أزمة أم محنة العقل العربي؟
ذ.حسن الرموتي
لا شك أن العقل العربي اليوم يعيش أزمة حقيقية في ظل التقدم الحضاري والتكنولوجي خاصة، ويرجع السبب إلى أن الإنسان العربي مستهلك أكثر مما هو منتج، وبالتالي يجد نفسه في خضم هذه التحولات العميقة التي تشهدها مجمل جوانب حياته. العقل العربي في ظل مظاهر الحداثة التي يعيشها نراه يزداد انحسارا وجمودا لأنه مستهلك لإنتاجات الآخرين وبثقافة ومرجعية عربية إسلامية تمتح غالبا من الماضي المشرق كما يراه العديد من الأفراد، وبالتالي نجده يعيش تناقضا بين ما يؤمن به من سلوك ومرجعيات ثقافية ودينية نشأ عليها وبين مظاهر الحداثة التي تؤمن بالعقل وبالعلم والتفكير المنطقي بعيدا عن أي مرجعية دينية. بل إن محنة العقل العربي في الثقافة العربية نفسها التي ينتمي إليها تبدو واضحة وجلية، وهي معضلة تتجلى في هذا الالتباس مع الدين والسياسة. وعلى الرغم من أن العديد من المثقفين احتكوا بالثقافة الغربية واستلهموا مبادئها فإنهم ظلوا عاجزين عن تمثلها الحقيقي، متشبثين بثقافة أصلية منغلقة على نفسها. هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن العقل العربي رغم محاولاته للتحرر من محنته فإن السلطة السياسية زادت من تعميق هذه المحنة أو الأزمة وقد عانى المفكرون من استبدادها حيث سعت إلى تطويع هذا العقل واخضاعه لإرادتها، ورغم محاولاته فقد استمر العقل العربي مشتتا بين ثقافته التي تشبع بها وبين مظاهر الحداثة التي غزت كل جوانب حياته، وبالتي ظل تائها تتجاذبه من جهة ثقافته العربية، ومن جهة أخرى الأفكار والنظريات وما توصلت إليه الحداثة من ابتكارات جديدة. إن التخلف الذي تعيشه المجتمعات العربية اليوم في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية تظل مسؤولة عن هذه المحنة بل تزيدها عمقا في ظل تقهقر المثقف العربي الذي وجد نفسه منبوذا، أقصد المثقف العضوي المرتبط بهموم الشعب، ليس الذي انبطح للسلطة من أجل مكاسب ريعية.
ومن الواضح أن العقل العربي قد تأثر في العصر العباسي بانتشار الفلسفة وتوسع الافق الفكري والنقدي ونقل الفلسفة وعلم المنطق لأنهما أساس التفكير العقلاني، وكان للصراع بين الفلاسفة والفقهاء أثر كبير في إنتاج أمهات الكتب في التراث العربي، غير أن هذا الازدهار توقف اليوم، ولم يعد الأمر كما كان من قبل، حيث غاب العقل وتحول إلى خطاب أيديولوجي مع انحسار الفلسفة. فالعلوم لم تكن منفصلة عن الفلسفة عند الاغريق أو عند العرب في القرون الوسطى حيث أكد الفيلسوف والطبيب ابن سينا على ارتباط الطب بالفلسفة، كما أكد جابر بن حيان علاقة الفلسفة بالكيمياء، لكن هذا الازدهار الذي اعتمد على العقل قد توقف لأسباب ترتبط بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت بداية من القرن الثاني عشر ميلادي. وحين نشير إلى ذلك، فإن هذا لا يعني أن العقل العربي في العصور الوسطى كان مثاليا، بل كان ثمة صراع بين الفلاسفة والفقهاء، وثم تكفير العديد من الكتاب والفلاسفة بل تم قتلهم أو إحراق كتبهم، لكن في ظل هذا الصراع أنتج العرب أهم الكتب في الفلسفة والطب والعلوم والآداب، ترجم معظمها واستفادت منه أوروبا، والتي دخلت مرحلة التفكير العقلاني في هذه الفترة، بينما تراجع العقل العربي مع عصر الانحطاط.
اليوم يبدو المشهد مؤلما، فالعقل العربي في الألفية الجديدة ما يزال يستمد طاقته من طبيعة البيئة التي نشأ فيها من دين وتقاليد موروثة وسلوك وعلاقات، تبدو له قيما عليا، ويختزن الأشياء في قيمتها بعيدا عن التفكير المنطقي والتفكير النقدي الذي يحلل ويفكك هذه الأنساق التي يؤمن بها، ويشير الراحل محمد عابد الجابري في كتابه “تكوين العقل العربي” إلى أن العقل العربي يفكر بطريقة معيارية …إنه يختزل الأشياء في قيمتها فتضيق ولا يبقى لها مجال للتحليل أو بعد النظر. إنه قليلا ما يتمكن من فعل العكس وهو التفكير بموضوعية وتحليل الأشياء من حوله. والمقصود بالنظرة المعيارية ذلك الاتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم الذي يتخذها ذلك التفكير مرجعا له ومرتكزا، في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية وتحاول الكشف عما هو جوهري، النظرة المعيارية نظرة اختزالية، أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية.
اليوم لا شيء تغير، في السطح تبدو مظاهر الحداثة بكل مظاهرها، لكن الأمور ما تزال على حالها من حيث التفكير، العقل العربي عقل مركب تتصارع فيه العديد من الأنساق أحيانا متناقضة، لكنه يؤمن بها في تناسق عجيب. اليوم العقل العربي في حاجة إلى هزة حتى يتحرر من القيم الموروثة وتعيد له توازنه، في حاجة إلى تغيير نمط تفكيره والانفتاح والتنوير لمواكبة الركب الحضاري والمعرفي الذي وصله الغرب، الأمر ليس بالهين في ظل قرون من الجمود الفكري المنغلق على كل ما هو جديد، والاكتفاء بالاستهلاك لمقومات الحضارة الغربية، لكن إذا كانت العزيمة والإرادة فالأمر ممكن، وعلى المدرسة أن تكون مجالا لتنشئة الأجيال القادمة على التفكير العلمي والمنطقي والتحليل والتفكير الفلسفي الذي يطرح الأسئلة، بعيدا عن دروس الاتكال والانهزامية والعاطفة، نحتاج اليوم إلى تغيير سلوكنا في التفكير والنظرة إلى الأشياء نظرة تحليلية منطقية عقلية للخروج من هذه المحنة أو الأزمة التي ظلت تلازمنا.