اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية…
◆ ذ. عبد الغني عارف
”اغتيال العقل“.. لعل هذه العبارة الموجزة تلخص جزءا كبيرا من مسار الثقافة والفكر في التاريخ العربي- الإسلامي، إذ لا يكاد عصر من العصور المشكلة لهذا التاريخ يخلو من محطات كان عنوانَها الأبرزَ الإجهازُ على كل الهوامش التي تسمح للعقل بأن يبدع ويشتغل بحرية. لقد وضعت السلطة السياسة خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها تفكيرا وتصورا وتأملا، وغلفت هذه الخطوط بغشاوة دينية لتبريرها، وسلطت سيفَ الرقابة وتهمةَ الزندقة زجرا لكل من يتجرأ على التفكير خارج نطاق الدائرة التي ترسمها السلطة وتحددها مصالحها المتداخلة مع مصالح الفقهاء الذين شكلوا – إلا في استثناءات قليلة – الدرع الواقية للسلطة في ممارسة استبدادها السياسي؛ وبذلك مثل الفقهاء بسلطتهم الدينية المستندة إلى قوة “السلطان السياسي” عنصر تشويش على العقل العربي، فباسم الدين مارست السلطة السياسية قمعها كلَّ الأصوات المناوئة لتوجهاتها، فاغتيل عدد كبير من المفكرين العرب، قديما وحديثا، وباسم الدين تم حرق كتب ومصنفات لا لشيء سوى لأن فقهاء السلطة وجدوا بين ثناياها ما يخالف أمزجتهم ونظرتهم للأشياء، وباسم الدين أيضا تم إصدار ركام من الفتاوى التي تختلف من حيث مضامينها وصياغتها، ولكنها تلتقي كلها عند فكرة قمع الرأي الحر، ووضع أسس التفكير ومنطلقاته ضمن قوالب جاهزة ومنمطة بصورة جاهزة مسبقا.
وعلى الرغم من الطفرة النوعية التي تشكلت في العصر العباسي، وخاصة في عهد الخليفة المأمون، بفعل انفتاح العرب على أفكار الأمم الأخرى، وفي مقدمتها الفلسفة اليونانية، فإن تلك الطفرة لم تكتب لها الاستمرارية لعوامل كثيرة ومتداخلة فصل فيها مؤرخو ودارسو الثقافة العربية بشكل عام، ودارسو التفكير الفلسفي والمنطق عند العرب بشكل خاص، وبذلك خسر العقل العربي معركته التاريخية ضد هيمنة سلطة النقل والاجترار. وحتى عندما حاول ابن رشد، في شروط تاريخية وثقافية لاحقة، التدليل على عدم وجود تعارض بين الشريعة والتفكير / العقل، فإن محاولته ووجهت بكل أشكال المصادرة والقمع.
إن حرية التفكير والنقد شرط أساس لأي نهوض حضاري، فعندما تُقمع حريات التعبير، من الطبيعي أن تتضاءل مساحات الإبداع بمختلف تجلياته، ولذلك لا يمكن أن نتصور إنجازا نهضويا بدون أسس عقلانية، أي بدون أن يكون العقل هو البوصلة الموجهة للفكر ولرؤية الواقع. إن الحضارة الغربية ما كان لها أن تقطع أشواطا مهمة على درب التقدم، وترتقي درجات على سلم التطور العلمي لو لم تحسم، تاريخيا، معركتَها ضد كل ما يناقض العقل. فقد قام التنوير الأوربي أساسا على فصل الدين عن الدولة وعن السياسة، مستفيدا في ذلك من ثمار الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، حيث أعاد الكنيسةَ إلى مكانها الطبيعي، أو على الأقل إلى المكان الذي يفترض أن تكون فيه؛ وهو ما مثل الانطلاقة الحقيقية والقوية لقدرة الغرب على تجاوز كثير من العوائق الكابحة للتقدم، وجعل العقل الغربي قوة جبارة وهائلة وقادرة على صنع متطلبات التقدم الحضاري في مختلف المجالات وعلى كل المستويات.
وبالعودة إلى التاريخ نجد أنه في الوقت الذي كان فيه مفكرو “النهضة” العربية يتساءلون: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟، فإنهم في الواقع كانوا يشخصون واقع التخلف دون تفكيك أسس البنيات الثقافية التاريخية المنتجة لذلك الواقع، ومن تم كانت المداخل والحلول التي اقترحوها للنهوض متباينة، فهناك من نظر إلى الأمر من زاوية دينية تقتضي الرجوع إلى السلف الصالح والاقتداء به (محمد عبده)، وهناك من اعتبر الاستبداد السياسي سببا أساسا للتخلف (عبد الرحمن الكواكبي)، وفي المقابل نجد من مفكري عصر” النهضة” من ربط رقي المجتمع بتحرير المرأة وضمان شروط ارتقائها الاجتماعي (قاسم أمين)، بينما اتجه مفكرون آخرون اتجاها قوميا، فاعتبروا أن خلاص الأمة العربية الإسلامية ونهوضها يتطلبان بالضرورة وحدتها (شكيب أرسلان). غير أن الجامع بين هذه الدعوات جميعها، على الرغم من طموحها وحماسها وصدقها ومشروعيتها في وقتها، هو كونها كانت تتم تحت سقف التفكير الديني المُسَلَّم بمنطلقاته التوجيهية الكبرى.
وعلى الرغم من نوايا الإصلاح الديني التي ظهرت بوادرها عند محمد عبده ورشيد رضا وجمال الدين الأفغاني وغيرهم في إطار بنية سلفية منفتحة نسبيا، فإن سلطة الموروث وسيادة الثقافة المعيارية التي تستند إلى الجاهز، حدت من فعالية تلك النوايا وما صاحبها من جهود فكرية، إذ سرعان ما انزلقت هذا السلفية المعتدلة والمنفتحة، كما مثلها محمد عبده ورضا رشيد، لتتحول مع الزمن وتشابك معطيات الواقع، إلى حركة سياسية عنيفة تجسدت في حركة الإخوان المسلمين التي شكلت نكوصا فكريا حادا في سلم الفكر النهضوي العربي، إذ قامت على حصر “الحقائق” عند عتبة ما أنتجه “السلف الصالح”، مع تكفير كل الأفكار التي لا تسايرها توجهاتها المتزمتة وأفق فكرها الضيق، مستغلة في تسييد مشروعها خصوصيات التربة الثقافية المحافظة والملائمة لخطابها.
إن السياق الثقافي والسياسي العربي في القرن التاسع عشر لم يسمح لرواد “النهضة” بما يكفي من الحرية والجرأة على الكشف الحقيقية عن العطب الأساس المعرقل لسيرورة التقدم، لأنهم كانوا أصلا يفكرون ويحاولون الاجتهاد تحت ضغوط رقابة فكرية صارمة لا تتيح المساحة الضرورية والمطلوبة لاشتغال العقل والتفكير الحر والمنفتح على حقائق الواقع المادية، وبذلك افتُقِد الشرطُ الموضوعي للنهوض، وبقيت الأدوات التي اختارتا رواد “النهضة” العربية لهدم الواقع المرفوض وتشييد الواقع البديل، حبيسة دائرة الإيديولوجيا السائدة التي شكل تأويلُ الفقهاء للدين أحدَ مرجعياتها الكبرى، وهو ما أدى إلى نوع من التعايش الهجين بين أنماط غير منسجمة من التفكير، فتداخلت المرجعيات والتصورات مشكلة “وحدة ممزقة” للذوات الفردية منها والجماعية على السواء. ومن تم اختلت موازين المعادلة فظهر التنافر واضحا بين الواقع ومتطلباته من جهة، وطبيعة الحلول المقترحة للنهوض من جهة أخرى، فسقط “العقل” العربي في فخ التقليد والاجترار، والأدهى من ذلك ” اجتهد” في تبرير ذلك الاجترار تحت وهم الوفاء للسلف الصالح. وقد زاد من حدة هذا الوضع كون التاريخ العربي عرف تراكما مذهلا لسلطة الأنظمة الاستبدادية، وهي أنظمة حكم تقوم على قاعدة الطائفية والعشائرية والقبلية المقنعة بالمقدس الديني حينا، وبالشعارات الرنانة للانقلابات العسكرية حينا آخر..
لقد مارست سلطة النقل ديكتاتوريتها المطلقة مانعة أي شكل من أشكال الخيال الجمعي من الانطلاق نحو إمكانات مغايرة لما هو سائد، وهو ما أدى إلى انغلاق هوياتي قاتل ومدمر، نتيجة عطب مركب ومزدوج الأثر، إذ مس الفكر والوجدان معا، عطب همش العقل ولم يسمح للعرب باقتحام عصور الحداثة بإمكانياتهم الذاتية، ففقدوا شخصيتهم المستقلة، وأصبحوا مجرد صدى استهلاكي للحضارات الأخرى. لقد أصبح العقل الحلقة المفقودة في مشروع النهضة والبناء الحضاري للمجتمعات العربية، إذ أُخضِعَ لوصاية قاتلة شلت قدراته وإمكاناته على الإبداع والخلق، وبذلك أعلن استقالته الاضطرارية. وأمام هذا الانسداد التاريخي بقي العقل العربي سجين “الحقيقة المطلقة” التي شكلت المعمار العقائدي والديني لكل أشكال التفكير والاجتهاد، وبقيت مسافة العلاقة الفاصلة بين المرجعية الدينية والدينامية المفترضة للعقل متوترة. وبذلك عجز هذا العقل عن فهم وقراءة التحولات الكبرى في التاريخ الحديث للإنسانية، فوقف متفرجا عليها أو رافضا لها رفض العاجز عن استيعابها واللحاق بها، مما خلق صنمية جديدة في التفكير تولد عنها وجدان جماعي هش وشديد الحساسية تجاه كل ما هو جديد ومختلف.
هذا بالطبع لا يلغي وجود دعوات عملت على استحضار العقل مدخلا للنهوض والتقدم (كما نجد مثلا عند فرح أنطون، ولاحقا عند طه حسين وسلامة موسى بدرجات متفاوتة، وغيرهم) لكن هذه الدعوات حوربت بقوة لكونها تسعى إلى تجاوز السقف المسموح به في التفكير والاجتهاد، فسادت الغيبيات على حساب حرية العقل وقدرته على النقد والإنتاج. ولا شك أن هذا يفسر، في بعض أوجهه، حدة النكسات التي أصابت مشاريع التحديث والتنوير في المجتمعات العربية، خصوصا مع تراكم الانتكاسات في العالم العربي والتي زادت من حدة فقدان الثقة في أي خطاب يرمي إلى تغيير الأوضاع.
إن أوضح تجسيد لمحنة العقل في الثقافة العربية المعاصرة هو التهييج الإعلامي الضخم والمدعم بإمكانات البترودولار والهادف إلى محاصرة أطروحة التنوير في العالم العربي، بما تدعو إليه من مبادئ العلمانية وفصل الدين عن السلطة والاحتكام إلى العقل والإيمان بالاختلاف، وهو الحصار الذي وظفت في ترجمته كل أساليب القمع والتضليل المادي والرمزي. وهذا الحصار لا يختلف إلا في التوقيت وفي السياقات والمسميات وأحيانا في أشكال ممارسته، أما الأهداف فكانت هي نفسها التي تبرر استمرار واقع قمع التفكير العقلاني والحر، فما تعرض له قديما ابن رشد والتوحيدي والحلاج وغيرهم، هو نفس ما تعرض له في عصرنا الحديث أمثال مهدي عامل وفرج فودة ومحمد عابد الجابري وحسين مروة، وغيرهم كثيرون.. إنها محنة العقل في الثقافة العربية بكل تجلياتها التراجيدية، ولذلك فإن أي مقاربة منهجية لقراءة تاريخ الثقافة العربية تستدعي بالضرورة إعادة تفكيك مجمل الوقائع والأحداث والخلفيات التي جعلت “العقل” مغضوبا عليه، بل وموضوع تحريم وتكفير في كثير من محطات الصراع الفكري بين أتباع المحافظة والتقليد من جهة، وأنصار الحرية والاجتهاد من جهة أخرى. إن هذا المأزق الذي واجه ويواجه العقل العربي، يستدعي التأكيد، أكثر من أي وقت مضى، على ضرورة بناء ونشر الوعي القائم على جدلية الحرية والتنوير باعتبارهما مدخلين أساسين وحتميين لتحقيق أي نهوض تاريخي وثقافي فعلي للمجتمعات العربية.