الشهيد المهدي بن بركة.. كاريزمية الفكر والممارسة
◆ محمد امباركي
تخلد القوى التحررية العالمية بحلول سنة 2022، الذكرى 57 على اختطاف واغتيال الزعيم الأممي الشهيد المهدي بن بركة، ومعركة كشف الحقيقة حول الجهات التي تورطت في اغتياله مستمرة ومفتوحة وكل تاريخ 29 أكتوبر من كل سنة يقف رفاق ورفيقات الشهيد أمام مقهى ليب بباريس بشارع جيرمان دي بري لتجديد العهد والإصرار على كشف الحقيقة.. وهذه مسألة كافية للقول أنه لو كتب لهذا الرجل أن يعيش ولم تمتد إليه أيادي الغدر والاستبداد وهو في أوج عطائه ولا يتجاوز 45 سنة، لكان له شأن استثنائي في التوقيع على بصمات حقيقية في قيادة سفينة التغيير الديمقراطي في المغرب والتنمية المستقلة، مما قد يجعل هذا البلد في عداد تجارب سياسية متميزة يستحضرها التاريخ كما يستحضر تجارب التحرر العالمية رغم صعوباتها الجمة ( الشيلي، البرازيل، جنوب إفريقيا،….)، وهذه الفرضية ليست من باب التنجيم أو تقديس الرجل، بل إنها نابعة من كفاءة الشهيد المهدي ورؤيته السياسية الثاقبة وإشعاعه الدولي والأممي.. إنه في مصاف الرجالات الكبار القادمين من أدغال النضال الوطني والتقدمي والعالمي.
من هنا تجب الإشارة الى أن الشهيد المهدي عاش وأثر في منعرجات حركة التحرر الوطنية والعالمية بدء بالحركات الاستقلالية لإزاحة الاستعمار الأجنبي ثم النضال من أجل الديمقراطية بأفق اشتراكي أو ما سماه المهدي في وثيقة “الاختيار الثوري” بالأفق الثوري الجديد. ورغم أن حركة التحرر الوطني كما عاشها المهدي وكان من صناعها ومهندسيها نظريا وممارسة والتزاما، ظلت استراتيجيتها متقاطعة ومزدوجة بين التحرر من الاستعمار وبقاياه والقطع مع الحكم الاستبدادي والاستفراد بالسلطة، وبالتالي ف “البراديغم” المهيمن آنذاك على معظم فصائل الحركة التحررية هو القطع الثوري مع أنظمة سياسية سرعان ما اتضح أنها عميلة، بل وصنيعة الاستعمار أو ما سماه المهدي بالاستعمار الجديد، رغم تبنيها لشعارات الاستقلال الوطني كشكل من أشكال السرقة والسطو على سياسات المعارضة الجذرية، لكن هذا لا يمنع من تلمس والتقاط العديد من الأفكار والخلاصات التي تؤشر على امتلاك المهدي لوعي سياسي استباقي وثاقب ورؤية استشرافية فيما يتعلق بالتأسيس لمرحلة التغيير الديمقراطي. وتتجلى بعض ملامح هذه الرؤية الاستراتيجية للمرحلة بفكر وممارسة الشهيد المهدي، في كيفية قراءة المهدي لثلاث قضايا أساسية ترتبط بشكل جدلي مع استراتيجية التغيير الديمقراطي بأفق ثوري والتي تعكسها وثيقة الاختيار الثوري، وهي: طبيعة الحكم (المؤسسة الملكية)، موقع الجيش والسياسة الاقتصادية وملامح الأفق الثوري..
إن الفهم “السوسيولوجي” العميق للشهيد المهدي لتركيبة المجتمع المغربي آنذاك، وعدم نضج ممكنات التغيير الثوري وطبيعة المرحلة والحاجة إلى الوعي الديمقراطي والأداة السياسية القوية والمنظمة، هو الذي أملى عليه نهج خطة التسوية والتفاوض في سياق استراتيجية ذكية ومدروسة تتجه نحو تقويض أسس الحكم المطلق من الداخل، وأمام فشل هذه الخطة على قاعدة وعي القوى الطبقية المهيمنة بأن مصالحها ومصالح الاستعمار الجديد مهددة، لجأت الى القطع مع منطق التوافق الموروث عن مناخ النضال الوطني من أجل الاستقلال، حيث استشعر الشهيد المهدي ضرورة ممارسة النقد الذاتي في وثيقة الاختيار الثوري والذي عكسه قوله إن “التحليل النقدي لتسوية إيكس ليبان الذي لم نقم به سنة 1956 علينا أن نقوم به اليوم (أي سنة 1962)، حتى نستخلص منه في سياستنا الداخلية موقفا واضحا ومحددا بالنسبة الى التسويات أو الحلول الوسطى التي قد نضطر الى قبولها في المستقبل.. علينا ألا نقع مرة أخرى في خطأ إكس ليبان، ولا نتولى تبرير التسويات كأنها حلول كاملة، والاحتفاء بها كأنها انتصارات تخدم في الواقع أغراضا انتهازية” (الاختيار الثوري. ص : 52).
مجمل القول، إن اتفاقية إكس ليبان التي نتج عنها استقلال جزئي، والانقلاب على حكومة عبد الله ابراهيم، وملاحقة الشهيد المهدي ثم اختطافه واغتياله يوم 29 أكتوبر سنة 1965، شكلت لحظات فارقة في احتداد الصراع السياسي بين النظام والحركة التقدمية بقيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبالتالي وقف مسلسل أي تفاوض أو تقارب قد يؤسس لتعاقد سياسي واجتماعي تتحقق معه أمنية الانتقال الديمقراطي، كما تعتبر أيضا، فترات مرجعية في تفسير تحولات الحقل السياسي ما بعد 1965، حيث في مقابل النجاح الجزئي للنظام السياسي في ضبط ديناميات الحقل السياسي والاجتماعي وتجاوز اللحظات العصيبة خاصة في سياق “الربيع الديمقراطي العربي “( حركة 20 فبراير، حراك الريف..)، وذلك من خلال إعادة تجديد وبناء تحالفاته وتكتيكاته حسب متطلبات كل مرحلة داخليا وخارجيا، والملحوظ أن هناك فشل لقوى الصف الوطني والديمقراطي رغم تبني استراتيجية النضال الديمقراطي في الإمساك بمفاتيح الانتقال الديمقراطي سواء ما بعد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975 أو خلال مرحلة التناوب التوافقي (1998-2002) أو خلال مرحلة الحراك السياسي المرتبط بالسياقات الإقليمية المنتفضة ضد الفساد والاستبداد خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وهكذا يمكن القول أن الوطن خسر كثيرا طيلة أزيد من ستة عقود بعد الاستقلال من خلال إجهاض التحول السلمي وغير السلمي نحو الديمقراطية (1956-2022)، وتظل جثة المهدي الزعيم، المفكر والشهيد، جاثمة على صدور قوى الرجعية والاستبداد، وشاهدة على أن المهدي سيظل الحاضر دوما في قلب كل صيرورة مستقبلية للبناء الديمقراطي والتحرر الوطني واستنشاق هواء الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في أفق المجتمع الاشتراكي.. أليس المهدي هو القائل إن “الشعور بالمسؤولية هو الذي دفع المخلصين من شعبنا الى التضحية بالمراتب والمال والجاه، وسلوك طريق الكفاح والسجن والنفي دفاعا عن الوطن” ؟ (هكذا تكلم المهدي بن بركة، كتاب من منشورات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، أكتوبر 2015).