لكي لا تتحول قوة الدولة إلى دولة القوة

سعيد ناشيد

إذا كان دور الدولة أن تحتكر العنف لكي تحمي الناس من الناس، فمن يحمي الناس من عنف الدولة؟ هذه هي الصيغة الأكثر بساطة للسؤال الأكثر عمقا وتعقيدا في الفلسفة السياسية منذ أزيد من نصف قرن من الزمن إلى اليوم. علينا ألا ننسى بأن الأسئلة الأكثر عمقا وتعقيدا هي دائما الأسئلة التي يمكن صياغتها بالنحو الأكثر بساطة وبداهة.
– دور الدولة أن تحتكر العنف : أطروحة الكثيرين.. ماكس فيبر مثلا.
– دور الدولة أن تحمي الناس من الناس : أطروحة الكثيرين.. توماس هوبز مثلا.
– السؤال، من يحمي الناس من عنف الدولة؟ سؤال الأكثرين في الزمن الحاضر.. فوكو، دولوز، بودريار، آلان بادبو، إلخ.
السؤال كبير إذن وإشكاليّ أيضا، وهو مثار إزعاج وانزعاج، لكنه بقدر ما هو كذلك، فإنه حافز كبير للتفكير في مسائل السلطة والديمقراطية وحقوق الأقليات والحريات الفردية وحقوق الإنسان. لكن، علينا الاعتراف بادئ الأمر بأن الفلسفة المعاصرة لم تقدم في أي لحظة من لحظاتها إجابة قطعية ونهائية عن السؤال المذكور. لكن، ليس مناطا بالفلسفة أن تقدم إجابات قطعية طالما أن الإجابات القطعية تنهي التساؤل وتغلق باب التفكير. غير أن التفكير الفلسفي في فحوى السؤال قد ساهم، نظريا، في تطوير مفهوم الديمقراطية، وساهم، عمليا، في تطوير الممارسة الديمقراطية في مستوياتها المؤسساتية والتشريعية. وبهذا النحو استطاع الحراك الفلسفي الغربي أن يترك أثرا كبيرا على تطور الحياة السياسية. أليس يقال لا ممارسة ثورية من دون نظرية ثورية؟ يقال هذا عن الثورة لكنه يصدق على كل ممارسة سياسية تتسم بنوع من الجدة وروح الإبداع.
لكن، دعنا نعترف بأن السؤال المذكور ليس جديدا، فقد كان مطروحا في كل الأزمنة وعلى الدوام، غير أنه لم يكن قبل اليوم سؤالا إشكاليا. ربما الذي أضفى عليه طابعا إشكاليا أن الانتخابات الحرة والنزيهة نفسها لا تكفي لحماية الناس من تغول السلطة. لماذا؟ لأن السلطة، كيفما كان نوعها، إذا لم تجد حواجز منيعة فهي ميالة بطبعها إلى التسلط والتجبر. لهذا السبب، كانت الحالة الغالبة على النظم السياسية لكل شعوب وحضارات الأرض هي الاستبداد بكل أشكاله القبلية والسلطانية والإمبراطورية، اللهم في حالات نادرة استثنائية ولم تعمر طويلا. أكثر من هذا، لا تكفي أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة إذا لم يرافقها استعداد الناس لعدم التفريط في قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كما يؤكد الفيلسوف الأميركي ليو شتراوس. لقد صعد هتلر عن طريق الانتخابات الحرة. وإلى اليوم لا يزال يخيم شبح صعود اليمين المتطرف عن طريق الانتخابات في أعرق الديمقراطيات الغربية. وثمة في تركيا مخاوف متصاعدة من تغول سلطة أردوغان باستعمال آليات الديمقراطية نفسها. ولعل المسألة التركية هنا تمثل تحديا ليس فقط أمام فرضية أن الحد من تدخل المؤسسة العسكرية سيقود حتما إلى ترسيخ الديمقراطية والتعددية، ومن ثمة الاستجابة لمعايير الاتحاد الأوروبي، وإنما يمثل تحديا أيضا أمام فرضية أن “الإسلام السياسي المعتدل” هو الأقدر، ضمن المعطيات المتوفرة اليوم، على تحقيق تلك الأهداف، ومن ثمة التناغم مع الاستراتيجية الأميركية.
السؤال المطروح إشكالي إذن، ولا يحتمل إجابة بسيطة. هذا ما يفسر ارتباك القوى الديمقراطية المحلية والإقليمية والدولية إزاء كون الديمقراطية نفسها قد تصبح وسيلة لصعود قوى تسلطية شعبوية غوغائية تدمر الديمقراطية باسم الديمقراطية. هنا تكمن الهشاشة الأصلية للديمقراطية. إن السؤال المطروح هو كالتالي: إذا كانت سلطة الدولة تضبط الناس بوسائلها، وهذا واجبها، فبأي الوسائل يمكننا أن نضبط سلطة الدولة؟ هناك من اختار التركيز على الشق الأول من المعادلة، حيث المهم أن تضبط الدولة الناس وتحميهم من عدوان بعضهم على بعض (على طريقة ليفياتون توماس هوبز)؛ وهناك من ركز على الشق الثاني من المعادلة، حيث الأهم، بعد أن صارت الدولة الوطنية الحديثة راسخة البنيان ولا تتورع عن الاستقواء بنتائج العلم والتقنية، هو تفريخ آليات المقاومة لغاية حماية الناس من تضخم سلطة الدولة (على منوال الميكرو- ثورات والمتفردات وفق تصور جيل دولوز مشيل فوكو وجان بودريار). لكن المعادلة ذات وجهين في الأول والأخير، ولا سيما بالنظر إلى كوارث ما بعد ثورات “الربيع العربي” المغدورة والمجهضة عندنا: كيف يمكن ضبط المجتمع عن طريق دعم قوة الدولة، وفي نفس الوقت ضبط قوة الدولة لكي لا تتغول في الأخير؟
في واقع الحال، ليست الدولة ضرورة طبيعية بالنسبة للإنسان، ليست شيئا ملازما للوجود البشري. رغم ذلك لا يمكننا الاستغناء عنها والعيش من دونها، أو على الأقل، حتى نكون موضوعيين ومتواضعين، فالاستغناء عن الدولة لن يُطرح في الزمن المنظور. الدولة ستلازمنا لعقود طويلة وربما لقرون أخرى، طالما أنها تجيب عن اختلال موجود فينا متجذر في أعماقنا. ما هو؟ في سياق تطور الإنسان وتراجع قوة الغرائز الطبيعية وقدرتها على الضبط والتحكم، احتاج الإنسان إلى مؤسسات “مصطنعة” تقوم بوظيفة الضبط والتحكم، مؤسسات ستثير لديه كل مشاعر التذمّر والتمرّد لكنه في نفس الوقت سيحتاج إليها. تلك المؤسسات تمثل في آخر المطاف ما يسمى بمؤسسات الدولة (السجن، الأمن، القضاء، المدرسة، الجيش، الضرائب، الجمارك). بمعنى، جراء تدهور الناظم الغريزي الذي كان بوسعه أن يحدّ من أنماط الجشع المفرط والقتل المجاني والاغتصاب الجماعي والاعتداء على الأطفال، إلخ. أصبحت أجهزة سلطة الدولة ضرورية لغاية إعادة الضبط والتحكم. لكن، للمعادلة وجها آخر: لأن سلطة الدولة ليست معطى طبيعيا فإنها قد تفسد الإنسان وتشوه طبيعته وتُفقده طيبته وتحوله بمفعولها السحري إلى وحش مرعب. غير أن الاعتراف بهذه الحقيقة لم يكن أمرا سهلا ولا سلسا، فقد تطلب حروبا أهلية ودماء غزيرة ومنعطفات دراماتيكية.
ميزة الحداثة أنها استخلصت الدرس بوضوح واستنتجت في الأخير بأن السلطة قد تعرض الإنسان إلى الفساد المقرون بأسوأ الأمراض (النزوع إلى السيطرة، جنون العظمة، حب الظهور، إلخ.)، لذلك لا بد من تدابير قانونية ومؤسساتية تحمي قوة الدولة من أمراض القوة. هنا تكمن البداهة التي أنكرتها العهود القديمة معتقدة بأن جوهر السلطة الخير والصلاح، ولا يكون الفساد فيها إلا طارئا عليها أو في هامشها، كأن يكون السبب هو تقاعس حاشية السلطان أو تهاون المخبرين، وإلا فإن جوهر السلطة هو الصلاح. عندما نؤكد اليوم بأنّ السلطة تفسد الإنسان، فالأمر متعلق باعتراف حداثي تبلور في سياق قدرة الحداثة السياسية على طرح السؤال: ما العمل حتى لا تتكرر مآسي الحروب الأهلية والدينية وصعود الأنظمة الفاشية والنازية؟ نقطة البداية كانت اعتبار السلطة قد تفسد الإنسان، وقد تفقده إنسانيته. الدولة ليست هدية السماء، ليست ظل الله في أرضه، ليست فضاء العصمة والقداسة، الدولة صناعة بشرية قابلة لأن تَفسُد وتُفسِد. على ضوء هذا الاعتراف أحيطت سلطة الدولة بتدابير تنظيمية وقانونية ومؤسّساتية تقلم أظافرها لكي لا تؤذي نفسها بنفسها فتؤذي معها الناس، ضمن ذلك: استقلالية القضاء، حرية الإعلام، نظام اللامركزية، الانتخابات في دورتين، تحديد مدّة الولاية بسنوات محدودة (4 سنوات على الأرجح) ولا تتعدى مرتين على التوالي، فضلا عن ديناميكية المجتمع المدني كسلطة مضادة، إلخ.
إن سلطة الدولة كآليات للضبط ضرورية، لكن لأنها ليست إجراء طبيعيا فإنها تحتاج إلى آليات تضبطها حتى لا تتغوّل في الأخير، فتتحول من قوة الدولة إلى دولة القوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى