الثقافةفي المرآة....

اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية…

◆ ذ. عبد الغني عارف

‭”‬اغتيال‭ ‬العقل“‬‭.. ‬ لعل‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬الموجزة‭ ‬تلخص‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬مسار‭ ‬الثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭- ‬الإسلامي،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬عصر‭ ‬من‭ ‬العصور‭ ‬المشكلة‭ ‬لهذا‭ ‬التاريخ‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬محطات‭ ‬كان‭ ‬عنوانَها‭ ‬الأبرزَ‭ ‬الإجهازُ‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الهوامش‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬للعقل‭ ‬بأن‭ ‬يبدع‭ ‬ويشتغل‭ ‬بحرية‭. ‬لقد‭ ‬وضعت‭ ‬السلطة‭ ‬السياسة‭ ‬خطوطا‭ ‬حمراء‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬تجاوزها‭ ‬تفكيرا‭ ‬وتصورا‭ ‬وتأملا،‭ ‬وغلفت‭ ‬هذه‭ ‬الخطوط‭ ‬بغشاوة‭ ‬دينية‭ ‬لتبريرها،‭ ‬وسلطت‭ ‬سيفَ‭ ‬الرقابة‭ ‬وتهمةَ‭ ‬الزندقة‭ ‬زجرا‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يتجرأ‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬الدائرة‭ ‬التي‭ ‬ترسمها‭ ‬السلطة‭ ‬وتحددها‭ ‬مصالحها‭ ‬المتداخلة‭ ‬مع‭ ‬مصالح‭ ‬الفقهاء‭ ‬الذين‭ ‬شكلوا‭ ‬–‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬استثناءات‭ ‬قليلة‭ ‬–‭ ‬الدرع‭ ‬الواقية‭ ‬للسلطة‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬استبدادها‭ ‬السياسي؛‭ ‬وبذلك‭ ‬مثل‭ ‬الفقهاء‭ ‬بسلطتهم‭ ‬الدينية‭ ‬المستندة‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ “‬السلطان‭ ‬السياسي‭” ‬عنصر‭ ‬تشويش‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬فباسم‭ ‬الدين‭ ‬مارست‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬قمعها‭ ‬كلَّ‭ ‬الأصوات‭ ‬المناوئة‭ ‬لتوجهاتها،‭ ‬فاغتيل‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب،‭ ‬قديما‭ ‬وحديثا،‭ ‬وباسم‭ ‬الدين‭ ‬تم‭ ‬حرق‭ ‬كتب‭ ‬ومصنفات‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬سوى‭ ‬لأن‭ ‬فقهاء‭ ‬السلطة‭ ‬وجدوا‭ ‬بين‭ ‬ثناياها‭ ‬ما‭ ‬يخالف‭ ‬أمزجتهم‭ ‬ونظرتهم‭ ‬للأشياء،‭ ‬وباسم‭ ‬الدين‭ ‬أيضا‭ ‬تم‭ ‬إصدار‭ ‬ركام‭ ‬من‭ ‬الفتاوى‭ ‬التي‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬مضامينها‭ ‬وصياغتها،‭ ‬ولكنها‭ ‬تلتقي‭ ‬كلها‭ ‬عند‭ ‬فكرة‭ ‬قمع‭ ‬الرأي‭ ‬الحر،‭ ‬ووضع‭ ‬أسس‭ ‬التفكير‭ ‬ومنطلقاته‭ ‬ضمن‭ ‬قوالب‭ ‬جاهزة‭ ‬ومنمطة‭ ‬بصورة‭ ‬جاهزة‭ ‬مسبقا‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الطفرة‭ ‬النوعية‭ ‬التي‭ ‬تشكلت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون،‭ ‬بفعل‭ ‬انفتاح‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬أفكار‭ ‬الأمم‭ ‬الأخرى،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية،‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬الطفرة‭ ‬لم‭ ‬تكتب‭ ‬لها‭ ‬الاستمرارية‭ ‬لعوامل‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتداخلة‭ ‬فصل‭ ‬فيها‭ ‬مؤرخو‭ ‬ودارسو‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬ودارسو‭ ‬التفكير‭ ‬الفلسفي‭ ‬والمنطق‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬وبذلك‭ ‬خسر‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬معركته‭ ‬التاريخية‭ ‬ضد‭ ‬هيمنة‭ ‬سلطة‭ ‬النقل‭ ‬والاجترار‭. ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬حاول‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬في‭ ‬شروط‭ ‬تاريخية‭ ‬وثقافية‭ ‬لاحقة،‭ ‬التدليل‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬تعارض‭ ‬بين‭ ‬الشريعة‭ ‬والتفكير‭ / ‬العقل،‭ ‬فإن‭ ‬محاولته‭ ‬ووجهت‭ ‬بكل‭ ‬أشكال‭ ‬المصادرة‭ ‬والقمع‭.‬

إن‭ ‬حرية‭ ‬التفكير‭ ‬والنقد‭ ‬شرط‭ ‬أساس‭ ‬لأي‭ ‬نهوض‭ ‬حضاري،‭ ‬فعندما‭ ‬تُقمع‭ ‬حريات‭ ‬التعبير،‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تتضاءل‭ ‬مساحات‭ ‬الإبداع‭ ‬بمختلف‭ ‬تجلياته،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتصور‭ ‬إنجازا‭ ‬نهضويا‭ ‬بدون‭ ‬أسس‭ ‬عقلانية،‭ ‬أي‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬البوصلة‭ ‬الموجهة‭ ‬للفكر‭ ‬ولرؤية‭ ‬الواقع‭. ‬إن‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تقطع‭ ‬أشواطا‭ ‬مهمة‭ ‬على‭ ‬درب‭ ‬التقدم،‭ ‬وترتقي‭ ‬درجات‭ ‬على‭ ‬سلم‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تحسم،‭ ‬تاريخيا،‭ ‬معركتَها‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يناقض‭ ‬العقل‭. ‬فقد‭ ‬قام‭ ‬التنوير‭ ‬الأوربي‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬فصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬وعن‭ ‬السياسة،‭ ‬مستفيدا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ثمار‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬أعاد‭ ‬الكنيسةَ‭ ‬إلى‭ ‬مكانها‭ ‬الطبيعي،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬فيه؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬مثل‭ ‬الانطلاقة‭ ‬الحقيقية‭ ‬والقوية‭ ‬لقدرة‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العوائق‭ ‬الكابحة‭ ‬للتقدم،‭ ‬وجعل‭ ‬العقل‭ ‬الغربي‭ ‬قوة‭ ‬جبارة‭ ‬وهائلة‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬صنع‭ ‬متطلبات‭ ‬التقدم‭ ‬الحضاري‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬المستويات‭.‬

وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬نجد‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬مفكرو‭ “‬النهضة‭” ‬العربية‭ ‬يتساءلون‭: ‬لماذا‭ ‬تقدم‭ ‬الغرب‭ ‬وتخلف‭ ‬المسلمون؟،‭ ‬فإنهم‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬كانوا‭ ‬يشخصون‭ ‬واقع‭ ‬التخلف‭ ‬دون‭ ‬تفكيك‭ ‬أسس‭ ‬البنيات‭ ‬الثقافية‭ ‬التاريخية‭ ‬المنتجة‭ ‬لذلك‭ ‬الواقع،‭ ‬ومن‭ ‬تم‭ ‬كانت‭ ‬المداخل‭ ‬والحلول‭ ‬التي‭ ‬اقترحوها‭ ‬للنهوض‭ ‬متباينة،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬دينية‭ ‬تقتضي‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬السلف‭ ‬الصالح‭ ‬والاقتداء‭ ‬به‭ (‬محمد‭ ‬عبده‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬اعتبر‭ ‬الاستبداد‭ ‬السياسي‭ ‬سببا‭ ‬أساسا‭ ‬للتخلف‭ (‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الكواكبي‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬مفكري‭ ‬عصر‭” ‬النهضة‭” ‬من‭ ‬ربط‭ ‬رقي‭ ‬المجتمع‭ ‬بتحرير‭ ‬المرأة‭ ‬وضمان‭ ‬شروط‭ ‬ارتقائها‭ ‬الاجتماعي‭ (‬قاسم‭ ‬أمين‭)‬،‭ ‬بينما‭ ‬اتجه‭ ‬مفكرون‭ ‬آخرون‭ ‬اتجاها‭ ‬قوميا،‭ ‬فاعتبروا‭ ‬أن‭ ‬خلاص‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬ونهوضها‭ ‬يتطلبان‭ ‬بالضرورة‭ ‬وحدتها‭ (‬شكيب‭ ‬أرسلان‭). ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الجامع‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الدعوات‭ ‬جميعها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬طموحها‭ ‬وحماسها‭ ‬وصدقها‭ ‬ومشروعيتها‭ ‬في‭ ‬وقتها،‭ ‬هو‭ ‬كونها‭ ‬كانت‭ ‬تتم‭ ‬تحت‭ ‬سقف‭ ‬التفكير‭ ‬الديني‭ ‬المُسَلَّم‭ ‬بمنطلقاته‭ ‬التوجيهية‭ ‬الكبرى‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬نوايا‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬بوادرها‭ ‬عند‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬ورشيد‭ ‬رضا‭ ‬وجمال‭ ‬الدين‭ ‬الأفغاني‭ ‬وغيرهم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬بنية‭ ‬سلفية‭ ‬منفتحة‭ ‬نسبيا،‭ ‬فإن‭ ‬سلطة‭ ‬الموروث‭ ‬وسيادة‭ ‬الثقافة‭ ‬المعيارية‭ ‬التي‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬الجاهز،‭ ‬حدت‭ ‬من‭ ‬فعالية‭ ‬تلك‭ ‬النوايا‭ ‬وما‭ ‬صاحبها‭ ‬من‭ ‬جهود‭ ‬فكرية،‭ ‬إذ‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انزلقت‭ ‬هذا‭ ‬السلفية‭ ‬المعتدلة‭ ‬والمنفتحة،‭ ‬كما‭ ‬مثلها‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬ورضا‭ ‬رشيد،‭ ‬لتتحول‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬وتشابك‭ ‬معطيات‭ ‬الواقع،‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬سياسية‭ ‬عنيفة‭ ‬تجسدت‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬نكوصا‭ ‬فكريا‭ ‬حادا‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬الفكر‭ ‬النهضوي‭ ‬العربي،‭ ‬إذ‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬حصر‭ “‬الحقائق‭” ‬عند‭ ‬عتبة‭ ‬ما‭ ‬أنتجه‭ “‬السلف‭ ‬الصالح‭”‬،‭ ‬مع‭ ‬تكفير‭ ‬كل‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تسايرها‭ ‬توجهاتها‭ ‬المتزمتة‭ ‬وأفق‭ ‬فكرها‭ ‬الضيق،‭ ‬مستغلة‭ ‬في‭ ‬تسييد‭ ‬مشروعها‭ ‬خصوصيات‭  ‬التربة‭ ‬الثقافية‭ ‬المحافظة‭ ‬والملائمة‭ ‬لخطابها‭. ‬

إن‭ ‬السياق‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬لم‭ ‬يسمح‭ ‬لرواد‭ “‬النهضة‭” ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬والجرأة‭ ‬على‭ ‬الكشف‭ ‬الحقيقية‭ ‬عن‭ ‬العطب‭ ‬الأساس‭ ‬المعرقل‭ ‬لسيرورة‭ ‬التقدم،‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬أصلا‭ ‬يفكرون‭ ‬ويحاولون‭ ‬الاجتهاد‭ ‬تحت‭ ‬ضغوط‭ ‬رقابة‭ ‬فكرية‭ ‬صارمة‭ ‬لا‭ ‬تتيح‭ ‬المساحة‭ ‬الضرورية‭ ‬والمطلوبة‭ ‬لاشتغال‭ ‬العقل‭ ‬والتفكير‭ ‬الحر‭ ‬والمنفتح‭ ‬على‭ ‬حقائق‭ ‬الواقع‭ ‬المادية،‭ ‬وبذلك‭ ‬افتُقِد‭ ‬الشرطُ‭ ‬الموضوعي‭ ‬للنهوض،‭ ‬وبقيت‭ ‬الأدوات‭ ‬التي‭ ‬اختارتا‭ ‬رواد‭ “‬النهضة‭” ‬العربية‭ ‬لهدم‭ ‬الواقع‭ ‬المرفوض‭ ‬وتشييد‭ ‬الواقع‭ ‬البديل،‭ ‬حبيسة‭ ‬دائرة‭ ‬الإيديولوجيا‭ ‬السائدة‭ ‬التي‭ ‬شكل‭ ‬تأويلُ‭ ‬الفقهاء‭ ‬للدين‭ ‬أحدَ‭ ‬مرجعياتها‭ ‬الكبرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعايش‭ ‬الهجين‭ ‬بين‭ ‬أنماط‭ ‬غير‭ ‬منسجمة‭ ‬من‭ ‬التفكير،‭ ‬فتداخلت‭ ‬المرجعيات‭ ‬والتصورات‭ ‬مشكلة‭ “‬وحدة‭ ‬ممزقة‭” ‬للذوات‭ ‬الفردية‭ ‬منها‭ ‬والجماعية‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ومن‭ ‬تم‭ ‬اختلت‭ ‬موازين‭ ‬المعادلة‭ ‬فظهر‭ ‬التنافر‭ ‬واضحا‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬ومتطلباته‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وطبيعة‭ ‬الحلول‭ ‬المقترحة‭ ‬للنهوض‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬فسقط‭ “‬العقل‭” ‬العربي‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬التقليد‭ ‬والاجترار،‭ ‬والأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ” ‬اجتهد‭” ‬في‭ ‬تبرير‭ ‬ذلك‭ ‬الاجترار‭ ‬تحت‭ ‬وهم‭ ‬الوفاء‭ ‬للسلف‭ ‬الصالح‭. ‬وقد‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬كون‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬عرف‭ ‬تراكما‭ ‬مذهلا‭ ‬لسلطة‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاستبدادية،‭ ‬وهي‭ ‬أنظمة‭ ‬حكم‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الطائفية‭ ‬والعشائرية‭ ‬والقبلية‭ ‬المقنعة‭ ‬بالمقدس‭ ‬الديني‭ ‬حينا،‭ ‬وبالشعارات‭ ‬الرنانة‭ ‬للانقلابات‭ ‬العسكرية‭ ‬حينا‭ ‬آخر‭..‬

لقد‭ ‬مارست‭ ‬سلطة‭ ‬النقل‭ ‬ديكتاتوريتها‭ ‬المطلقة‭ ‬مانعة‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الخيال‭ ‬الجمعي‭ ‬من‭ ‬الانطلاق‭ ‬نحو‭ ‬إمكانات‭ ‬مغايرة‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬سائد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬انغلاق‭ ‬هوياتي‭ ‬قاتل‭ ‬ومدمر،‭ ‬نتيجة‭ ‬عطب‭ ‬مركب‭ ‬ومزدوج‭ ‬الأثر،‭ ‬إذ‭ ‬مس‭ ‬الفكر‭ ‬والوجدان‭ ‬معا،‭ ‬عطب‭ ‬همش‭ ‬العقل‭ ‬ولم‭ ‬يسمح‭ ‬للعرب‭ ‬باقتحام‭ ‬عصور‭ ‬الحداثة‭ ‬بإمكانياتهم‭ ‬الذاتية،‭ ‬ففقدوا‭ ‬شخصيتهم‭ ‬المستقلة،‭ ‬وأصبحوا‭ ‬مجرد‭ ‬صدى‭ ‬استهلاكي‭ ‬للحضارات‭ ‬الأخرى‭. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬العقل‭ ‬الحلقة‭ ‬المفقودة‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬النهضة‭ ‬والبناء‭ ‬الحضاري‭ ‬للمجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬إذ‭ ‬أُخضِعَ‭ ‬لوصاية‭ ‬قاتلة‭ ‬شلت‭ ‬قدراته‭ ‬وإمكاناته‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬والخلق،‭ ‬وبذلك‭ ‬أعلن‭ ‬استقالته‭ ‬الاضطرارية‭. ‬وأمام‭ ‬هذا‭ ‬الانسداد‭ ‬التاريخي‭ ‬بقي‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬سجين‭ “‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭” ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬المعمار‭ ‬العقائدي‭ ‬والديني‭ ‬لكل‭ ‬أشكال‭ ‬التفكير‭ ‬والاجتهاد،‭ ‬وبقيت‭ ‬مسافة‭ ‬العلاقة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬المرجعية‭ ‬الدينية‭ ‬والدينامية‭ ‬المفترضة‭ ‬للعقل‭ ‬متوترة‭. ‬وبذلك‭ ‬عجز‭ ‬هذا‭ ‬العقل‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬وقراءة‭ ‬التحولات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬للإنسانية،‭ ‬فوقف‭ ‬متفرجا‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬رافضا‭ ‬لها‭ ‬رفض‭ ‬العاجز‭ ‬عن‭ ‬استيعابها‭ ‬واللحاق‭ ‬بها،‭ ‬مما‭ ‬خلق‭ ‬صنمية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬تولد‭ ‬عنها‭ ‬وجدان‭ ‬جماعي‭ ‬هش‭ ‬وشديد‭ ‬الحساسية‭ ‬تجاه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جديد‭ ‬ومختلف‭.‬

هذا‭ ‬بالطبع‭ ‬لا‭ ‬يلغي‭ ‬وجود‭ ‬دعوات‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬استحضار‭ ‬العقل‭ ‬مدخلا‭ ‬للنهوض‭ ‬والتقدم‭ (‬كما‭ ‬نجد‭ ‬مثلا‭ ‬عند‭ ‬فرح‭ ‬أنطون،‭ ‬ولاحقا‭ ‬عند‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وسلامة‭ ‬موسى‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة،‭ ‬وغيرهم‭) ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الدعوات‭ ‬حوربت‭ ‬بقوة‭ ‬لكونها‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬السقف‭ ‬المسموح‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والاجتهاد،‭ ‬فسادت‭ ‬الغيبيات‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬حرية‭ ‬العقل‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬النقد‭ ‬والإنتاج‭.  ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يفسر،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أوجهه،‭ ‬حدة‭ ‬النكسات‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬مشاريع‭ ‬التحديث‭ ‬والتنوير‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬خصوصا‭ ‬مع‭ ‬تراكم‭ ‬الانتكاسات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والتي‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬فقدان‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬خطاب‭ ‬يرمي‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬الأوضاع‭. ‬

إن‭ ‬أوضح‭ ‬تجسيد‭ ‬لمحنة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬هو‭ ‬التهييج‭ ‬الإعلامي‭ ‬الضخم‭ ‬والمدعم‭ ‬بإمكانات‭ ‬البترودولار‭ ‬والهادف‭ ‬إلى‭ ‬محاصرة‭ ‬أطروحة‭ ‬التنوير‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬بما‭ ‬تدعو‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬العلمانية‭ ‬وفصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬والاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬والإيمان‭ ‬بالاختلاف،‭ ‬وهو‭ ‬الحصار‭ ‬الذي‭ ‬وظفت‭ ‬في‭ ‬ترجمته‭ ‬كل‭ ‬أساليب‭ ‬القمع‭ ‬والتضليل‭ ‬المادي‭ ‬والرمزي‭. ‬وهذا‭ ‬الحصار‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬التوقيت‭ ‬وفي‭ ‬السياقات‭ ‬والمسميات‭ ‬وأحيانا‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬ممارسته،‭ ‬أما‭ ‬الأهداف‭ ‬فكانت‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تبرر‭ ‬استمرار‭ ‬واقع‭ ‬قمع‭ ‬التفكير‭ ‬العقلاني‭ ‬والحر،‭ ‬فما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬قديما‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬والتوحيدي‭ ‬والحلاج‭ ‬وغيرهم،‭ ‬هو‭ ‬نفس‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحديث‭ ‬أمثال‭ ‬مهدي‭ ‬عامل‭ ‬وفرج‭ ‬فودة‭ ‬ومحمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬وحسين‭ ‬مروة،‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثيرون‭.. ‬إنها‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بكل‭ ‬تجلياتها‭ ‬التراجيدية،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬أي‭ ‬مقاربة‭ ‬منهجية‭ ‬لقراءة‭ ‬تاريخ‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬تستدعي‭ ‬بالضرورة‭ ‬إعادة‭ ‬تفكيك‭ ‬مجمل‭ ‬الوقائع‭ ‬والأحداث‭ ‬والخلفيات‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ “‬العقل‭” ‬مغضوبا‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬وموضوع‭ ‬تحريم‭ ‬وتكفير‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬محطات‭ ‬الصراع‭ ‬الفكري‭ ‬بين‭ ‬أتباع‭ ‬المحافظة‭ ‬والتقليد‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وأنصار‭ ‬الحرية‭ ‬والاجتهاد‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬واجه‭ ‬ويواجه‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬يستدعي‭ ‬التأكيد،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى،‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬بناء‭ ‬ونشر‭ ‬الوعي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬جدلية‭ ‬الحرية‭ ‬والتنوير‭ ‬باعتبارهما‭ ‬مدخلين‭ ‬أساسين‭ ‬وحتميين‭ ‬لتحقيق‭ ‬أي‭ ‬نهوض‭ ‬تاريخي‭ ‬وثقافي‭ ‬فعلي‭ ‬للمجتمعات‭ ‬العربية‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى