حرب الطاقة: الوجه الآخر للحرب الباردة الجديدة
◆ د. علي بوطوالة - دكتور في العلوم الاقتصادية
حرب المواقع الطاقية الطاقية
منذ الثورة الصناعية الأولى، أصبحت الطاقة المحرك الأساسي للتنمية والتقدم، ولم يتغير هذا المعطى الجوهري رغم دخول البشرية عصر الثورة الرقمية، لذلك ظلت قضية الطاقة تحظى بالأولوية في سياسات الدول الصناعية المتقدمة. ويكفي التذكير بما أحدثته كل من الصدمة البترولية الأولى (أكتوبر 1973) والصدمة البترولية الثانية (1979) من تداعيات كارثية على البلدان الغربية، وما أدت إليه من تحولات سياسية كبرى، تمثلت في وصول اليمين المحافظ للسلطة في كل من بريطانيا (مارغريت تاتشر) وأمريكا (رونالد ريغان).
بعد حوالي أربعة عقود من الزمن، تعود أزمة الطاقة لتحتل صدارة النشرات الإخبارية وعناوين الصحف والمجلات، واهتمامات المدونين على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن المتسبب هذه المرة في الأزمة ليست الدول المصدرة للبترول، بل الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الأخيرة، بعد تحولها الى أكبر منتج عالمي للبترول والغاز في السنوات الأخيرة (12 مليون برميل يوميا) غيّرت جذريا سياستها الطاقية، واستغلت الحرب الأخيرة لدفع دول أوروبا المستوردة للغاز والبترول من روسيا، للتوقف عن ذلك، والاعتماد على بدائل منها الغاز الأمريكي المسال.
هكذا حولت أمريكا مصاعب أوروبا إلى فوائد لشركاتها الطاقية، وإذا علمنا أن أوروبا كانت تستورد حوالي نصف الصادرات الروسية من البترول و41%من الغاز، فإنه يتبين لنا أن روسيا وأوروبا هما المتضررتان من توقف هذه الصادرات، وأن الصادرات الأمريكية لأوروبا من البترول والغاز المسال، بالإضافة لثمنها الباهض مقارنة بالصادرات الروسية، لا يمكنها تعويض الكميات التي تستوردها أوروبا من روسيا، لذلك مارست إدارة بايدن ضغوطات على دول الخليج لزيادة إنتاجها وصادراتها نحو أوروبا، وحاولت استدراج فنزويلا وإيران لتحقيق نفس الهدف، لكن كل مناوراتها فشلت لحد الآن، وأزمة الطاقة بالبلدان الأوروبية تزداد حدة مع قدوم فصل الشتاء، وهي أخطر أزمة تواجهها الشعوب الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت منذ بداية شهر أكتوبر باتخاذ إجراءات الاقتصاد في استعمال الطاقة. المفارقة أن الضحية الأولى للعقوبات المقررة من طرف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضد روسيا هي أوروبا نفسها، وحسب الخبراء، حتى لو ضاعفت الشركات الأمريكية المنتجة للغاز المسال إنتاجها ب50% فإن هذا الإنتاج الإضافي لن يصل للموانئ الأوروبية بسبب غياب البنيات التحتية الضرورية لذلك.
في هذا السياق، مثل القرار الأخير لمنظمة الدول المصدرة للبترول + روسيا بتخفيض الإنتاج بمليوني برميل يوميا صدمة للاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية، وعبر الرئيس الامريكي عن غضبه من القرار متهما السعودية بالانحياز لروسيا، علما أن هذه الأخيرة لم تنحز الا لمصالحها، ولكن السياق الذي اتخذ فيه القرار كشف فعلا مدى تراجع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية على حلفائها التقليديين الذين لم يسبق لهم أن تجرؤوا على الرفض الصريح لتوجيهاتها.
التوجه الروسي نحو العمق الأسيوي
يبدو أن القيادة الروسية كانت واعية ومتوقعة لردود فعل الغرب على عملياتها العسكرية في أوكرانيا، بدليل أنها لم تقرر الشروع في هذه العمليات الا بعد تمتين علاقاتها مع الصين، من خلال اجتماع القمة التي جمع الرئيسين الروسي والصيني في 4 فبراير/شباط 2022، أي عشرون يوما فقط قبل بداية الحرب. لقد شكلت معاهدة “الصداقة بلا حدود” التي تمّ إبرامها بين البلدين نقلة نوعية في الشراكة الاستراتيجية بينهما، رغم أنها لا تصل إلى مستوى تحالف عسكري مثل الناتو.
لقد تحقق بعد ذلك تطور هام في العلاقات الاقتصادية بين البلدين وارتفع التبادل التجاري، حيث تضاعف حجم التجارة البينية في الشهور الخمسة الاولى لسنة 2022 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2021 (65.8 مليار دولار بدل 28.9 مليار دولار). في مجال الطاقة بالضبط، تمّ إبرام عقد بين البلدين بقيمة 400 مليار دولار لنقل الغاز إلى الصين عبر أنبوب “Power of Siberia” الذي أصبح جاهزا للاستعمال منذ 2019، وتمّ الشروع في إنجاز أنبوب ثان الذي سيكون بمقدوره نقل 50 مليار متر مكعب من الغاز، وقد تمّ التوقيع أولا على عقد بين شركة غازبروم الروسية وشركة النفط الوطنية الصينية لتزويد الأولى للثانية بعشرة مليارات متر مكعب من الغاز.
التوجه شرقا كاختيار استراتيجي لروسيا تجسد أيضا في تطوير علاقاتها مع الهند التي استفادت هي الأخرى من السعر المنخفض للبترول والغاز المقدم لها من روسيا، وقررت بسبب ذلك مضاعفة مشترياتها من المادتين، وقد وصل مبلغ ما استوردته كل من الصين والهند وفق المعطيات المصرح بها خلال المنتدى الدولي الخامس للطاقة بموسكو يوم 12 أكتوبر الجاري الى 11 مليار دولار. في خطابه أمام الجلسة الافتتاحية لهذا المنتدى صرح الرئيس الروسي بوتين أن روسيا “تخطط للحفاظ على المستويات الحالية لإنتاجها وصادراتها من الطاقة الى حدود 2025”، وأوضح أن العقوبات على روسيا ووضع سقف لأسعار الطاقة يقوضان استقرار السوق الدولية للطاقة، وأن روسيا لن تبيع موارد الطاقة لمن يضع سقفا لها، وأن من يقف وراء تخريب خط السيل الشمالي الذي كان يزود البلدان الأوروبية بالغاز الروسي، يريد ضرب استقرار سوق الطاقة والسيطرة عليها، كما يستهدف تخريب العلاقات بين أوروبا وروسيا.
أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا ستستمر سنتين على الأقل وفق تقديرات الخبراء، ورغم إجراءات الدعم التي اتخذتها ألمانيا وباقي البلدان الأوروبية للمقاولات والمستهلكين للتخفيف من تداعيات الأزمة، سيعرف الاقتصاد الأوروبي تباطؤا، كما ستستمر أسعار البضائع والخدمات في الارتفاع وفق توقعات صندوق النقد الدولي التي حذرت من آفاق قاتمة للاقتصاد العالمي في السنتين القادمتين.
أزمة الطاقة وظاهرة الركود التضخمي (Stagflation)
من المعروف لدى الاقتصاديين أن ظاهرتي الركود الاقتصادي، وارتفاع نسبة التضخم نادرا ما تجتمعان، لأن لكل منهما ميكانيزمات خاصة ومعاكسة لميكانيزمات الأخرى. فالتضخم، أي الارتفاع العام لأسعار جميع السلع والخدمات، ينتج عادة عن ارتفاع الطلب العام في الأسواق، الناتج بدوره عن تحسن المداخيل والقدرة الشرائية للمستهلكين، المترتب عن ارتفاع الإنتاج بفعل تحسن توظيف عوامل الإنتاج (العمل والرأسمال)، في حين، يؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي الى إفلاس العديد من المقاولات وتقليص الأنشطة الانتاجية، وهذا يعني تسريح الاف العمال والعاملات وارتفاع نسبة البطالة، وبالتالي تراجع الطلب العام بفعل تراجع القدرة الشرائية في السوق.
ظاهرة الركود التضخمي، تعد إذن في رأي الاقتصاديين ظاهرة استثنائية، لأنها تجمع بين توسع البطالة وارتفاع الأسعار، وقد حدثت فقط في منتصف سبعينات القرن الماضي، مباشرة بعد الصدمة البترولية الأولى، حينما ارتفع سعر برميل النفط من ثلاثة دولارات الى ثلاثين دولار في أسابيع قليلة، بسبب استعمال الدول العربية المصدرة للبترول لسلاح وقف تصدير النفط خلال حرب اكتوبر 1973. آنذاك وبسبب تزامن أزمة الطاقة مع أزمة السياسة المالية الكينزية، التي كانت متبعة من طرف أغلبية البلدان الغربية، دخلت هذه البلدان في أكبر أزمة اقتصادية بعد أزمة 1929 الشهيرة.
كان هذا التذكير ضروريا لإدراك خطورة الأزمة التي تهدد الاقتصاد العالمي عموما، والاقتصاد الأوروبي خصوصا بفعل تزامن تداعيات جائحة كورونا لمدة سنتين، وتداعيات حرب أوكرانيا، وإصرار الولايات المتحدة الأمريكية على إطالة امدها ،لاستعادة سيطرتها على العالم وخاصة على السوق الدولية للطاقة والمواد الأولية الاستراتيجية، كما حصل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الثنائية القطبية. رهان الإدارة الأمريكية إذن ليس فقط رهانا كبيرا، بل رهان خطير جدا، يهدد أمن واستقرار العالم بأسره، بدليل استفزازها حتى للصين التي اتخذت موقفا متوازنا من حرب أوكرانيا، وتوجيه انتقادات حادة، بل واتهامات لمنظمة الدول المصدرة للبترول بالانحياز لروسيا.
كل المعطيات المتوفرة تؤكد أن أوروبا مقبلة على شتاء قاس، وبعض بلدانها كهنغاريا وايطاليا غير قادرة على الالتزام بقرارات المقاطعة الشاملة لروسيا لحاجتها الملحة لمصادر الطاقة على المدى القريب، وحتى ألمانيا لا تتوفر إلا على احتياط شهرين من الغاز، ورصدت 200 مليار أورو لدعم مقاولاتها ومواطنيها، ولم تفلح القمة الأوروبية الموسعة التي دعا لها الرئيس الفرنسي ماكرون للاتفاق على استراتيجية موحدة، وقد عكس تصريحه بخصوص السعر الأمريكي للغاز المسال خيبة الأوروبيين من الأمريكيين، حيث قال “القرارات المتخذة أمريكيا لا تجسد الصداقة بالمعنى الدقيق”.
على المستوى الاقتصادي، تجاوزت نسب التضخم في بلدان القارة العجوز أعلى المستويات المسجلة خلال العقود السابقة، وتشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى حدوث انخفاض مؤكد في نسبة النمو الاقتصادي بنقطتين على الأقل هذه السنة، وقد تسجل نسب نمو سلبية في بعض البلدان، وهذا طبعا سيؤدي الى ارتفاع نسب البطالة وتدهور الأوضاع المعاشية لملايين الأوروبيين. التخوف من هذه الآفاق الصعبة هو الذي حرك الاحتجاجات في عدة مدن أوروبية أخرى، فإلى متى ستبقى البلدان الأوروبية خاضعة للضغوط والتوجهات الأمريكية؟!
الجذير بالذكر أيضا، أنه حتى في مجال الطاقة النووية، تحتل الشركة الروسية روزاتوم Rosatom الرتبة الأولى عالميا، حيث تشرف على بناء أربعين مفاعلا نوويا، منها 33 مفاعل خارج روسيا، بما في ذلك داخل بعض البلدان الأوروبية كفنلندا وهنغاريا وتركيا، لذلك يصر نظام كييف، وبتحريض من الإدارة الأمريكية، على قصف محطة زبورجيا الخاضعة للسيطرة الروسية، وهي مغامرة تهدف الى تحميل روسيا لكارثة نووية محتملة الوقوع بسبب هذا القصف.
حرب الطاقة لا تشكل الوجه الآخر للصراع بين الشرق والغرب فقط، بل تعتبرها الإدارة الأمريكية وسيلة أكثر فعالية لكسر روسيا واحتواء الهند والصين، وبالتالي اخضاع بقية العالم لسياستها الامبريالية. إدراك البلدان الآسيوية الصاعدة لرهانات الإدارة الأمريكية يجعلها متمسكة أكثر بالانتقال إلى التعددية القطبية، ونظام عالمي جديد، يقوم على إصلاح المؤسسات الدولية ودمقرطتها، وإنهاء سياسية الكيل بمكيالين.