الثقافة

محمد الشركَي: شمعة في عمق المجرى [رسالة إلى إدمون عمران المليح]

 محمد الشركَي

أيها‭ ‬العزيز‭ ‬المبارك،

يمكنني،‭ ‬وأنا‭ ‬أسامرك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الليلة،‭ ‬أن‭ ‬أتوجه‭ ‬إليك‭ ‬بضمير‭ ‬المخاطب‭ ‬الماثل‭ ‬أمامي،‭ ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬المتسامرين‭ ‬في‭ ‬السقيفة‭ ‬المعترشة‭ ‬لمقهى‭ ‬ازريرق‭ ‬بأصيلة‭ ‬أو‭ ‬بأي‭ ‬مقهى‭ ‬طقوسي‭ ‬آخر‭ ‬بمدينة‭ ‬الصويرة،‭ ‬فكلتاهما،‭ ‬أصيلة‭ ‬والصويرة،‭ ‬ساهرتان‭ ‬الساعة‭ ‬عليك‭ ‬أنت‭ ‬الساهر‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬ليل‭ ‬المحكي،‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬الرمزية‭ ‬الأخرى‭ ‬حيث‭ ‬تقيم‭ ‬الآن‭ ‬باستمرار،‭ ‬بعدما‭ ‬عبرت‭ ‬كل‭ ‬المجاري‭ ‬الثابتة‭ ‬والمتحولة‭ ‬لتاريخنا‭ ‬المحتدم‭ ‬والعصيب‭. ‬ويمكن‭ ‬للكلمات‭ ‬التي‭ ‬أوقدتها‭ ‬كشموع‭ ‬الأولياء‭ ‬وعبرت‭ ‬بها،‭ ‬في‭ ‬هزيع‭ ‬العمر،‭ ‬مفاوز‭ ‬الأنساق‭ ‬المغلقة‭ ‬إلى‭ ‬رحابة‭ ‬الذاكرات‭ ‬الخصبة‭ ‬المتعالقة‭ ‬بالاحتمالات‭ ‬الآتية،‭ ‬أن‭ ‬تهرع‭ ‬في‭ ‬هدأة‭ ‬الليل‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المشترك‭ ‬الأرضي‭ ‬والرمزي‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬موثوق‭ ‬الصلة‭ ‬بيننا‭ ‬رغم‭ ‬تباعد‭ ‬اللقاءات‭. ‬فبعض‭ ‬المواثيق‭ ‬الرمزية‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬حرز‭ ‬حريز‭ ‬من‭ ‬متاهات‭ ‬المكان‭ ‬لأنها‭ ‬تُوكَل‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬ونهائيا‭ ‬إلى‭ ‬كنف‭ ‬الزمان‭. ‬وهذا‭ ‬شأن‭ ‬الميثاق‭ ‬الذي‭ ‬انعقد‭ ‬بيننا‭ ‬بتدبير‭ ‬خفي‭ ‬من‭ ‬الوشائج‭ ‬الرمزية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬كل‭ ‬العلائق‭ ‬العميقة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭.‬

أذكر‭ ‬الآن،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬البارحة‭ ‬فقط،‭ ‬أن‭ ‬أصيلة‭ ‬تحديدا،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬المدخل‭ ‬الافتتاحي‭ ‬ل‭ ‬‮«‬المجرى‭ ‬الثابت‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فضاء‭ ‬مقبرتها‭ ‬الساحلية‭ ‬كجغرافيا‭ ‬حدودية‭ ‬تتلامس‭ ‬فيها‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬أيضا‭ ‬العتبة‭ ‬الاستهلالية‭ ‬التي‭ ‬التمعت‭ ‬فيها‭ ‬فكرة‭ ‬ترجمة‭ ‬‹المجرى‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭. ‬ففي‭ ‬خريف‭ ‬1983،‭ ‬فيما‭ ‬أذكر،‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬ندوة‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نظمتها‭ ‬جمعية‭ ‬قدماء‭ ‬ثانوية‭ ‬الإمام‭ ‬الأصيلي،‭ ‬وهي‭ ‬الندوة‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬فيها‭ ‬أنت‭ ‬أيضا،‭ ‬غيابيا،‭ ‬بنص‭ ‬مرهف‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الكتابة‭ ‬بالسيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬تولى‭ ‬الصديق‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬برادة‭ ‬ترجمته‭ ‬الفورية‭ ‬ضمن‭ ‬أشغال‭ ‬الندوة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬العميق‭ ‬والفاخر،‭ ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬نصوصك،‭ ‬شدني‭ ‬تأكيدك‭ ‬الحاسم‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬تجاوزا‭ ‬بأنك‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬1917،‭ ‬فإن‭ ‬ميلادك‭ ‬الحقيقي،‭ ‬والميلاد‭ ‬الفعلي‭ ‬لكل‭ ‬كاتب،‭ ‬إنما‭ ‬تم‭ ‬ويتم‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬المحكي‭. ‬كان‭ ‬ذلك،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلي،‭ ‬أنا‭ ‬اليافع‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الكتابة،‭ ‬بمثابة‭ ‬إضاءة‭ ‬مصباح‭ ‬هادٍ‭ ‬في‭ ‬سرداب‭ ‬الزمن‭. ‬ليلتئذٍ‭ ‬تأكد‭ ‬لدي‭ ‬أن‭ ‬الميلاد‭ ‬العضوي،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬إسناده‭ ‬وتعميقه‭ ‬بميلاد‭ ‬رمزي‭ ‬حاسم،‭ ‬سيظل‭ ‬مجرد‭ ‬حادث‭ ‬بيولوجي‭ ‬مرقم‭ ‬في‭ ‬سجلات‭ ‬الحالة‭ ‬المدنية،‭ ‬وأن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬مكانه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬يسارع‭ ‬دون‭ ‬إبطاء‭ ‬إلى‭ ‬إبرام‭ ‬علاقة‭ ‬زفافية‭ ‬مع‭ ‬الكلمات‭ ‬باعتبارها،‭ ‬كالحب‭ ‬والذاكرة‭ ‬والموسيقى‭ ‬والتشكيل‭ ‬والفعل‭ ‬السياسي‭ ‬العميق،‭ ‬آخر‭ ‬الجسور‭ ‬المعلقة‭ ‬فوق‭ ‬الهاوية‭ ‬التي‭ ‬يتعين‭ ‬علينا‭ ‬عبورها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬نستطيعه‭ ‬لبعضنا‭ ‬وما‭ ‬يستطيعه‭ ‬لنا‭ ‬العالم‭.‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬الرسالة‭ ‬الذهبية‭ ‬التي‭ ‬استلمتها‭ ‬منك‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬الخريفية‭ ‬وظللت‭ ‬أحتفظ‭ ‬بها‭ ‬لاحقا‭ ‬وأعمل‭ ‬بمقتضاها‭. ‬كنت‭ ‬حاضرا‭ ‬رغم‭ ‬غيابك‭.‬

وبعدما‭ ‬تعشينا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المطعم‭ ‬الإسباني‭ ‬المساحل‭ ‬للبحر‭ ‬المعتم،‭ ‬خرجنا‭ ‬نتمشى‭ ‬قليلا‭ ‬أنا‭ ‬والعزيز‭ ‬محمد‭ ‬برادة‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الإفريز‭ ‬المترع‭ ‬برائحة‭ ‬الأوقيانوس‭ ‬الشهوانية‭. ‬كانت‭ ‬النوارس‭ ‬الملتاعة‭ ‬قد‭ ‬آوت‭ ‬إلى‭ ‬أعشاشها‭ ‬الليلة،‭ ‬وسيلينا‭ ‬العظيمة،‭ ‬الطالعة‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬زمن‭ ‬بعيد،‭ ‬تلوح‭ ‬وتختفي‭ ‬بين‭ ‬السحب‭ ‬المتراكضة‭ ‬في‭ ‬الأعالي،‭ ‬وأنا‭ ‬أتطلع‭ ‬إليها‭ ‬كلما‭ ‬أطلت‭ ‬وكأنها‭ ‬تهمس‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬التواريخ‭ ‬والميثولوجيات‭: ‬‮«‬سأكون‭ ‬القلب‮»‬،‭ ‬وصخب‭ ‬الأمواج‭ ‬يعمق‭ ‬رجع‭ ‬الحديث‭ ‬المتعالق‭ ‬بالوضع‭ ‬الثقافي‭ ‬المغربي،‭ ‬ورهانات‭ ‬الكتابة،‭ ‬وعسر‭ ‬الظرفية‭ ‬التاريخية‭. ‬وبعودتنا‭ ‬إلى‭ ‬نص‭ ‬مداخلتك‭ ‬وترابطها‭ ‬برؤيتك‭ ‬الإبداعية‭ ‬المتأصلة‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الذاكرة‭ ‬الخصبة،‭ ‬اقترح‭ ‬علي‭ ‬برادة‭ ‬أن‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬المجرى‭ ‬الثابت‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭. ‬أذكر‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬بالحرف،‭ ‬ونحن‭ ‬نقترب‭ ‬من‭ ‬الفندق‭: ‬‮«‬ليتك‭ ‬تخصص‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬وقتك‭ ‬لترجمة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الأساسي‭..‬‮»‬

تلك‭ ‬كانت‭ ‬الالتماعة‭ ‬الأولى،‭ ‬الآتية‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬عزيز‭ ‬علينا‭ ‬معا،‭ ‬باتجاه‭ ‬نقل‭ ‬‮«‬مجراك‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬أعرف‭ ‬كم‭ ‬أحببتها‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قرأت‭ ‬الكتاب‭ ‬بعد،‭ ‬لأنني‭ ‬بحثت‭ ‬عنه‭ ‬قبلئذٍ‭ ‬مرارا‭ ‬بمكتبات‭ ‬فاس‭ ‬ولم‭ ‬أجده،‭ ‬بيد‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬قرأت‭ ‬بعض‭ ‬الإشارات‭ ‬المركزة‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬الصحافة‭ ‬المغربية‭ ‬عنه،‭ ‬واستشعرتُ‭ ‬عياره‭ ‬المتميز‭ ‬ضمن‭ ‬ذخيرة‭ ‬الأدب‭ ‬المغربي‭ ‬المكتوب‭ ‬بالفرنسية‭. ‬لذلك،‭ ‬عند‭ ‬عودتي‭ ‬إلى‭ ‬فاس‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الخريف‭ ‬البعيد،‭ ‬كانت‭ ‬فكرة‭ ‬ترجمة‭ ‬‮«‬المجرى‮»‬‭ ‬بدأت‭ ‬تتبلور‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬معززة‭ ‬بذلك‭ ‬التواطؤ‭ ‬السري‭ ‬الذي‭ ‬أحسست‭ ‬به‭ ‬قائما‭ ‬بين‭ ‬رؤيتي‭ ‬الشخصية‭ ‬للكتابة‭ ‬ومقاربتك‭ ‬المنجزة‭ ‬لها‭. ‬ولكي‭ ‬أصارحك‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬الممدودة‭ ‬كالجسر‭ ‬بين‭ ‬ساحل‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬ومرتفعات‭ ‬الزمن‭ ‬الآخر‭ ‬حيث‭ ‬تقيم،‭ ‬أردت‭ ‬ترجمة‭ ‬المجرى‭ ‬الثابت‭ ‬لنفسي‭ ‬أولا،‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬الهبة‭ ‬الذاتية‭ ‬والتلقين‭ ‬الإعدادي‭ ‬لإضاءة‭ ‬مساري‭ ‬الخاص‭. ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أعاين‭ ‬مباشرة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استعادة‭ ‬كلماتك‭ ‬إلى‭ ‬ذاكرتها‭ ‬وأرضها‭ ‬المرجعيتين،‭ ‬كيف‭ ‬تدبرت‭ ‬أمرك‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬تحديدا،‭ ‬أي‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬الحراسات‭ ‬المتحالفة‭ ‬والمتربصة‭ ‬بدلالات‭ ‬الكلمات‭ ‬ومستويات‭ ‬المعنى‭ ‬وعتبات‭ ‬الاستعارات‭. ‬هكذا‭ ‬بحثت‭ ‬مجددا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المجرى‮»‬‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬المكتبات،‭ ‬ولما‭ ‬لم‭ ‬أجده‭ ‬تفضل‭ ‬الصديق‭ ‬الأستاذ‭ ‬رشيد‭ ‬بنحدو‭ ‬بإعارتي‭ ‬نسخته‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬قراءتها‭ ‬فورا‭ ‬بفاس‭ ‬ثم‭ ‬أعدت‭ ‬قراءتها‭ ‬عند‭ ‬رجوعي‭ ‬إلى‭ ‬تازة‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أقضي‭ ‬فترة‭ ‬الخدمة‭ ‬المدنية‭. ‬كانت‭ ‬بغيتي‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القراءة‭ ‬المزدوجة‭ ‬إبرام‭ ‬علاقة‭ ‬استبطانية‭ ‬بالكتاب‭ ‬والعثور‭ ‬على‭ ‬الممر‭ ‬الأسلوبي‭ ‬الأمثل‭ ‬والمسلك‭ ‬البلاغي‭ ‬الأرهف‭ ‬لنقل‭ ‬شحنته‭ ‬كاملة‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭. ‬فلطالما‭ ‬سنقول‭ ‬لبعضنا‭ ‬لاحقا‭ ‬أن‭ ‬الترجمة‭ ‬التزام‭ ‬عميق‭ ‬بقوانين‭ ‬الضيافة‭ ‬العليا،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الإدراك‭ ‬الحاسم‭ ‬لكل‭ ‬المخاطر‭ ‬والرهانات‭ ‬التي‭ ‬يحركها‭ ‬نقل‭ ‬النص‭ – ‬كل‭ ‬نص‭ – ‬من‭ ‬لغته‭ ‬الأصلية‭ ‬وموتاها‭ ‬الساهرين‭ ‬عليها‭ ‬إلى‭ ‬عهدة‭ ‬العربية‭ ‬المحروسة‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬بعناية‭ ‬الأسلاف‭ ‬الألوفيين‭ ‬الهاجعين‭ ‬في‭ ‬أرحامها‭.‬

مضاء‭ ‬بهذا‭ ‬الهاجس‭ ‬الكبير،‭ ‬شرعت‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬‮«‬المجرى‮»‬‭ ‬في‭ ‬شتاء‭ ‬1984‭. ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الشتاء‭ ‬كان‭ ‬قاسيا،‭ ‬صقيعيا،‭ ‬وكانت‭ ‬الثلوج‭ ‬المتساقطة‭ ‬على‭ ‬المنحدرات‭ ‬الطباشيرية‭ ‬لجبال‭ ‬الريف‭ ‬والتضاريس‭ ‬الغرانيتية‭ ‬لجبال‭ ‬الأطلس‭ ‬المتوسط‭ ‬تلفح‭ ‬ببردها‭ ‬القطبي‭ ‬أوصال‭ ‬المدينة‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬المضائق‭. ‬فكنت‭ ‬عند‭ ‬مبارحتي‭ ‬للجلسات‭ ‬الطقوسية‭ ‬المسائية‭ ‬مع‭ ‬الأعزاء‭ ‬عزوز‭ ‬بوسعيدي‭ ‬والعربي‭ ‬لخصاصي‭ ‬وبوجمعة‭ ‬العوفي‭ ‬آوي‭ ‬إلى‭ ‬غرفتي‭ ‬بشقة‭ ‬ذراع‭ ‬اللوز‭ ‬بعد‭ ‬العشاء‭ ‬مباشرة،‭ ‬وأندس‭ ‬تحت‭ ‬الأغطية‭ ‬الصوفية‭ ‬وأشتغل‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬كتابك‭ ‬حتى‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭. ‬وكلما‭ ‬أنهيت‭ ‬فصلا‭ ‬أو‭ ‬فصلين،‭ ‬كان‭ ‬يغمرني‭ ‬ذلك‭ ‬الفرح‭ ‬السري‭ ‬الذي‭ ‬ينتاب‭ ‬المبحر‭ ‬الموعود‭ ‬برؤية‭ ‬السواحل‭ ‬عما‭ ‬قريب‭. ‬ولما‭ ‬حل‭ ‬صيف‭ ‬تلك‭ ‬السنة،‭ ‬وكنت‭ ‬قطعت‭ ‬شوطا‭ ‬هاما‭ ‬في‭ ‬تعريب‭ ‬‮«‬المجرى‮»‬،‭ ‬اتصلت‭ ‬بي‭ ‬هاتفيا‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬الصويرة‭ ‬ودعوتني‭ ‬إلى‭ ‬قضاء‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬معك‭ ‬خلال‭ ‬إجازتي‭ ‬الصيفية‭ ‬لنتبادل‭ ‬كل‭ ‬الإضاءات‭ ‬والتدقيقات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تبدو‭ ‬لكلينا‭ ‬بخصوص‭ ‬الترجمة‭.‬

وكذلك‭ ‬كان،‭ ‬حيث‭ ‬عدت‭ ‬من‭ ‬تازة‭ ‬إلى‭ ‬فاس،‭ ‬ومنها‭ ‬ركبت‭ ‬ذات‭ ‬فجر‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬الرياح‭ ‬لتي‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬مفعما‭ ‬بالنداء‭ ‬العالي‭ ‬لجبال‭ ‬الأطلس‭ ‬الأمومية‭ ‬وبرائحة‭ ‬الغابات‭ ‬والأحراش‭ ‬الساحلية‭. ‬وقبل‭ ‬موافاتك‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬الذي‭ ‬اتفقنا‭ ‬على‭ ‬اللقاء‭ ‬فيه،‭ ‬سرت‭ ‬بمحاذاة‭ ‬الشاطئ‭ ‬متطلعا‭ ‬إلى‭ ‬الجزيرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬يحفها‭ ‬سور‭ ‬عتيق‭ ‬يحرس‭ ‬قلعة‭ ‬قديمة،‭ ‬فأدركت‭ ‬سر‭ ‬اختيارها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أورسون‭ ‬ويلز‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كفضاء‭ ‬لتصوير‭ ‬فيلمه‭ ‬الشكسبيري‭ ‬عطيل‭. ‬وعند‭ ‬دنوي‭ ‬من‭ ‬المقهى‭ ‬خرج‭ ‬النادل‭ ‬يحييني‭ ‬ويسألني‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬الضيف‭ ‬الذي‭ ‬ترتقبه،‭ ‬لأنك‭ ‬مررت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬وأوصيته‭ ‬باستقبالي‭. ‬ولما‭ ‬لحقت‭ ‬بي‭ ‬شربنا‭ ‬شايا‭ ‬منعنعا‭ ‬ثم‭ ‬توجهنا‭ ‬إلى‭ ‬رياض‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬حسين‭ ‬الميلودي‭ (‬بزنقة‭ ‬لخضر‭ ‬غيلان‭) ‬الذي‭ ‬استضافنا‭ ‬طيلة‭ ‬إقامتنا‭. ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي‭ ‬فور‭ ‬دخولنا‭ ‬الرياض‭ ‬جرة‭ ‬طينية‭ ‬هائلة‭ ‬الحجم‭ ‬تشبه‭ ‬خابية‭ ‬الأموات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬كهنة‭ ‬الفراعنة‭ ‬يستعملونها‭ ‬لتحنيط‭ ‬أحشاء‭ ‬ملوكهم‭. ‬وقد‭ ‬أخبرني‭ ‬الميلودي‭ ‬لاحقا‭ ‬بأنك‭ ‬وماري‭ ‬سيسيل،‭ ‬رفيقتك‭ ‬التي‭ ‬لحقت‭ ‬بها‭ ‬الآن،‭ ‬اشتريتماها‭ ‬من‭ ‬خميس‭ ‬الزمامرة‭ ‬وتدبرتما‭ ‬أمر‭ ‬نقلها‭ ‬إلى‭ ‬الصويرة‭ ‬لكي‭ ‬توضع‭ ‬خصيصا‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الحديقة‭. ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬الخابية‭ ‬الجاثمة‭ ‬بفخامتها‭ ‬الزمنية‭ ‬فأبرقت‭ ‬في‭ ‬خيالي‭ ‬صورة‭ ‬الفوهة‭ ‬المظلمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الكاهنة‭ ‬الإغريقية،‭ ‬وسيطة‭ ‬الوحي،‭ ‬تختبئ‭ ‬فيها‭ ‬لتنبئ‭ ‬زوار‭ ‬معبد‭ ‬‮«‬دلف‮»‬‭ ‬بمصائرهم‭ ‬الآتية‭. ‬وقد‭ ‬أخبرت‭ ‬ماري‭ ‬سيسيل‭ ‬بخواطري‭ ‬عن‭ ‬الجرة‭ ‬فراقتها‭ ‬خصوصا‭ ‬صورة‭ ‬خابية‭ ‬الموتى‭ ‬الفرعونية‭. ‬أتذكر‭ ‬الآن،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬تم‭ ‬البارحة‭ ‬فقط،‭ ‬مقامنا‭ ‬الرمزي‭ ‬المترف،‭ ‬وما‭ ‬تخلله‭ ‬من‭ ‬حوارات‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬الفنان‭ ‬الميلودي‭ ‬وسهرات‭ ‬تلقينية‭ ‬وجلسات‭ ‬عمل‭ ‬متواطئ‭. ‬كنت‭ ‬كلما‭ ‬قرأت‭ ‬عليك‭ ‬فصلا‭ ‬أو‭ ‬فصلين‭ ‬تصيخ‭ ‬السمع‭ ‬بهدوء‭ ‬المتصوف،‭ ‬وتطرق‭ ‬قليلا‭ ‬ثم‭ ‬تقول‭ ‬لي‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الإيقاع‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أرجوه‭. ‬جعلتني‭ ‬أحس‭ ‬بأنني‭ ‬كتبت‭ ‬‮«‬المجرى‮»‬‭ ‬بالعربية‭. ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الفرح‭. ‬تبارك‭ ‬الله‭ ‬عليك‭…‬‮»‬‭ ‬كم‭ ‬أسعدتني‭ ‬انطباعاتك‭ ‬العفوية‭ ‬تلك،‭ ‬وكم‭ ‬طوقت‭ ‬عنقي‭ ‬بمسؤولية‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الأداء‭ ‬الترجمي‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭. ‬وحين‭ ‬كنا‭ ‬نخرج،‭ ‬أنت‭ ‬وماري‭ ‬سيسيل‭ ‬وأنا‭ ‬لنتمشى‭ ‬قليلا‭ ‬أو‭ ‬لكي‭ ‬نشرب‭ ‬قهوة‭ ‬بأحد‭ ‬مقاهي‭ ‬المدينة،‭ ‬كانت‭ ‬مقاربتنا‭ ‬للمكان،‭ ‬ولأهله‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬ينادونك‭ ‬ب‭ ‬‮«‬السي‭ ‬عمران‮»‬‭ ‬امتدادا‭ ‬وتجذيرا‭ ‬لذاكرة‭ ‬الكتابة‭ ‬نفسها‭. ‬ويا‭ ‬للمواقف‭ ‬الطريفة‭ ‬والمرحة‭ ‬التي‭ ‬اقتسمناها‭ ‬هناك‭! ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬الصويري‭ ‬الذي‭ ‬حاذانا‭ ‬ونحن‭ ‬نسير‭ ‬باتجاه‭ ‬فندق‭ ‬الجُزر‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬ماري‭ ‬سيسيل‭ ‬تنتظرنا،‭ ‬والذي‭ ‬التبس‭ ‬عليه‭ ‬الأمر‭ ‬فظنني‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ولما‭ ‬استوقفك‭ ‬أحد‭ ‬معارفك‭ ‬لمحادثتك‭ ‬قليلا،‭ ‬استمر‭ ‬الشاب‭ ‬في‭ ‬السير‭ ‬بجانبي‭ ‬وهو‭ ‬يحدثني‭ ‬بفرنسية‭ ‬متعثرة‭ ‬تتخللها‭ ‬بعض‭ ‬المفردات‭ ‬الإيطالية‭ ‬وأنا‭ ‬مطرق‭ ‬أصغي‭ ‬إليه‭ ‬بمكر‭ ‬وأغالب‭ ‬الضحك،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬لحقت‭ ‬بنا‭ ‬وسألته‭ ‬لماذا‭ ‬يحادثني‭ ‬بتلك‭ ‬الطريقة‭ ‬فقال‭ ‬لك‭: ‬‮«‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬ضيفك‭ ‬الإيطالي‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬معالم‭ ‬الصويرة‭..‬‮»‬‭ ‬فبادرته‭ ‬مقهقها‭ ‬وحاجباك‭ ‬الكثان‭ ‬يهتزان‭ ‬تحت‭ ‬نظارتك‭ ‬الطبية‭: ‬‮«‬إيطالي؟‭! ‬إنه‭ ‬مغربي‭ ‬أكثر‭ ‬منك‭!‬‮»‬‭. ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬تنظر‭ ‬إلينا‭ ‬بإمعان‭ ‬ونحن‭ ‬نسلك‭ ‬الزقاق‭ ‬التاريخي‭ ‬المفضي‭ ‬إلى‭ ‬أدراج‭ ‬سقالة،‭ ‬فتوقفت‭ ‬أنت‭ ‬أيضا‭ ‬وسألتها‭ ‬ممازحا‭: ‬‮«‬واش‭ ‬شفتي‭ ‬شي‭ ‬عجب؟‮»‬‭ ‬فأجابتك‭ ‬فورا‭: ‬‮«‬كتشبه‭ ‬لبابا‭!!‬‮»‬،‭ ‬ولما‭ ‬سألتها‭ ‬عن‭ ‬والدها‭ ‬قالت‭ ‬إنه‭ ‬يعمل‭ ‬بمراكش‭. ‬كان‭ ‬معها‭ ‬حق‭. ‬لكنك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تشبه‭ ‬أباها‭ ‬هي‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬وتبقى‭ ‬أبا‭ ‬رمزيا‭ ‬لكل‭ ‬الذين‭ ‬ارتبطت‭ ‬أسبابهم‭ ‬بأسبابك‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬وتشكيليين‭ ‬وفنانين‭ ‬وقراء‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المغرب‭ ‬وخارجه،‭ ‬وكنت‭ ‬وتظل‭ ‬أحد‭ ‬آبائي‭ ‬الرمزيين‭ ‬المباركين‭.‬

كنت‭ ‬قد‭ ‬نشرت‭ ‬وقتئذ،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬المجرى‭ ‬الثابت‮»‬،‭ ‬المتحول‭ ‬في‭ ‬العمق،‭ ‬روايتك‭ ‬الثانية‭ ‬‮«‬أيلان‭ ‬أو‭ ‬ليل‭ ‬المحكي‭ (‬ترجمها‭ ‬لاحقا‭ ‬علي‭ ‬تيزلكاد‭ ‬وصدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬توبقال‭) ‬واقترحت‭ ‬مخطوطة‭ ‬رواية‭ ‬ثالثة‭ (‬ستكون‭ ‬هي‭ ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬بيوم‭ ‬واحد‭) ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الناشرين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭. ‬كانوا‭ ‬يؤاخذونك‭ ‬على‭ ‬تكثيفك‭ ‬الأسلوبي‭ ‬الذي‭ ‬يجنح‭ ‬بالكتابة‭ ‬إلى‭ ‬تخوم‭ ‬قصية‭ ‬لا‭ ‬قِبَل‭ ‬لجمهور‭ ‬القراء‭ ‬بها‭. ‬بغتة،‭ ‬ونحن‭ ‬جالسان‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬صيفية‭ ‬رائقة‭ ‬في‭ ‬شرفة‭ ‬المقهى‭ ‬الساحلي‭ ‬نرتشف‭ ‬القهوة،‭ ‬سألتني‭ ‬عن‭ ‬رأيي‭ ‬في‭ ‬الأمر،‭ ‬فقلت‭ ‬لك‭ ‬إن‭ ‬الكتابة‭ ‬لا‭ ‬تأخذ‭ ‬أوراق‭ ‬اعتمادها‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬جهة‭ ‬خارجية،‭ ‬وأن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بالشكل‭ ‬الذي‭ ‬يرتضيه‭ ‬لها‭ ‬ليل‭ ‬عزلتها‭ ‬دون‭ ‬محاباة‭ ‬لقارئ‭ ‬أو‭ ‬ناشر‭ ‬أو‭ ‬سلطة‭ ‬ثقافية‭ ‬أو‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭. ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬التداعي‭ ‬التلقائي،‭ ‬تذكرنا‭ ‬وتحدثنا‭ ‬معا‭ ‬عن‭ ‬الروائي‭ ‬الكوبي‭ ‬خوسي‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتهيب،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬نظام‭ ‬اشتراكي‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬عنفوانه،‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬وينشر‭ ‬روايته‭ ‬النهرية‭ ‬العميقة‭ ‬فردوس‭ ‬Paradiso،‭ ‬حيث‭ ‬يمضي‭ ‬باللغة‭ ‬وبالروافد‭ ‬الرمزية‭ ‬والأسطورية‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬لم‭ ‬يخبرها‭ ‬القراء‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬وشأني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يتعالق‭ ‬فيها‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الإبداع‭ ‬ومرتكزاته‭ ‬الواقعية‭ ‬بإسناداتهما‭ ‬الأسطورية،‭ ‬جنح‭ ‬بي‭ ‬الخيال‭ ‬لحظتئذٍ‭ ‬بعيدا‭ ‬في‭ ‬الزمن،‭ ‬وألفيتني‭ ‬أرقب‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬‮«‬سيلينا‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬تلوح‭ ‬بطلعتها‭ ‬البهية‭ ‬فوق‭ ‬أسوار‭ ‬القلعة‭ ‬وتغمر‭ ‬الجزيرة‭ ‬الشكسبيرية‭ ‬المقابلة‭ ‬بنورها‭ ‬الألوفي‭ ‬قبل‭ ‬استكمال‭ ‬رحلتها‭ ‬إلى‭ ‬مغارة‭ ‬‮«‬لاتموس‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬أنديميون‭ ‬ينتظرها‭ ‬ويناديها‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬العالم‭.‬

قضينا‭ ‬أسبوعا‭ ‬كاملا‭ ‬بذلك‭ ‬الرياض‭ ‬المترف‭ ‬بأزمنة‭ ‬المكان‭ ‬والكتابة‭ ‬والتشكيل‭. ‬كان‭ ‬جواراً‭ ‬فخما‭ ‬للكلمات‭ ‬والألوان‭ ‬والأشكال‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الفنان‭ ‬الميلودي‭ ‬ينفذها‭ ‬برهافة‭ ‬وصرامة‭ ‬وسط‭ ‬أحاديثنا‭ ‬اللانهائية‭. ‬وهنا‭ ‬أيضا،‭ ‬بدت‭ ‬رهافة‭ ‬مقاربتك‭ ‬للفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬عموما‭ ‬ودربة‭ ‬نظرتك‭ ‬المتعددة‭ ‬الأبعاد‭ ‬لتدرجات‭ ‬اللون‭ ‬والمادة‭ ‬والظل‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬لوحة،‭ ‬ولتوتراتها‭ ‬الخفية‭ ‬المنبئة‭ ‬بعمل‭ ‬الروح‭ ‬وسهرتها‭ ‬خلف‭ ‬الخطوط‭ ‬والمنحنيات‭ ‬والفجوات‭ ‬الصباغية‭. ‬تلك‭ ‬رهافة‭ ‬وضعتك‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المشهد‭ ‬التشكيلي‭ ‬المغربي‭ ‬وأثمرت‭ ‬لاحقا‭ ‬قراءات‭ ‬باذخة‭ ‬لأعمال‭ ‬فنانين‭ ‬تشكيليين‭ ‬متميزين‭ ‬من‭ ‬عيار‭ ‬أحمد‭ ‬الشرقاوي‭ ‬وخليل‭ ‬غريب‭. ‬مثلما‭ ‬وضعتك‭ ‬رهافة‭ ‬حاسة‭ ‬الذوق‭ ‬لديك‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬الذواقة‭ ‬الخبيرة‭ ‬بطعوم‭ ‬الأغذية‭ ‬والأشربة،‭ ‬أي‭ ‬بمباهج‭ ‬القوت‭ ‬الأرضي‭. ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬يفاجئني‭ ‬أن‭ ‬أجدك‭ ‬ذات‭ ‬مساء،‭ ‬بعد‭ ‬عودتنا‭ ‬أنا‭ ‬وماري‭ ‬سيسيل‭ ‬من‭ ‬المقهى،‭ ‬مرتديا‭ ‬مريلة‭ ‬الطهاة‭ ‬ومنهمكا‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬‮«‬البايلا‮»‬‭ ‬بحرفية‭ ‬فائقة‭ ‬أثنى‭ ‬عليها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تعشى‭ ‬معنا‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭.‬

تلك،‭ ‬إجمالا،‭ ‬لمحات‭ ‬مبرقة‭ ‬لبعض‭ ‬مجاريك‭ ‬الثرية،‭ ‬الصاخبة‭ ‬بهدوء،‭ ‬والمتحولة‭ ‬بعمق،‭ ‬التي‭ ‬أغدقها‭ ‬عليك‭ ‬تخطيك‭ ‬الجريء‭ ‬للقوس‭ ‬التاريخي‭ ‬المغلق‭ ‬الذي‭ ‬تكفل‭ ‬‮«‬المجرى‭ ‬الثابت‮»‬‭ ‬بتشخيص‭ ‬عوائقه‭ ‬وتشريح‭ ‬نهاياته‭ ‬المفتوحة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬لاحقا‭ ‬وما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭.‬

أيها‭ ‬العزيز‭ ‬المبارك،

لنا‭ ‬أن‭ ‬نشكر‭ ‬معا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬صديقينا‭ ‬محمد‭ ‬برادة‭ ‬ومحمد‭ ‬الأشعري‭ ‬لوقوفهما،‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬موقعه‭ ‬وضمن‭ ‬سياقه‭ ‬الخاص،‭ ‬وراء‭ ‬ترجمة‭ ‬ونشر‭ ‬المجرى‭ ‬الثابت،‭ ‬ولإيمانهما‭ ‬العميق‭ ‬بالقيمة‭ ‬المضافة‭ ‬لصدوره‭ ‬بالعربية‭.‬

ولنا‭ ‬أن‭ ‬نشكر‭ ‬أيضا‭ ‬منشورات‭ ‬الفنك‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬مديرتها‭ ‬النبيهة‭ ‬ليلى‭ ‬الشاوني‭ ‬التي‭ ‬رحبت‭ ‬بمخطوطة‭ ‬الترجمة‭ ‬بعد‭ ‬استعادتها‭ ‬إلى‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬قضتها‭ ‬منتظرة‭ ‬بلبنان،‭ ‬حيث‭ ‬حالت‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬وضعت‭ ‬أوزارها‭ ‬بعد،‭ ‬وما‭ ‬رافقها‭ ‬من‭ ‬حصار‭ ‬لميناء‭ ‬بيروت‭ ‬وندرة‭ ‬للورق‭ ‬وتقليص‭ ‬للموارد،‭ ‬دون‭ ‬صدورها‭ ‬هناك‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬ذاكرة‭ ‬الشعوب‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يشرف‭ ‬عليها‭ ‬الروائي‭ ‬اللبناني‭ ‬إلياس‭ ‬خوري‭.‬

أبلغ‭ ‬سلامي‭ ‬إلى‭ ‬رفيقتك‭ ‬الشفافة‭ ‬ماري‭ ‬سيسيل،‭ ‬واهنآ‭ ‬معا‭ ‬حيث‭ ‬تقيمان‭ ‬الآن‭.‬

تمارة،‭ ‬دجنبر‭ ‬2010

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى