...
الافتتاحية

أزمة كبرى.. تحولات وقطائع

افتتاحية العدد 339

يمر‭ ‬العالم‭ ‬بأزمة‭ ‬كبرى‭ ‬ومتعددة‭ ‬الأبعاد،‭ ‬فبعد‭ ‬سنتين‭ ‬على‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬التي‭ ‬خلفت‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الضحايا،‭ ‬وألقت‭ ‬بعشرات‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬مهاوي‭ ‬الفقر،‭ ‬وأزمت‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬اندلعت‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬الأوكرانية‭ ‬التي‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬حدوث‭ ‬أزمات‭ ‬الطاقة،‭ ‬والمواد‭ ‬الأولية‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬وخاصة‭ ‬الحبوب،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الأسعار‭ ‬تتضاعف،‭ ‬وتصل‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭. ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت،‭ ‬استفحلت‭ ‬تداعيات‭ ‬التحولات‭ ‬المناخية،‭ ‬والأعاصير‭ ‬والفيضانات‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬مناطق،‭ ‬وجفاف‭ ‬قاس‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى‭ ‬كشمال‭ ‬أفريقيا‭. ‬

إن‭ ‬الأوضاع‭ ‬الدولية‭ ‬أصبحت‭ ‬مطبوعة‭ ‬بتصاعد‭ ‬الصراع‭ ‬الجيو‭-‬استراتيجي‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬بقيادة‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الأمريكية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والمحور‭ ‬الأوراسي‭ ‬بزعامة‭ ‬روسيا‭ ‬والصين‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬المقابلة،‭ ‬ويحمل‭ ‬هذا‭ ‬الصراع،‭ ‬مخاطر‭ ‬حقيقية‭ ‬بالتسبب‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬ثالثة‭ ‬قد‭ ‬تعجل‭ ‬بفناء‭ ‬البشرية‭. ‬فقمة‭ ‬مجموعة‭ ‬العشرين‭ ‬بأندونيسيا،‭ ‬ومؤتمر‭ ‬المناخ‭ ‬بشرم‭ ‬الشيخ‭ ‬بمصر،‭ ‬شكلا‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬فرصتين‭ ‬ثمينتين‭ ‬لتدارك‭ ‬الانزلاق‭ ‬السريع‭ ‬نحو‭ ‬الهاوية،‭ ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬القوى‭ ‬العظمى،‭ ‬وخاصة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬لازالت‭ ‬مصرة‭ ‬على‭ ‬إدامة‭ ‬أحاديتها‭ ‬القطبية،‭ ‬بممارسة‭ ‬الضغوط‭ ‬القوية‭ ‬على‭ ‬البلدان‭ ‬الصاعدة،‭ ‬لأنها‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬نمو‭ ‬حصة‭ ‬هذه‭ ‬الاخيرة‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬الدولية‭ ‬تهديدا‭ ‬لامتيازاتها‭ ‬وسلطتها‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تتمتع‭ ‬بهما‭ ‬طيلة‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية،‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬ونهاية‭ ‬الثنائية‭ ‬القطبية‭.‬

على‭ ‬المستوى‭ ‬الإقليمي،‭ ‬لازالت‭ ‬محاولات‭ ‬ترميم‭ ‬نظام‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية،‭ ‬محكومة‭ ‬بالحسابات‭ ‬الضيقة‭ ‬لأنظمة‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد‭ ‬المتسلطة‭ ‬على‭ ‬شعوب‭ ‬المنطقة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬الى‭ ‬المحيط‭ ‬الاطلسي‭. ‬والغريب‭ ‬والمؤلم،‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الانظمة‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬استثمار‭ ‬الفرصة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تتيحها‭ ‬التحولات‭ ‬الدولية‭ ‬الجديدة،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لإعادة‭ ‬بناء‭ ‬نظامها‭ ‬الإقليمي،‭ ‬وتحصين‭ ‬سيادتها،‭ ‬وحماية‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬من‭ ‬تغول‭ ‬اليمين‭ ‬الصهيوني‭ ‬المتطرف،‭ ‬وفرض‭ ‬حل‭ ‬الدولتين‭ ‬المنصوص‭ ‬عليه‭ ‬دوليا‭. ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬تخجل‭ ‬بعض‭ ‬الأنظمة‭ ‬في‭ ‬مد‭ ‬يدها‭ ‬للكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬وتطبيع‭ ‬علاقاتها‭ ‬معه،‭ ‬خوفا‭ ‬وطمعا‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الأمريكية‭ ‬من‭ ‬تهديدات‭ ‬إقليمية‭ ‬محتملة‭. ‬فالهواجس‭ ‬الأمنية،‭ ‬وما‭ ‬تمليه‭ ‬من‭ ‬خوض‭ ‬معارك‭ ‬استباقية‭ ‬ديبلوماسية‭ ‬واستخباراتية‭ ‬تتطلب‭ ‬تعبئة‭ ‬موارد‭ ‬ضخمة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬تلبية‭ ‬الحاجات‭ ‬الأساسية‭ ‬لشعوب‭ ‬المنطقة،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مطبوع‭ ‬بتداعيات‭ ‬الجائحة‭ ‬والجفاف‭ ‬والحرب‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭. ‬

في‭ ‬سياق‭ ‬كهذا،‭ ‬تستمر‭ ‬حكومة‭ ‬البورجوازية‭ ‬الريعية‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬في‭ ‬نهج‭ ‬سياسة‭ ‬تدبير‭ ‬الأزمة‭ ‬لصالح‭ ‬الأقلية‭ ‬الطبقية‭ ‬المسيطرة،‭ ‬متجاهلة‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بالنموذج‭ ‬التنموي‭ ‬الذي‭ ‬تطلب‭ ‬سنتين‭ ‬من‭ ‬النقاش‭ ‬والمشاورات‭ ‬لينتهي‭ ‬مثل‭ ‬سلفه‭ ‬تقرير‭ ‬الخمسينية‭ ‬بوضعه‭ ‬على‭ ‬الرفوف‭. ‬وللإشارة‭ ‬فإن‭ ‬قانون‭ ‬المالية‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬الأداة‭ ‬الأساسية‭ ‬للدولة‭ ‬لإنعاش‭ ‬الاقتصاد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دعم‭ ‬الاستثمار‭ ‬المنتج،‭ ‬والقدرة‭ ‬الشرائية‭ ‬للمستهلكين،‭ ‬ظل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬محكوما‭ ‬بنفس‭ ‬التوجهات‭ ‬السابقة،‭ ‬بل‭ ‬وتضمن‭ ‬إجراءات‭ ‬تمثل‭ ‬هجوما‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬شرائح‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬خوض‭ ‬فئات‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬لاحتجاجات‭ ‬غير‭ ‬معهودة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬السياسة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دعا‭ ‬لتنظيم‭ ‬التظاهرة‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬للجبهة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المغربية‭ ‬ليوم‭ ‬04‭ ‬دجنبر‭ ‬لمواجهة‭ ‬موجات‭ ‬الغلاء‭ ‬التي‭ ‬تجتاح‭ ‬البلاد‭ ‬بسبب‭ ‬اختيارات‭ ‬الدولة‭ ‬اللاشعبية‭.‬

لا‭ ‬مناص‭ ‬للقوى‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والتقدمية‭ ‬من‭ ‬خوض‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬جبهتين،‭ ‬الجبهة‭ ‬الداخلية‭ ‬ضد‭ ‬التراجعات‭ ‬الحقوقية‭ ‬وتغول‭ ‬السلطوية‭ ‬وقوى‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد،‭ ‬والجبهة‭ ‬الخارجية‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬الوحدة‭ ‬الترابية،‭ ‬والتصدي‭ ‬للمخططات‭ ‬الصهيونية‭ ‬والامبريالية‭ ‬واسقاط‭ ‬صفقة‭ ‬التطبيع‭ ‬المذلة‭ ‬والمخجلة‭.‬

في‭ ‬ذات‭ ‬الدينامية،‭ ‬تنخرط‭ ‬مكونات‭ ‬فيدرالية‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬الخطوات‭ ‬النهائية‭ ‬للوحدة‭ ‬الاندماجية‭ ‬لبناء‭ ‬قوة‭ ‬تقدمية‭ ‬وازنة‭ ‬بإمكانها‭ ‬المساهمة‭ ‬مع‭ ‬باقي‭ ‬القوى‭ ‬المناضلة‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬ميزان‭ ‬القوى،‭ ‬وتجاوز‭ ‬حالة‭ ‬الانسداد‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والحقوقي‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬جماهير‭ ‬شعبنا‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Seraphinite AcceleratorOptimized by Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.