الكتابة على الجسد… بحث في الدلالات

رزين يوسف

تحضر الكتابة على الجسد كممارسة إنسانية مثيرة للتساؤل والعجب. ممارسة غامضة، حافلة بالرموز والخطاب المضمر، فلماذا يا ترى يلجأ إليها الإنسان ؟ وما هي الدلالات والمعاني الكامنة وراءها ؟
بداية يمكن القول إن الإنسان كان منذ القديم يبحث عن وثيقة يسجل عليها انطباعاته وأفكاره، ولأن الجسد هو أكثر الوثائق حميمية والتصاقا بالوجدان، فقد اختاره ليدون عليه انطباعاته وأفكاره الأكثر عمقا.
إن الكتابة على الجسد تكتسي أهمية خاصة لدى الإنسان من حيث دلالتها ورمزيتها، فهي باعتبارها كتابة على وثيقة ذات أهمية خاصة (الجسد) فإنها لا تحتمل الكذب، ولهذا كان الخطاب المعلن من خلالها مليئا بالدلالات والرموز والصدق، فماذا يمكن القول بخصوصها ؟
لتحليل هذه الكتابة يجب أولا البحث في وسائلها وأدواتها. أولا هذه الكتابة تتم بعدة طرق أشهرها الوشم وهو يتم بوخز إبرة على جلد الإنسان الموشوم الذي في الغالب يكون امرأة، وفي الواقع فإن الكتابة بالإبرة ممارسة لا تخلو من دلالات. ولتقريب المسافة إلى ذهن القارئ نحيله إلى ممارسات سحر الفودو، حيث يتم إحضار دمية تمثل الشخص المراد إيذاؤه ويتم وخزها بالإبرة قصد إلحاق الأذى بالشخص المعني. إن الوخز بالإبر هو تصغير لعملية الطعن بالسيف وكأن من يخز الدمية بالإبرة يرغب في الواقع في مبارزة الشخص المعني وطعنه بالسيف، فيتحول السيف إلى إبرة والشخص المقصود بالإيذاء إلى دمية، ومن خلال وخزها مرات عديدة تتم عملية تفريغ الغضب الكامن من طرف الشخص المنتقم. كذلك فعملية الوشم التي تتم بالإبرة لا تخرج عن نفس السياق وإن اختلف المعنى، فالمرأة في المجتمعات القديمة للدلالة على أنها امرأة مرغوبة من طرف الرجال ولان العلاقة بين الأنثى والذكر تقوم على الصراع وتأخذ في اللاشعور الجمعي شكل المبارزة، حيث أن كلا الجنسين يتبادلان الطعنات قبل أن تحول إلى حب، فإن المرأة الواشمة على وجهها تريد الإشارة إلى أن حبيبا أو أكثر قد مروا من هنا، وبالتالي فهي امرأة مرغوب وما دامت مرغوبة من طرف الرجال فهي امرأة خصبة وليست عاقرا، وهو الأمر الذي كان يؤرق الرجل القديم. هذا الرجل قبل ظهور الديانات التوحيدية لم يكن يعترض على الخبرات السابقة للمرأة بل كان يرحب بها على اعتبار أنها دليل على قدرتها على الإنجاب، أما المرأة الخالية من الوشم فمعناها في المخيال الذكوري أنها امرأة مهجورة وعقيمة. إن الوشم ككتابة مدونة على وجه المرأة هو دلالة على صدق ما تقول لأن الإنسان لا يدون معلومات مزيفة على جسده، و في نفس الوقت فإنه يصبح علامة إغراء وإثارة جنسية وتأكيد للذكر بإمكانية الإنجاب، لهذا نلاحظ أن المرأة في المجتمع الأمازيغي مثلا تشم وجهها عند فترتي البلوغ والزواج.
أيضا لا تكتفي المرأة بإرسال الرسائل إلى الرجل بخصوبتها عن طريق الوشم، بل تخبره بأنها حاذقة في عملها ونشيطة ومجدة ، فتشم يديها دلالة على أنها تجيد أعمال البيت والحقل لدرجة أن يديها تصابان بالخدوش والجروح ، فتخبره بأنها ليست امرأة كسولة بل يستطيع الاعتماد عليها. يبقى أن اللون الأخضر للوشم وهو الشائع عند النساء هو لون الخصوبة بامتياز، فهو لون الحقول حينما تنبت فيها الأعشاب، و المرأة لا تنفك تشير وترمز إلى أنها تشبه الحقل القادر على المنح والعطاء .
في المقابل فإن الرجل وكما هو ملاحظ يشم نفسه في منطقة محددة وهي العضد والذراع في إشارة منه إلى قوته و قدرته. وقد كان ملوك الأمازيغ يتميزون عن باقي أفراد الشعب بأوشامهم على سواعدهم كما خلدتها الرسومات المتعلقة بهم في المعابد الفرعونية.
غير انه إذا كان المرء ذكرا أو أنثى يشم جسده من تلقاء نفسه لإرسال خطاب معين للآخرين، فإن هناك نوعا آخر من الكتابة على الجسد وهو ما يسمى بالوسم و هو يتم بإكراه الشخص المعني به قصد تمييزه عن الآخرين كأن يكون مجرما أو عبدا أو أسير حرب، أو كما كان يحدث في عهد الدولة الرومانية حيث كان يفرض على الجنود الرومان وشم أيديهم حتى يسهل التعرف عليهم في حالة الوفاة أو الفرار. أيضا هناك طريقة أخرى للكتابة على الجسد منتشرة بين شعوب إفريقيا واستراليا وهي التشريط، أي إحداث جروح أو ندبات في الوجه و ذلك لأن بشرتهم سوداء و بالتالي لن يظهر على الوشم بلونه الأخضر وهو أيضا يستعمل لدى هذه الشعوب لأغراض احتفالية وجمالية.
هذا وقد ظلت المجتمعات القديمة تنظر لجميع أشكال الكتابة على الجسد سواء كانت وشما أو وسما أو تشريطا على أنها ممارسة إنسانية تروم حفظ الذاكرة وإرسال خطاب بدلالات ورموز معينة قصد لفت الانتباه، حتى جاءت الأديان السماوية ومنعتها نظرا لأن الأديان تعارض كل سلوك يحمل في طياته إثارة جنسية، لذلك حرمت اليهودية الوشم كما جاء في سفر اللاويين « ولا تجرحوا أجسادكم لميت وكتابة وسم لا تجعلوا فيكم أنا الرب «، أيضا في عام 787م قام مجلس نيقية الثاني بحظر الوشم باعتباره ممارسة وثنية، وكذلك حرمه الإسلام كما جاء في الحديث النبوي « لعن الله الواشمات و المستوشمات …» .
وهكذا تحول الجسد إلى ورقة بيضاء يمنع منعا كليا التدوين عليها، الشيء الذي حرم الإنسان من وسيلة هامة للتخاطب. لكن الملاحظ أن المرأة لم تيأس وقامت بالتحايل على الحظر الديني فأبدعت فكرة الحناء متخذة هذا الاسم الذي يحيل إلى الحنان لإزالة مخاوف الرجل بعد أن صار ينفر من المرأة المقاتلة ويرغب في المرأة الأم. الحناء إذن صارت وشما أو كتابة على الجسد من نوع خاص تستطيع المرأة من خلالها أن تشير مرة أخرى إلى خصوبتها وبأن أشياء قد مرت على جسدها وخلفت وراءها تلك النقوش الجميلة من الحناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى