غياب العقل: بين حلم الأمس وكابوس اليوم

◆ ذ.عزيز لزرق

ما‭ ‬أشبه‭ ‬الأمس‭ ‬باليوم‭…!‬

يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬العقل‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬محنة،‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬نقصد‭ ‬بالمحنة‭ ‬ذلك‭ ‬الابتلاء‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬فيه‭ ‬العقل‭ ‬امتحان‭ ‬الاضطهاد،‭ ‬إن‭ ‬العقل‭ ‬اليوم‭ ‬يعيش‭ ‬وضعا‭ ‬تراجيديا،‭ ‬لأنه‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬معاصر‭ ‬تتقلص‭ ‬فيه‭ ‬عموما‭ ‬مساحة‭ ‬حضور‭ ‬العقل‭. ‬

‭ ‬كان‭ ‬الهاجس‭ “‬بالأمس‭” ‬هو‭ ‬معرفة‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يتجذر‭ ‬الخطاب‭ ‬العقلاني‭ ‬في‭ ‬تربة‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬تغلغله‭ ‬داخل‭ ‬ثقافات‭ ‬أخرى،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬اهتمام‭ ‬المفكرين‭ (‬محمد‭ ‬أركون،‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي‭…) ‬بنقد‭ ‬أركيولوجي‭ ‬وجينيالوجي‭ ‬لمفهوم‭ ‬العقل،‭ ‬وللخطابات‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬مجالات‭ ‬فكرنا‭ ‬وقولنا‭ ‬وفعلنا‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬وربط‭ ‬ذلك‭ ‬بمرجعياتنا‭ ‬التاريخية‭ ‬و‭ ‬المعتقدية‭ ‬و‭ ‬الفكرية،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يصح‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ “‬محنة‭” ‬العقل‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬جراء‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬اضطهاد‭. (‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬مع‭ ‬المعتزلة،‭ ‬و‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭…) . ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ “‬اليوم‭”‬،‭ ‬يعني‭ ‬حاضر‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ (‬سؤال‭ ‬النهضة‭)‬،‭ ‬و‭ ‬عدم‭ ‬حضورها‭ ‬داخل‭ ‬مشهد‭ ‬إنتاجات‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬باقي‭ ‬الثقافات،‭ ‬و‭ ‬استمرار‭ ‬‭”‬محنة‭” ‬العقل،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬ويتعرض‭ ‬له‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬اضطهاد‭ (‬حسين‭ ‬مروة،‭ ‬ناصر‭ ‬حامد‭ ‬أبو‭ ‬زيد،‭ ‬فرج‭ ‬فودة‭…).‬

لقد‭ ‬استمر‭ “‬الأمس‭” ‬بالنسبة‭ ‬لمجتمعاتنا‭ “‬أمسا‭” ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأزمنة‭: ‬غياب‭ ‬تجذر‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ “‬الأمس‭” ‬في‭ ‬ثقافات‭ ‬أخرى‭ ‬هو‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬العقل‭ ‬إلى‭ ‬إرسائه،‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬للعقل‭ ‬أمسا‭ ‬وحاضرا‭ ‬ومستقبلا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الهاجس‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التغلغل‭ ‬وتأسيس‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬المطلقة،‭ ‬أما‭ “‬اليوم‭” ‬فنحن‭ ‬نعيش‭ ‬نفس‭ ‬اليوم،‭ ‬نحن‭ ‬جميعا‭ ‬أمام‭ ‬الوضع‭ ‬التراجيدي‭ ‬الحالي‭ ‬للعقل‭ ‬وهو‭ ‬وضع‭ ‬مرتبط‭ ‬بالمسار‭ ‬المدمر‭ ‬للعقل،‭ ‬أو‭ ‬بتشكل‭ ‬نمط‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬العقل،‭ ‬يمكن‭ ‬نعته‭ ‬بالعقل‭ ‬الليبرالي‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬تجلياته‭ “‬العقل‭ ‬الإعلامي‭”. ‬فثقافتنا‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬انتصارا‭ ‬للعقل‭ ‬أصلا،‭ ‬لكنها‭ ‬تعيش‭ ‬مثل‭ ‬باقي‭ ‬الثقافات‭ ‬زمن‭ ‬التشوهات‭ ‬والمسخ‭ ‬الذي‭ ‬يطال‭ ‬العقل‭.‬

وعليه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬تجاوزا،‭ ‬إن‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬بالأمس‭ ‬واليوم،‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬كونه‭ ‬كان‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬يواجه‭ ‬ثلاثة‭ ‬مسارات‭ ‬تعمق‭ ‬غيابه‭:  ‬الفكر‭ ‬التقليدياني‭ ‬وما‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬إرسائه‭ ‬من‭ ‬ممارسات‭ ‬لاعقلانية،‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الاجتماعي؛‭ ‬والفكر‭ ‬السلفي،‭ ‬وما‭ ‬يغرسه‭ ‬من‭ ‬تمذهب‭ ‬معاد‭ ‬للتفكير‭ ‬ومنمط‭ ‬للأفراد‭ ‬وللجماعات،‭ ‬وتداعيات‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي؛‭ ‬والفكر‭ ‬التكنوقراطي‭ ‬الذي‭ ‬يسجن‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬عقلانية‭ ‬واحدة‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬عقيدة‭ ‬وفي‭ ‬إرادة‭ ‬القوة‭ ‬حلا‭ ‬لكل‭ ‬المشكلات‭ ‬وتجعل‭ ‬التقنية‭ ‬غاية‭ ‬وليست‭ ‬وسيلة،‭ ‬سواء‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالمشهد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬أو‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحياة‭. ‬

تبعات‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ “‬بالأمس‭”‬

      ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬لعدم‭ ‬إرساء‭ ‬العقل‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬انعكاس‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬المجال‭ ‬السياسي،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تتجذر‭ ‬الثقافة‭ ‬الديموقراطية‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬التعددية‭ ‬والاختلاف‭ ‬والتنوع‭. ‬فالديموقراطية‭ ‬تفترض‭ ‬تغلغل‭ ‬العقلانية‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬واتساع‭ ‬دائرة‭ ‬الجدال‭ ‬العمومي،‭ ‬بينما‭ ‬نلاحظ‭ ‬سوء‭ ‬مآل‭ ‬الجدال‭ ‬العمومي،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬غيابه‭ ‬أصلا‭. ‬

لم‭ ‬يعمل‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬نقد‭ ‬الجذور‭ ‬والبنيات‭ ‬الثقافية،‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬ترسيخ‭ ‬رفض‭ ‬الاختلاف،‭ ‬وهو‭ ‬رفض‭ ‬إيديولوجي،‭ ‬لما‭ ‬يثبته‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬السياسي‭. ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬منظومتنا‭ ‬الثقافية،‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬الجدلي‭ “‬للتصور‭ ‬العقدي‭ ‬والتصور‭ ‬التاريخي‭”‬،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬الأول‭ ‬يؤسس‭ ‬للواحد،‭ ‬والثاني‭ ‬يؤسس‭ ‬للمختلف‭ ‬والمتعدد،‭ ‬لذا‭ ” ‬لم‭ ‬يندمج‭ ‬الاختلاف‭ ‬عندنا‭ ‬كمعطى‭ ‬من‭ ‬معطيات‭ ‬الفكر‭.‬1‭ ” ‬

لم‭ ‬يؤسس‭ ‬العقل‭ ‬لثقافات‭ ‬سياسية‭ ‬متنافسة‭ ‬ومتصارعة،‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأفكار‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المواقع‭ ‬والأشخاص‭. ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬السياسية‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬تشكل‭ ‬فكر‭ ‬يعي‭ ‬معنى‭ ‬التعددية،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬الثقافية‭ (‬العرق،‭ ‬اللغة،‭ ‬الدين‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تجلياتها‭ ‬السياسية‭ ‬كذلك‭. ‬لقد‭ ‬ترتب‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬إرساء‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬غياب‭ ‬الأفكار‭ ‬والنظريات‭ ‬السياسية،‭ ‬وغياب‭ ‬المشاريع‭ ‬والتيارات،‭ ‬وبالتالي‭ ‬غياب‭ ‬نخب‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استنطاق‭ ‬الواقع‭ ‬والنظام‭ ‬السياسي‭ ‬القائم،‭ ‬و‭ ‬بالتالي‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أزمة‭ ‬جدال‭ ‬عمومي،‭ ‬كأحد‭ ‬تبعات‭ ‬عدم‭ ‬تجذر‭ ‬العقل‭ ‬لدينا،‭ ‬فلا‭ ‬سبيل‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬هكذا‭ ‬جدال‭ ‬دون‭ ‬توطين‭ ‬للفكر‭ ‬النقدي،‭ ‬الذي‭ ‬يمتح‭ ‬معنى‭ ‬معمارية‭ ‬وجوده‭ ‬من‭ ‬قوتين‭ ‬ضاريتين‭ ‬أساسيتين‭ ‬هما‭: ‬العقلانية‭ ‬والحرية،‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بتأصيل‭ ‬لبنات‭ ‬الديموقراطية‭ ‬داخل‭ ‬الدولة،‭ ‬وتجذير‭ ‬تربة‭ ‬الاختلاف‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬خلق‭ ‬تراكم‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الثقافات‭ ‬السياسية،‭ ‬لكن‭ ‬حينما‭ ‬تكون‭ ‬مساحة‭ ‬الفكر‭ ‬ضئيلة،‭ ‬تصبح‭ ‬الحرية‭ ‬مجرد‭ ‬وهم،‭ ‬ويغدو‭ ‬العقل‭ ‬وعاء‭ ‬فارغا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تكون‭ ‬الديموقراطية‭ ‬شعارا‭ ‬قائما‭ ‬على‭ ‬صراعات‭ ‬مجانية،‭ ‬تطغى‭ ‬فيها‭ ‬الحساسيات‭ ‬والانفعالات‭ ‬والمزايدات،‭ ‬بينما‭ ‬تغيب‭ ‬النخبة‭ ‬الفاعلة‭. ‬

لقد‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬عموما،‭ ‬خطاب‭ ‬الضحية،‭ (‬الاستعمار‭ ‬واستنزاف‭ ‬الدول‭ ‬القوية‭ ‬للدول‭ ‬المستضعفة‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬رغم‭ ‬مشروعيته،‭ ‬فقد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬تبريري،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬الدولة‭ ‬الضحية،‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬الأمس‭ ‬بدروس‭ ‬تاريخية،‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬بناء‭ ‬مشروع‭ ‬عقلاني‭ ‬تحريري،‭ ‬بل‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭ ‬عاينا‭ ‬وقوع‭ “‬انحراف‭ ‬إيديولوجي‭ ‬مهول‭ ‬فرضته‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬شعوبها‭.”  2

بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬عانت‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬خصوصا‭ ‬والدول‭ ‬المستضعفة‭ ‬عموما،‭ ‬من‭ ‬تقهقر‭ ‬طال‭ ‬جميع‭ ‬الأصعدة،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الشعور‭ ‬ب‭”‬الإهانة‭”‬،‭ ‬وما‭ ‬أفرزته‭ ‬من‭ ‬مكر‭ ‬عقلي‭ ‬ضد‭ ‬العدو‭ ‬الخارجي‭(‬الإرهاب‭)‬،‭ ‬عوض‭ ‬التركيز‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الكفاية‭ ‬على‭ ‬الوضعية‭ ‬الداخلية‭ ‬لهذه‭ ‬الدول‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬انكسارات‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬الخراب‭ ‬الساسي،‭ ‬وما‭ ‬زرعه‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬وأسى،‭ ‬وما‭ ‬ولده‭ ‬من‭ ‬قساوة‭ “‬تقضي‭ ‬على‭ ‬كرامة‭ ‬الناس‭…‬أصبح‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عرضة‭ ‬لإهانة‭ ‬ذاته‭ ‬بذاته‭…” ‬3

تجليات‭ “‬محنة‭ “‬العقل‭ ‬اليوم‭:‬

          ‬يعرف‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الانغلاق‭ ‬المعرفي،‭ ‬يختزل‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬ويفضي‭ ‬إلى‭ ‬الانغلاق‭ ‬الواقعي‭. ‬فالمعرفة‭ ‬المعاصرة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬منشغلة‭ ‬بصراعها‭ ‬ضد‭ ‬اللامعرفة،‭ ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬تغيير‭ ‬الأفق‭ ‬الإنساني‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أفضل،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬المعرفة‭ ‬مهووسة‭ ‬بالصراع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الهيمنة‭. ‬هكذا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تشكل‭ ‬نزعة‭ ‬اقتصادوية‭ ‬إيديولوجية‭ ‬معقلنة‭… ‬تفسر‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بالعلاقة‭ ‬مع‭ ‬المصالح‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ومع‭ ‬المردودية‭ ‬والفعالية‭… ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬عقلانية‭ ‬تكنولوجية،‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬كشيء‭ ‬وكقوة‭ ‬عاملة‭ ‬ومستهلكة،‭ ‬يمكن‭ ‬تطويعها‭ ‬عوض‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬كشخص‭ ‬حر‭ ‬يسعى‭ ‬نحو‭ ‬رقيه‭ ‬الإنساني‭. ‬إنها‭ ‬عقلانية‭ ‬أداتية،‭ ‬تحول‭ ‬فيها‭ ‬العقل‭ ‬إلى‭ ‬سلطة،‭ ‬عوض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الإنسان،‭ ‬أصبح‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬خدمته‭ ‬والامتثال‭ ‬المطلق‭ ‬لتعاليمه4‭. ‬

يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بعقل‭ ‬ينتمي‭ ‬للمرجعية‭ ‬الثقافية‭ ‬السائدة‭ ‬حاليا‭ ” ‬الليبيرالية‭ “‬،‭ ‬والتي‭ ‬غدت‭ ‬منظومة‭ ‬مرجعية‭ ‬موحدة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬بمثابة‭ ‬ديانة‭ ‬للعصر،‭ ‬إنها‭ ‬منظومة‭ ‬تختزل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والتكنولوجي،‭ ‬تعتبر‭ ‬التقنية‭ ‬كثقافة‭ ‬أحادية‭ ‬تجعل‭ ‬الخبراء‭ ‬هم‭ ‬أسياد‭ ‬العالم‭. ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مرجعيتها‭ ‬الحالية‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬عولمة‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة،‭ ‬عوض‭ ‬السعي‭ ‬نحو‭ ‬أنسنتهما‭. ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬رؤية‭ ‬منفتحة‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬البشرية،‭ ‬بل‭ ‬رؤية‭ ‬تخزينية‭ ‬لا‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬كنقد،‭ ‬وتعتبر‭ ‬الحاضر‭ ‬خالدا‭ ‬لا‭ ‬مستقبل‭ ‬أفضل‭ ‬منه‭. ‬إن‭ ‬المرجعية‭ ‬الثقافية‭ ‬الحالية،‭ ‬هي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬ثقافة‭ ‬إسكاتولوجية5‭: ‬ثقافة‭ ‬النهاية،‭ ‬إذ‭ ‬تعلن‭ ‬نهاية‭ ‬الإنسان‭ ‬ككائن‭ ‬تاريخي‭ ‬ثقافي‭ ‬ونهاية‭ ‬الثقافة‭ ‬المتعددة‭ ‬المرجعيات،‭ ‬لكي‭ ‬ترسخ‭ ‬تطابقا‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬والتقنية‭. ‬إنها‭ ‬ثقافة‭ ‬تعطي‭ ‬للفردي‭ ‬وللبعدين‭ ‬السيكولوجي‭ ‬والاتصالي‭ ‬الأولوية‭ ‬على‭ ‬الكوني‭ ‬وعلى‭ ‬البعدين‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتواصلي‭.‬

سيؤدي‭ ‬إرساء‭ ‬العقل‭ ‬الليبيرالي‭ ‬إلى‭ ‬الانغلاق‭ ‬المعرفي‭ ‬والانغلاق‭ ‬الواقعي،‭ ‬وسيفضي‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬نوع‭ ‬معين‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬يمكن‭ ‬نعته‭ ‬ب‭”‬العقل‭ ‬الإعلامي‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الخلط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬بين‭ ‬الواقعي‭ ‬والافتراضي،‭ ‬بين‭ ‬الواقعي‭ ‬واللاواقعي‭. ‬لعل‭ ‬تقلص‭ ‬مساحة‭ ‬الفكر‭ ‬واللوغوس‭ ‬وتراجع‭ ‬اللغة‭ ‬والخطاب،‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬تغلغل‭ ‬الشاشة‭ / ‬الصورة،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تلعب‭ ‬دورا‭ ‬مركزيا‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬كينونة‭ ‬الذات،‭ ‬وبالتالي‭ ‬سننتقل‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬المرآة‭  ‬وانعكاس‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬على‭ ‬وعيها‭ ‬بذاتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللغة،‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬السيلفي،‭ ‬حيث‭ ‬ستحل‭ ‬شاشة‭ ‬سمارتفون‭ ‬محل‭ “‬مرحلة‭ ‬المرآة‭”‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬السيلفي‭ ‬تساؤلا‭ ‬حول‭ ‬الذات‭ ‬بمعايير‭ ‬مغايرة‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬الأمر‭ ‬سابقا‭. ‬

إن‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬جذري‭ ‬خطير‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬بناء‭ ‬المعرفة‭ ‬والحقيقة،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تعويض‭ ‬المعرفة‭ ‬بالمعلومة،‭ ‬وتحويل‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬فرجة‭ ‬للاستهلاك،‭ ‬وليس‭ ‬فرصة‭ ‬للتفكير،‭ ‬وبناء‭ ‬عوالم‭ ‬المعنى‭. ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬إرساء‭ ‬شروط‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬معايير‭ ‬موضوعيىة‭ ‬صارمة‭ ‬داخل‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬أهمية‭ ‬للتحليل‭ ‬والبرهان،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬المراهنة‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬الأحاسيس،‭ ‬وعلى‭ ‬معيارية‭ ‬الإثباتات‭ ‬والتكرارات‭. ‬فالحقيقة‭ ‬أصبحت‭ ‬ترتبط‭ ‬بمعيار‭ ‬سرعة‭ ‬الانتشار‭ ‬بين‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وأهمية‭ ‬خبر‭ ‬وقيمة‭ ‬حدث‭ ‬رهينة‭ ‬بكثافة‭ ‬تداولهما‭ ‬بين‭ ‬القنوات‭ ‬وبين‭ ‬الأشخاص،‭ ‬حيث‭ ‬يقع‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التحريض‭ ‬والتهافت‭ ‬والمزايدة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صنع‭ ‬الخبر‭ ‬والحدث‭ ‬الفائق‭. ‬أن‭ ‬تشاهد‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تفهم،‭ ‬فيكفي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شاهدا‭ ‬لما‭ ‬وقع‭ ‬لكي‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬وقع‭.‬

لقد‭ ‬أصبح‭ ‬الزمن‭ ‬الإعلامي‭ ‬مهيمنا،‭ ‬وتراجع‭ ‬العقل‭ ‬السياسي،‭ ‬ليحتل‭ ‬محله‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي،‭ ‬وأصبح‭ ‬الزمن‭ ‬السياسي‭ ‬تابعا‭ ‬للزمن‭ ‬الإعلامي‭ ‬الذي‭ ‬يقتات‭ ‬من‭ ‬وضعية‭ ‬التأجيج‭ ‬والخطابات‭ ‬الانفعالية،‭ ‬حيث‭ ‬تشكل‭ ‬السرعة‭ ‬عرضا‭ ‬أساسيا‭ ‬من‭ ‬أعراض‭ ‬هيستيريا‭ ‬الافتراضي‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬العقل‭ ‬منشغلا‭ ‬بالتفكير‭ ‬والتحليل‭ ‬والبرهان،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬مهووسا‭ ‬بالإثارة‭ ‬والفرجة‭ ‬والتسلية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬بالمشاهدة‭ ‬والتخزين‭. ‬لقج‭ ‬تقلصت‭ ‬مساحة‭ ‬التفكير‭ ‬والتحليل،‭ ‬وتراجع‭ ‬العقل‭ ‬السياسي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يبرر‭ ‬طغيان‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬استئساد‭ ‬الفورية‭ ‬والمباشرية‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬الترديد‭ ‬والتكرار‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي‭ ‬السائد،‭ ‬أغرق‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬بالآراء‭ ‬عوض‭ ‬الأفكار،‭ ‬فتحول‭ ‬الجدال‭ ‬العمومي‭ ‬إلى‭ ‬جدال‭ ‬عامي،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يصاحب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تمييع‭ ‬سياسي‭. ‬إنه‭ ‬رأي‭ ‬مستبد‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تأحيد‭ ‬المعلومة‭ ‬والذوق‭. ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بجمهور‭ ‬نريد‭ ‬إغراءه‭ ‬ومداهنته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬إخباره،‭ ‬وهو‭ ‬جمهور‭ ‬مستعد‭ ‬دائما‭ ‬للاستهلاك‭ ‬السلبي‭ ‬لما‭ ‬يقع‭ ‬من‭ ‬أحداث،‭ ‬مثلما‭ ‬يفعل‭ ‬الجمهور‭ ‬السلبي‭ ‬مع‭ ‬السينما‭ ‬ومع‭ ‬التلفزيون6‭.‬

ولعل‭ ‬تطوير‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬الاتصال،‭ ‬جعل‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬ضرورة،‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬اختيار‭ ‬سياسي،‭ ‬فأخذ‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬شروط‭ ‬أو‭ ‬طقوس‭ ‬معينة،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬تداول‭ ‬الرأي‭ (‬وليس‭ ‬التفكير‭)‬،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالشأن‭ ‬العام،‭ ‬لكنه‭ ‬تداول‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬يأخذ‭ ‬زي‭ ‬الفضائح‭ ‬والسب‭ ‬والشتم،‭ ‬وبالتالي‭ ‬عوض‭ ‬خلق‭ ‬فضاء‭ ‬لجدال‭ ‬عمومي،‭ ‬أصبحنا‭ ‬أمام‭ ‬فضاء‭ ‬خصب‭ ‬للجدال‭ ‬العامي،‭ ‬تملأه‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والانفعالات،‭ ‬وليس‭ ‬الأفكار‭ ‬والقناعات‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الخلط‭ ‬الحاصل‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬الرأي‭ (‬السياسي‭) ‬والفكر‭ (‬السياسي‭)‬،‭ ‬واختزال‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬الأول،‭ ‬يعني‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬أصبحت‭ ‬فيها‭ ‬السياسة‭ ‬طاغية‭ ‬على‭ ‬الكل،‭ ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يجر‭ ‬الكل‭ ‬إلى‭ ‬الحضيض7‭. ‬

ما‭ ‬أفظع‭ ‬اليوم‭…‬

لقد‭ ‬كانت‭ “‬محنة‭” ‬العقل‭ ‬بالأمس،‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬اضطهاده،‭ ‬وعدم‭ ‬فسح‭ ‬المجال‭ ‬لتغلغله‭ ‬داخل‭ ‬الحياة‭ ‬الخاصة‭ ‬والحياة‭ ‬العامة،‭ ‬ولهذا‭ ‬لم‭ ‬تنغرس‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬جذور‭ ‬الفكر‭ ‬النقدي‭. ‬وبالتالي‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬اليوم‭ ‬تشتكي‭ ‬من‭ ‬مآل‭ ‬سلطة‭ ‬العقل،‭ ‬فإننا‭ ‬نحن‭ ‬اليوم‭ ‬نتحسر‭ ‬على‭ ‬غيابه‭ ‬أصلا‭. ‬كما‭ ‬أن‭ “‬محنة‭” ‬العقل‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬اضطهاده،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬إقصائه‭ ‬الممنهج‭  ‬والناعم‭…‬

      ‬إن‭ ‬الانعكاس‭ ‬السلبي‭ ‬لعدم‭ ‬توطين‭ ‬العقل،‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تعطيل‭ ‬الانتصار‭ ‬لقيم‭ ‬الديموقراطية‭ ‬والحرية‭ ‬والعقلانية‭ ‬والموضوعية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تعطيل‭ ‬سبل‭ ‬تأسيس‭ ‬جدال‭ ‬عمومي،‭ ‬وتشجيع‭ ‬تصاعد‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬النزعة‭ ‬الانفعالية‭ ‬Emotivisme،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬كل‭ ‬حكم‭ ‬أخلاقي‭ ‬قيمي‭ ‬نتاجا‭ ‬فقط‭ ‬لميول‭ ‬تفضيلي،‭ ‬ولاختيارات‭ ‬فردية‭. ‬هكذا‭ ‬فحتى‭ ‬ثوراتنا‭ ‬المفترضة‭ (‬الربيع‭ ‬العربي‭)‬،‭ ‬ظلت‭ ‬ثورات‭ ‬بدون‭ ‬أمجاد،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬انفعالات،‭ ‬وليس‭ ‬تجسيدا‭ ‬لنضج‭ ‬العقل‭ ‬وتغلغله‭ ‬داخل‭ ‬المدينة‭.‬

    ‬لقد‭ ‬فقدت‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬اليوم،‭ ‬البريق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستقطب‭ ‬دعاة‭ ‬العقل‭ ‬والعقلانية،‭ ‬والمنتصرين‭ ‬لقيم‭ ‬العدالة‭ ‬والديموقراطية،‭ ‬فتقلص‭ ‬حضور‭ ‬المقاومين‭ ‬لغياب‭ ‬العقل،‭ ‬والمدافعين‭ ‬عن‭ ‬ممكنات‭ ‬تجذيره،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬المغامرة‭ ‬العقلانية‭ ‬مغرية‭ ‬مخيفة‭ (‬بحكم‭ ‬اضطهادها‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مرغوبا‭ ‬فيها‭.‬

          ‬يعرف‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬تحولا‭ ‬رهيبا،‭ ‬بسبب‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬المجتمعات‭ ‬العقلانية‭ ‬تشتكي‭ ‬من‭ ‬تبعات‭ ‬هذا‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬البنيات‭ ‬النفسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬فإن‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي‭ ‬تغلغل‭ ‬داخل‭ ‬مجتمع‭ ‬غير‭ ‬مسلح‭ ‬بالعقلانية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬تبعاته‭ ‬سلبية‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر،‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬التشوهات‭ ‬والندب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التكهن‭ ‬بمآل‭ ‬نزيفها‭…‬

          ‬ما‭ ‬أشبه‭ ‬اليوم‭ ‬بالأمس،‭ ‬حيث‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬العقل‭ ‬غائبا‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بالأمس‭ ‬كان‭ ‬العقل‭ ‬حلم‭ ‬نخبة،‭ ‬و‭ ‬كانت‭ ‬المدينة‭ ‬يوطوبيا‭ ‬الثقافة،‭ ‬كان‭ ‬التغيير‭ ‬أفقا‭ ‬ممكنا،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فنحن‭ ‬أمام‭ ‬حاضر‭ ‬يغيب‭ ‬فيه‭ ‬العقل،‭ ‬أمام‭ ‬خلود‭ ‬يؤبد‭ ‬اللحظة،‭ ‬أمام‭ ‬صد‭ ‬لكل‭ ‬أبواب‭ ‬التغيير،‭ ‬وإتلاف‭ ‬الربيع‭ ‬و‭ ‬باقي‭ ‬الفصول،‭ ‬فلغة‭ ‬الهيمنة‭ ‬اليوم‭ ‬استأسدت،‭ ‬ولسان‭ ‬حالها‭ ‬يقول‭ ‬انغمسوا‭ ‬في‭ ‬نعيم‭ ‬الحاضر‭ ‬وجنات‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬فالسخط‭ ‬مغامرة‭ ‬و‭ ‬الاحتجاج‭ ‬مراهقة‭ ‬غير‭ ‬محسوبة‭ ‬العواقب،‭ ‬ول‭ ‬تغيير‭ ‬سيكون‭ ‬نحو‭ ‬الأسوأ،‭ ‬حيث‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الفيروسات‭ ‬و‭ ‬الأمراض،‭ ‬فإما‭ ‬قبول‭ ‬الحاضر‭ ‬و‭ ‬إما‭ ‬لعنة‭ ‬الفناء‭. ‬

حقا‭ ‬ما‭ ‬أفظع‭ ‬اليوم‭…..!‬

1عزيز‭ ‬لزرق‭: “‬الحب‭ ‬والضيافة‭: ‬مرايا‭ ‬فلسفية‭”‬،‭ ‬دار‭ ‬التوحيدي،‭ ‬2022‭ ‬ص‭. ‬170

2محمد‭ ‬أركون‭: ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فهم‭ ‬الحركة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ “‬الإسلام‭ ‬والعولمة‭ ‬والإرهاب‭: ‬تداعيات‭ ‬الحاضر‭” ‬إعداد‭ ‬وترجمة‭ ‬عزيز‭ ‬لزرق،‭ ‬منشورات‭ ‬كلمات‭ ‬بابل،‭ ‬2007،‭ ‬ص‭.‬206

3فتحي‭ ‬بن‭ ‬سلامة،‭ ‬الإسلام‭ ‬بين‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمة‭ ‬والشعور‭ ‬بالإهانة،‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ “‬الإسلام‭ ‬والعلومة‭ ‬والإرهاب‭: ‬تداعيات‭ ‬الحاضر‭” ‬إعداد‭ ‬وترجمة‭ ‬عزيز‭ ‬لزرق،‭ ‬منشورات‭ ‬كلمات‭ ‬بابل،‭ ‬2007،‭ ‬ص‭ ‬200‭-‬201

4عزيز‭ ‬لزرق‭: ‬الدعوة‭ ‬والثورة‭: ‬الدين‭ ‬والسياسة‭ “‬،‭ ‬دفاتر‭ ‬وجهات‭ ‬نظر،‭ ‬2015،‭ ‬ص‭. ‬107‭/‬114‭                               

5عزيز‭ ‬لزرق‭: “‬الفليسفة‭ ‬أو‭ ‬العلاقة‭ ‬المبتورة‭”‬،‭ ‬إفريقيا‭ ‬الشرق،‭ ‬2017،‭ (‬فصل‭ ‬نقد‭ ‬النزعة‭ ‬الإسكاتولوجية،‭ ‬ص‭.‬15‭). ‬

6عزيز‭ ‬لزرق‭: “‬الحب‭ ‬والضيافة‭”‬،‭ ‬ص‭.‬89‭/.‬97‭/‬153

7عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي‭: “‬من‭ ‬ديوان‭ ‬السياسة‭”‬،‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي،‭ ‬2009ص‭. ‬154

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى