزاعمهم،‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬هو‭ ‬سلوك‭ ‬العصابات‭. ‬

ثم‭ ‬إن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬تعاني‭ ‬أكثر‭ ‬بسبب‭ ‬الانقسامات‭ ‬والشرخ‭ ‬الداخلي،‭ ‬سواء‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬المقاومة،‭ ‬أو‭ ‬جناح‭ ‬المثقفين‭ ‬بسبب‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬الحزبية،‭ ‬ومناصرة‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬القضية‭. ‬ففسد‭ ‬النضال،‭ ‬والإعلام،‭ ‬وانبطح‭ ‬المثقف‭ ‬بسبب‭ ‬الإغراءات‭ ‬والنزوع‭ ‬نحو‭ ‬المصالح‭ ‬الذاتية‭.‬

المثقف‭ ‬هو‭ ‬لسان‭ ‬حال‭ ‬الشعب،‭ ‬فإن‭ ‬خرص‭ ‬انتهك‭ ‬حق‭ ‬الشعب،‭ ‬وأضحى‭ ‬متواطئا‭ ‬بقلمه‭ ‬أو‭ ‬بصمته‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأي‭ ‬كان‭ ‬القيام‭ ‬بوظيفة‭ ‬المثقف،‭ ‬فهو‭ ‬وحده‭ ‬المخول‭ ‬له‭ ‬القيام‭ ‬بهذا‭ ‬الدور‭(‬2‭). ‬ويسود‭ ‬مفهوم‭ ‬مغلوط‭ ‬عند‭ ‬عموم‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬تعريف‭ ‬المثقف‭ ‬كونه‭ “‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يحسن‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يمارس‭ ‬نشاطا‭ ‬ذهنيا،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬طبيبا،‭ ‬كاتبا،‭ ‬مترجما،‭ ‬مهندسا،‭ ‬مدرسا،‭ ‬أم‭ ‬كادرا‭” (‬3‭).‬

لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬ننكر‭ ‬الحضور‭ ‬القوي‭ ‬للمثقف‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬1967م،‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬وما‭ ‬عليها،‭ ‬حيث‭ ‬تراوحت‭ ‬التنظيرات‭ ‬بين‭ ‬جلد‭ ‬الذات،‭ ‬وبين‭ ‬الخيانة‭ ‬والخيبة‭. ‬كانت‭ ‬الهزيمة‭ ‬مفصلية‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وأعطت‭ ‬صورة‭ ‬جلية‭ ‬عن‭ ‬حجم‭ ‬العدو‭ ‬الصهيوني‭ ‬مقابل‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭. ‬فشكلت‭ ‬بذاك‭ ‬صدمة‭ ‬لا‭ ‬زالت‭ ‬آثارها‭ ‬سارية‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬الراهن‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يرى‭ ‬المفكر‭ ‬المغربي‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬هو‭ “‬المفكر‭ ‬أو‭ ‬المتأدب‭ ‬أو‭ ‬الباحث‭ ‬الجامعي،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬المتعلم‭ ‬البسيط‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬المفهوم‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬أداة‭ ‬للتحليل‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬أطلق‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬جد‭ ‬خاصة‭” (‬4‭).‬

لا‭ ‬يمنك‭ ‬حصر‭ ‬تعريف‭ ‬واحد‭ ‬للمثقف،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬حصر‭ ‬نوع‭ ‬المثقف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭ ‬للقضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ولجميع‭ ‬القضايا‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وعن‭ ‬دوره‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أيضطلع‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭. ‬فما‭ ‬أكثر‭ ‬المثقفين‭ ‬حين‭ ‬تعدهم،‭ ‬وما‭ ‬أدناهم‭ ‬حيث‭ ‬مواقفهم‭. ‬

الهوامش

1‭ – ‬جون‭ ‬بول‭ ‬سارتر،‭ ‬دفاع‭ ‬عن‭ ‬المثقفين،‭ ‬ترجمة‭ ‬جورج‭ ‬طرابيشي،‭ ‬دار‭ ‬الآداب،‭ ‬بيروت،‭ ‬1979م،‭ ‬ص‭. ‬33‭.‬

2‭ – ‬جون‭ ‬كاميت،‭ ‬غرامشي‭: ‬حياته‭ ‬وأعماله،‭ ‬ترجمة‭ ‬عفيف‭ ‬الرزاز،‭ ‬مؤسسة‭ ‬الأبحاث‭ ‬العربية،‭ ‬بيروت،‭ ‬1984‭. ‬ص‭ ‬267‭.‬

3‭ – ‬داريوش‭ ‬شايغان،‭ ‬النفس‭ ‬المبتورة‭: ‬هاجس‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا،‭ ‬دار‭ ‬الساقي،‭ ‬بيروت،‭ ‬1991،‭ ‬ص‭. ‬145‭.‬

4‭ – ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي،‭ ‬ثقافتنا‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬التاريخ،‭ ‬دار‭ ‬التنوير،‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي،‭ ‬الدار‭ ‬البيضاء،‭ ‬ط‭ ‬2‭ ‬،‭ ‬1984،‭ ‬ص‭. ‬172‭ ‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى