مبدأ التدبير الحر والمراقبة الإدارية بالجماعات الترابية
من خلال الدستور والقانون التنظيمي رقم 113.14
I – تذكير بسياق ميلاد مبدأ التدبير الحر والمراقبة الإدارية:
قبل التطرق للمقتضيات الدستورية والقانونية المتعلقة بمبدأ التدبير الحر والمراقبة الإدارية التي جاء بها دستور 2011 والقانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات أعتقد أنه من الضروري إلقاء نظرة ولو مقتضبة على مسلسل اللامركزية ببلادنا بخصوص علاقة الكائن المنتخب بالكائن الإداري الممثل للسلطة المركزية التي وسمت التدبير الترابي المحلي. لقد انطلقت تجربة اللامركزية ببلادنا منذ نصف قرن من الزمن بالمصادقة على ظهير 2 دجنبر 1959 بمثابة التقسيم الإداري للمملكة، والذي أسفر لأول مرة عن احداث 108 جماعة حضرية وقروية. ثم تلا ذلك اعتماد أول ميثاق جماعي بتاريخ 23 يونيو 1960، لكن باختصاصات محدودة وجهاز تنفيذي مزدوج ووصاية قوية.
ومع ظهير 30 شتنبر 1976 منح التنظيم الجماعي لمجالس الجماعات بعض الاختصاصات مع تمتيعها بنوع من الاستقلال المالي والإداري. غير ان هذه الاختصاصات ظلت خاضعة لوصاية إدارية تمارسها السلطة المركزية وممثليها على صعيد العمالات والأقاليم عن طريق:
• مصادقة وزارة الداخلية او عمال العمالات على أعمال المجلس حتى تكون قابلة للتنفيذ؛
• إبطال مقررات هذه المجالس في حالة عدم مشروعيتها؛
• تكريس الوصاية على الأعضاء والتي تمثلت في عزل أعضاء المجالس المنتخبة بمرسوم أو توقيفهم بقرار وزير الداخلية.
وبصدور القانون 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي بتاريخ 03 أكتوبر 2002 ثم التعديلات التي طرأت عليه سنة 2003 وسنة 2009 تم التخفيف نسبيا من هذه الوصاية وذلك بتقليص المجالات الخاضعة للمصادقة واعتماد ما سمي بمصادقة القرب وتعزيز المواكبة والشراكة مع الدولة.
وبعد كل هذه التجارب والتراكمات كان من المنطقي استخلاص الدروس ثم الإقدام على جيل جديد من القوانين بما فيها تلك المتعلقة باللامركزية تؤطر لمرحلة ما بعد حركة 20 فبراير 2011 وتجيب على شعار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية على المستوى الترابي المحلي. فهل شكلت الوثيقة الدستورية والقانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات محطة نوعية تقطع مع التجارب السابقة وتخول الجماعات صلاحيات محددة وتدبيرا حرا حقيقيا يؤسس لهذه المبادئ على مستوى التدبير الترابي المحلي اقتداء بتجارب رائدة في العالم في هذا المجال أم أنه يشكل فقط محطة لا زالت تتطلب تطويرا مستمرا؟
إن الإجابة الموضوعية على هذا السؤال يتطلب دراسة كل المقتضيات التي جاء بها القانون التنظيمي السالف الذكر على ضوء الممارسة. ونظرا لعدم توفر دراسات ميدانية تشمل كل الجوانب المتعلقة بتطبيق هذا القانون لا فيما يخص الاختصاصات ولا الصلاحيات المنوطة بالمجلس وبرئيسه ولا فيما يخص مساطر التدبير والتجاذبات بين مختلف المتدخلين الأخرين من جماعات ترابية أخرى ومؤسسات عمومية ومصالح الدولة، سأكتفي من خلال هذا العرض بالتطرق لبعض المقتضيات التي جاء بها هذا القانون التنظيمي المتعلقة أساسا بمبدأ التدبير الحر والمراقبة الإدارية وإبراز هل منطق التدبير الحر يلتقي مع شرط إخضاعه للمراقبة الإدارية؟
وقبل الخوض في تفاصيل مفهوم وممارسة التدبير الحر والمراقبة الإدارية لا بد من التطرق لبعض الظروف التي قد تكتسي أهمية قصوى من حيث مساهمتها ولو بطريقة غير مباشرة في إخراج النص القانوني الذي يؤطر عمل الجماعات.
لقد أفرد دستور 2011 قانونا تنظيميا وليس قانونا عاديا لتأطير عمل الجماعات الترابية (الفصل 146 الذي ينص على: “تحدد بقانون تنظيمي بصفة خاصة: شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الإنتدابات وكذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة....”؛
وينص الفصل 86 من الدستور على أن مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها فيه تعرض وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا الدستور”، وبما أن النص الذي يؤسس لعمل الجماعات هو قانون تنظيمي فهو يدخل ضمن هذا النطاق؛
كما ينص الدستور كذلك في الفقرة الثانية من الفصل الثاني على أن “الأمة تختار ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم”. وانتظام الانتخابات حتم إعداد هذا القانون حيث أشرفت الولاية المتعلقة بمجالس الجماعات على نهايتها في أكتوبر 2015. إذن من الناحية القانونية الصرفة، كانت الحكومة مضطرة بحكم الدستور لتقديم مشروع القانون في الآجال الدستورية واحترام المقتضيات المتعلقة بانتظام تنظيم الانتخابات. لكن وبالنظر إلى أهمية هذا القانون التنظيمي الذي يشرع لسياسة ترابية معينة في إطار توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات الترابية كان من الأجدر أن تكون القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية من بين النصوص التي كان يجب إعدادها بشكل مبكر حتى يتم إشراك فعلي لمختلف الفاعلين السياسيين وجمعيات المجتمع المدني في الإعداد الجاد قصد التوصل إلى نص بجودة مقبولة منهجية وشكلا ومضمونا. فالحكومة ممثلة في شخص وزارة الداخلية لم تشرع فعليا في إعداد مشروع النص القانوني إلا في يناير 2014 لتخلص إلى المسودة الأولى في يونيو 2014 وتعرضها على الأحزاب السياسية ابتداء من 18 يوليوز 2014، حيث أن هذه الفترة تتزامن من جهة مع نهاية السنة الدراسية والجامعية ومع العطلة الصيفية ثم الدخول المدرسي والجامعي خلال شهري شتنبر وأكتوبر. وفي هذه الفترة يصعب تنظيم أنشطة فكرية نظرا لغياب الأكاديميين المختصين في المجال وانشغالهم بقضايا أخرى وكذلك بالعطلة الصيفية.
وهكذا تم تجميع مقترحات الأحزاب السياسية خلال أشهر شتنبر وأكتوبر ونونبر 2014 وتم عرض الصيغة الجديدة على الأحزاب في شهر نونبر وبعد ذلك تم عقد مشاورات تقنية مع هذه الأحزاب خلال شهر دجنبر. وللتذكير فقد قدمت فيدرالية اليسار الديمقراطي عدة مقترحات تروم توسيع اختصاصات الجماعات وضمان حرية تدبيرها بعيدا عن الوصاية الإدارية وضمان نجاعة تسييرها عبر وضع شروط تتعلق بالترشيح لمهام الرئيس وتحديد صلاحيات المكتب إلى غير ذلك من الاقتراحات التي تتعلق بمجال الجماعات الترابية… غير أن معظم إن لم نقل كل المقترحات تم رفضها من طرف ممثلي الحكومة آنذاك (وزير الداخلية محمد حصاد ووزير العدل مصطفى الرميد).
وهكذا تم إعداد الصيغة النهائية خلال شهر يناير 2015 وتمت المصادقة على مشروع القانون التنظيمي في المجلس الحكومي يوم 22 يناير ثم في المجلس الوزاري في 29 يناير 2015 وتمت إحالة المشروع على مجلس النواب في 16 فبراير 2015 ليتم اعتماد النص بعد قراءة ثانية بتاريخ 09 يونيو 2015 وبعد إدخال بعض التعديلات من طرف مجلسي البرلمان تم عرض القانون التنظيمي على المجلس الدستوري الذي أقرمن خلال قراره رقم 968/2015 م.د بتاريخ 30/6/2015 بمطابقة جزئية للدستور حيث اعتبر كل مواد القانون التنظيمي المعروض عليه مطابقة للدستور باستثناء الفقرة الأخيرة من المادة 51 التي تنص على:
وتم نشر النص بالجريدة الرسمية عدد 6380 بتاريخ 23 يوليو 2015.
و يتبين من خلال دراسة سياق إعداد ومناقشة واعتماد مشروع القانون التنظيمي 113.14 الذي يؤطر عمل الجماعات أن الحكومة أخذت كامل وقتها بعيدا عن الإكراهات التي رافقت على سبيل المثال إعداد مسودة دستور 2011 الذي صاحبته حركات اجتماعية وفي مقدمتها حركة 20 فبراير فأعطت دستورا جاء ببعض المقتضيات الإيجابية مقارنة مع الدساتير السابقة، لكن هذه المقتضيات قيدت بقوانين تنظيمية في ظاهرها مكملة للدستور لكن في حقيقة الأمر حسب اعتقادي لا تعدو أن تكون وسيلة للتحكم لإفراغ مضمون المقتضيات الدستورية التي أسست لبعض الإيجابيات. فالمسافة الزمنية التي فصلت بين إصدار دستور 2011 (1 يوليوز 2011) وإعداد مسودة القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات (يناير 2014) تعدت سنتين ونصف واتسمت بانحدار منسوب الاحتجاجات والضغط السياسي مقارنة مع حجم تلك التي شهدها المغرب مطلع سنة 2011 كما أن حكومة بنكيران كانت قد تعرضت لهزة عنيفة بعد خروج حزب الاستقلال منها ودخول حزب التجمع الوطني للأحرار في أكتوبر 2013 وبالتالي فكل الظروف كانت مواتية لتمرير جملة من القوانين المجحفة بما فيها القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات.
فماذا أفرز هذا السياق بخصوص هندسة اللامركزية ببلادنا خاصة على مستوى الجماعات من منظور الفلسفة المؤسسة لمبدأ التدبير الحر الذي جاء به دستور 2011 في علاقته وتعايشه وتناقضه مع المراقبة الإدارية التي أسس لها نفس الدستور؟
II. مبدأ التدبير الحر والمراقبة الإدارية في مجال الجماعات
1. مبدأ التدبير الحر
أ. مفهوم التدبير الحر
للإحاطة بمحاولة فهم مفهوم التدبير الحر يحيل الباحثون (يوسف التونسي) على الدساتير الفرنسية التي يرجعون إليها أصول ظهور هذا المبدأ، حيث تمت الإشارة إليه في بداية الأمر في الفصل 87 من دستور 1946، وتم التأكيد عليه بموجب الفصلين 34 و72 من دستور 1958. حيث نص الفصل 34 على أن “مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية من المبادئ المحمية من التشريع”، في حين أكد الفصل 72 أن “الجماعات تحدث بموجب القانون وتدبر شؤونها بشكل حر عبر مجالس منتخبة وبالارتكاز على الشروط المحددة قانونا.”
وقد منح هذا المبدأ في الدستور والقانون الفرنسيين للجماعات حرية إدارة مجالها وتدبير مواردها المالية والبشرية وفق الشروط المحددة في الدستور والقانون. وقد كان لاجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي أهمية بارزة في وضع الأسس الأولية والنظرية للمبدأ، وكذا تحديد مضمونه وتوضيح مجاله وضمان الالتزام بتطبيقه وحمايته من تدخل المشرع.
واقر المجلس الدستوري الفرنسي القيمة الدستورية لمبدأ التدبير الحر باعتباره من الحريات الأساسية للجماعات من خلال مجموعة من القرارات الصادرة عنه:
• القرار الصادر في 29 ماي 1979 في قضية Territoire de Nouvelle-Calédonie.
• القرار الصادر في 20 يناير 1984 المتعلق بحرية تدبير الجماعات لمواردها البشرية.
• قرار 18 يناير 2001 بخصوص. Commune de Venelles
• قرار 12 يونيو 2002 بخصوص Commune de Fauillet.
هذا دون إغفال القرار الصادر عن المجلس في 20 يناير 1993 والذي أكد للمرة الأولى على أن “الحرية التعاقدية” باعتبارها أحد مقومات مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية. ومنح هذا القرار المجالس المنتخبة حرية تنظيم مرافقها المحلية أو تفويت تدبيرها بالأسلوب الذي تراه مناسبا وحسب ما تقتضيه المصلحة العامة.
لكن وبالرغم من التكريس الدستوري لهذا المبدأ، فان التحديد الفقهي له ظل شبه غائب لعقود من الزمن بل إن بعض الفقه لم يقتنع حتى بجدوى المفهوم وشكك في إمكانية تحديد مضمونه ومحتواه.
واعتبر أن اصطلاح التدبير الحر من وجهة النظر الدستورية لا يعني أي مفهوم، ويبقى مصطلحا غامضا وفارغا وبدون مرجعية تتمثل وظيفته في نقل الإيديولوجية السياسية للديمقراطية التمثيلية إلى المستوى الإداري.
على خلاف هذا الرأي، يعتبر بعض الفقه أن التدبير الحر له مفهوم سياسي يطابق إيديولوجيا إرادة المنتخبين والمسيرين المحليين وكذا الرأي العام المحلي في رؤية شؤونهم المحلية تسير بطريقة حرة، وان هذا المفهوم السياسي قابل لان يتم تحميله بمضمون قانوني.
في نفس السياق يذهب بعض الفقه إلى أن مدلول التدبير الحر وان كان من الناحية القانونية ضعيفا، فان ذلك ليس سببا لإقصائه باعتبار أن الأمر يتعلق باصطلاح دستوري أي تعبير ورد في الدستور لذلك يتعين إعطاء مضمون له.
واعتبر آخرون أن مبدأ التدبير الحر هو مفهوم مركب وذو بعدين، بعد ذو طبيعة عضوية وبعد ذو طبيعة وظيفية. ويقصد بالبعد العضوي مصدر الأجهزة التنفيذية التي سيوكل إليها تدبير شؤون الساكنة المحلية، وكذا درجة الاستقلالية المؤسساتية لهذه الوحدة الترابية المحلية. أما على المستوى الوظيفي فإن ذلك يعني توفر مجال أوسع للتعبير عن الإرادة المحلية، عبر وجود اختصاصات لهذه الوحدات الترابية اللامركزية وكذا طريقة توزيعها بين الدولة وجماعاتها الترابية.
وبغض النظر عن هذه الاختلافات الفقهية، فالمؤكد هو المساهمة الكبيرة للمبدأ في تطوير المسار اللامركزي بفرنسا، من خلال جعل الجماعات الترابية أكثر استقلالية عن الإدارة المركزية في النواحي الإدارية والتنظيمية مع احترام مبدأ “وحدة الدولة” والضوابط الدستورية والتشريعية والتي لا تحد من مبادرة المجالس المنتخبة في تدبير شؤونها وتبني الاختيارات التنموية التي تراها مناسبة.
وفي المغرب يمكن اعتبار تنصيص الدستور على مبدأ “التدبير الحر” في الفصل 136 منه بقوله إن التنظيم الجهوي والترابي يرتكز على مبادئ التدبير الحر، أهم مستجد في مسار تجربة اللامركزية بالمغرب. غير أن الوثيقة الدستورية ساهمت في نفس الوقت في تعويم هذا المبدأ بالاكتفاء بالإشارة إليه بشكل عام والتزام الصمت بخصوص تعريفه ورسم حدوده بل وحتى عدم مطالبة المشرع بالقيام بهذه المهمة. ويتضح ذلك جليا عند قراءة الفصل 146 من الدستور قراءة متأنية. فهذا الفصل أناط بقانون تنظيمي تحديد 10 عشرة مهام من بينها ما جاء في الفقرة الأخيرة التي تنص على “تحديد قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر، وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة” ولم يشر هذا الفصل ولا غيره إلى تحديد مبدأ التدبير الحر.
من جهة أخرى نص نفس الفصل على أن المقتضيات المتعلقة بالجماعات الترابية تحدد بقانون تنظيمي وليس بقانون عادي كما أسلفنا. والقانون التنظيمي لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذه إلا بعد أن تصرح المحكمة الدستورية بمطابقته للدستور (الفصل 85 من الدستور). وعندما تبت المحكمة الدستورية في دستورية القانون التنظيمي لا يمكن بعد ذلك الدفع بعدم دستوريته أمامها من خلال ما أتاحه الفصل 133 بخصوص القوانين العادية حيث ينص هذا الفصل على أن “المحكمة الدستورية تختص بالنظر في كل دفع بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور”.
فبالنسبة للقوانين العادية يمكن للمتقاضين أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين ومنهم الجماعات الترابية الدفع بعدم دستوريتها بمناسبة رفع قضية ضدهم أمام القضاء تستعمل فيها مقتضيات قانونية تمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور.
وعلى سبيل المقارنة، فقد نص الدستور الفرنسي في المادة 34 على:
…….
La loi détermine les principes fondamentaux :
- ……..
- de la libre administration des collectivités territoriales, de leurs compétences et de leurs ressources ;
وهي نفس الصيغة التي أتى بها الدستور المغربي لسنة 2011 في نسخته الفرنسية
من خلال l’Article 36 qui stipule que :
« L’organisation régionale et territoriale repose sur les principes de libre administration, de coopération et de solidarité. Elle assure la participation des populations concernées à la gestion de leurs affaires et favorise leur contribution au développement humain intégré et durable ».
غير أن المشرع الدستوري الفرنسي أناط بالقانون العادي وليس بقانون تنظيمي تحديد مبادئ التدبير الحر مما ترك الباب مشرعا أمام اجتهاد القضاء الدستوري بمناسبة النظر في الدفع بعدم دستورية القوانين التي قد تعرض عليه من طرف الجماعات الترابية.
ومن خلال الممارسة استطاع الاجتهاد القضائي الفرنسي عبر مجلس الدولة أو المجلس الدستوري أن يطور ويساهم تدريجيا في رسم معالم مبدأ التدبير الحر.
في حين اختار المشرع الدستوري المغربي صيغة القانون التنظيمي عوض صيغة القانون العادي في تحديد المقتضيات المتعلقة بالجماعات الترابية ومنها الجماعات مما أغلق الأبواب في وجه كل اجتهاد قضائي دستوري قد يتطورمن خلال الممارسة اليومية بسلك سبل الدفع بعدم دستورية القوانين. ومن جهة أخرى ساهم الغموض الذي يلف تعريف وتحديد مبادئ التدبير الحر في ترك الباب مشرعا أمام سلطة المراقبة الإدارية ممثلة في العمال والولاة ووزارة الداخلية للتدخل المباشر في شؤون الجماعات الترابية وذلك بتأويلها الخاص للمقتضيات القانونية أو عن طريق النصوص التنظيمية المطبقة للقانون التنظيمي 113.14 خاصة إذا علمنا أن عدد هذه النصوص التطبيقية يتعدى ثلاثين نصا (33 نصا، منها 5 نصوص في صيغة قانون و13 في صيغة نص تنظيمي و14 في صيغة مرسوم وعدة نصوص في صيغة قرار مشترك أو قرار) وأن إعداد هذه النصوص التطبيقية تتحكم فيه وزارة الداخلية.
وبالمقارنة بين السياق المغربي والسياق الفرنسي في مجال التشريع يجعلنا نطرح أكثر من سؤال بخصوص نية لجنة المانوني، التي عهد إليها بصياغة الوثيقة الدستورية سنة 2011، من خلال التزامها السكوت على تعريف مبدأ التدبير الحر. فهل كان المقصود من ذلك اعتبار هذا المبدء من المبادئ الدستورية التي تسمو على ما سواها من القوانين وبالتالي فهي ملزمة لكل الأطراف؟ أم المقصود هو ترك التجاذبات والتدافع المجتمعي والسياسي وميزان القوى يقوم بتعريف ورسم حدود هذا المبدء؟
لكن يتبين سريعا أن النية الأخيرة هي التي طغت ومن دون تدافع ولا صراع. فقد عمد المشرع إلى ملء “الفراغ” وإغلاق الباب كليا وبشكل محكم وسلس أمام أدنى شك قد يؤدي إلى محاولة التنقيب في المفهوم والمطالبة برسم حدوده وربما توسيع مجاله، مما يفتح الباب أمام المجهول وامام كل تطورات مستقبلية قد تقود بعض المنتخبين المحليين إلى الدفع بسمو المبدء الدستوري في مواجهة القرارات الإدارية. فتم الالتفاف على هذا المبدء برسم حدوده من خلال المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات التي تنص في فقرتها الأولى على: “يرتكز تدبير الجماعة لشؤونها على مبدئ التدبير الحر الذي يخول بمقتضاه لكل جماعة، في حدود اختصاصاتها المنصوص عليها في القسم الثاني من هذا القانون التنظيمي، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام هذا القانون التنظيمي والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقه..”. وعلى عكس الفصل 136 من الدستور الذي جاء بمبدأ التدبير الحر ولم يقيده بأي شكل من أشكال الوصاية، فإن القانون التنظيمي حدد هذا المبدء في تخويل سلطة التداول بكيفية ديمقراطية وسلطة تنفيذ المداولات والمقررات للجماعة في حدود الاختصاصات الموكلة إليها وطبقا لأحكام هذا القانون التنظيمي والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقه. فأصبح المبدأ الدستوري رهينة إرادة المشرع الذي تواطأ ضد إرادة الأمة. ولعب المجلس الدستوري دور المتفرج فلم يثر حتى التساؤل بشأنه بمناسبة البت في مطابقة القانون التنظيمي 113.14 للدستور.
وبالرضوخ للتعريف الذي فرضته المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 113.14 بشأن مبدء التدبير الحر الذي يخول بمقتضاه لكل جماعة، في حدود اختصاصاتها المنصوص عليها في القسم الثاني من هذا القانون التنظيمي، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام هذا القانون التنظيمي والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقه، والرجوع إلى اختصاصات الجماعات المحددة في القسم الثاني من القانون 113.14 والتي تنقسم إلى اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة واختصاصات منقولة، وبتشتت هذه الاختصاصات بين الذاتي والمشترك والمنقول وبين الجماعات الترابية فيما بينها تضيع سلطة التداول وسلطة تنفيذ المداولات والمقررات التي تتطلب استقلالية إدارية في ظل وحدة الدولة وتتطلب كذلك استقلالية مالية.
وإذا كانت الجماعة قادرة في بعض الأحيان على تنفيذ مقرراتها فيما يخص الاختصاصات الذاتية بالرغم من ثقل المراقبة الإدارية، فإن ذلك يصبح شبه مستحيل عندما يتعلق الأمر بالاختصاصات المشتركة أو المنقولة خاصة بالنسبة للجماعات التي لا ينتمي أعضاء مكتبها المسير للألوان السياسية المسيرة للحكومة.
ب. شروط التدبير الحر
أ. الاستقلالية المالية
يرى بعض الخبراء أن قياس الاستقلال المالي للجماعات على أساس مدى توفرها على الموارد والإمكانيات الكافية التي تضمن لها تغطية نفقات ممارستها لاختصاصاتها، وعلى مدى استقلاليتها الجبائية من حيث فرضها رسوما تتوافق مع تطور نفقاتها وحاجتها من المرافق والاستمارات.
وكان من الممكن أن يشكل مبدأ التدبير الحر لبنة أساسية للاستقلال المالي للجماعات لكون اعتماد المبدأ يتيح تقوية سلطتها المالية على مستوى فرض الضرائب والتحكم في النفقات وإعداد ميزانياتها وتنفيذها.
غير ان تحليل بعض المقتضيات الدستورية والقانونية سواء القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات وخاصة القسم الخامس منه والقانون رقم 45.08 المتعلق بالتنظيم المالي للجماعات المحلية ومجموعاتها والقانون رقم 47.06 المتعلق بجبايات الجماعات المحلية يبين ما يلي:
تنصيص الدستور من خلال الفصل 71 على أن القانون يختص بالتشريع في ميدان “النظام الضريبي ووعاء الضرائب ومقدارها وطرق تحصيلها”.حيث يبقى ذلك اختصاصا “حصريا ” للبرلمان، وهو ما يكرس “مركزية” النظام الجبائي في المغرب، وان كان محليا من حيث “التوصيف”. وهكذا وفي نفس سياق محدودية الاستقلالية المالية، تغيب “صناعة قرار جبائي ترابي” تمكن الجماعات من سلطة جبائيه حقيقية لإحداث وتعديل أو حذف الرسوم أو الضرائب وتحديد قيمتها المادية بما يتوافق مع تطور نفقاتها وحاجياتها من المشاريع والتجهيزات الأساسية. فنظام الجبايات المحلية وإن عمل على دعم اختصاصات الجماعات الترابية في الميدان الجبائي، من خلال منحها بعض الصلاحيات كإمكانية تحديد وتعديل نسب وأسعار بعض الرسوم باعتماد حد أدنى وأخر أقصى، إلا أن ذلك يبقى مقيدا بضرورة الحصول على موافقة سلطة المراقبة على مقررات المجالس الجماعية في هذا الموضوع، وهو ما يتطلب العمل على دعم لامركزية النظام الجبائي بمنح الجماعات صلاحيات أكثر في هذا الشأن عملا بمبدأ التدبير الحر.
وبالإضافة إلى هذه المعيقات الدستورية والقانونية، تبين بعض المعطيات أن الجماعات تعتمد بالأساس على الموارد المالية المحولة لها من الدولة، فعلى سبيل المثال، حسب أحد التقارير المالية، فقد وصل مجموع موارد الجماعات الترابية الى 37 مليار درهم، 23 مليار منها هي اعتمادات محولة لها من الدولة اي بنسبة تصل الى %63 من مجموع مداخيلها، كما أن % 16 من هذه الموارد تتكلف الدولة بتدبيرها وهي الرسم المهني ورسم السكن ورسم الخدمات الجماعية وهي الرسوم ذات المردودية العالية مقارنة ببقية الرسوم التي تدبرها الجماعات.
وتؤكد مختلف هذه المعطيات بشكل صريح أن الجماعات لا تتحكم مباشرة في مواردها المالية خاصة الهامة منها، وبالتالي فهي غير مستقلة في تحصيلها وطبعا في تدبيرها بالنظر إلى أن صرف النفقات يخضع لمراقبة ومتابعة مشددة. ذلك ان صرامة المراقبة المالية القبلية على مساطر إعداد وتنفيذ الميزانيات تحد بشكل كبير من هامش المبادرة لدى المجالس المنتخبة، لكون سلطة المراقبة تشرف بشكل مباشر على جميع مراحل إعداد وتنفيذ الميزانيات، كما أن الصلاحيات المخولة لها تمنحها إمكانية إعداد ميزانيات جماعية في حالة تعذر ذلك على الأجهزة المنتخبة. وفي ظل هذا الوضع يصعب الحديث عن وجود استقلال مالي فعلي.
وهو ما يمكن قراءته بمنظور “سلبي” باعتبار ذلك تدخلا صارخا في اختصاص من المفترض أن تكون الجماعات مستقلة في ممارسته. لكن من جهة أخرى يمكن قراءته بمنظور “إيجابي” إذا اعتبرنا أن تدخل سلطة المراقبة يستهدف في بعض الأحيان تجنب عرقلة التدبير الجماعي وتوقف المرافق والخدمات والإضرار بمصالح المواطنين.
بالإضافة إلى كل ذلك، فان آلية الاقتراض المعتمدة عبر صندوق التجهيز الجماعي والتي كان من المفترض منها دعم الاستقلال المالي والحد من سلبيات نظام إمدادات ومساعدات الدولة أدت إلى العكس، ذلك أن التطبيق العملي لسياسة الاقتراض أثر سلبا على الاستقلال المالي في مقابل تكريس حضور سلطة المراقبة. وهو ما يظهر في مسطرة طلب القروض أو الإفراج عنها واليات المتابعة، بحيث يتمتع المسؤولون على الصندوق بسلطات تقديرية واسعة في اختيار التجهيزات الأكثر ملاءمة لأوضاع الجماعة والتي تستحق التمويل بالقروض. الامر الذي يعد تدخلا في الاختيارات التنموية لهذه الجماعات ويحد بشكل كبير من استفادتها من تمويلات الصندوق.
ب. الاستقلاليةالإدارية
على الرغم من أن القانون التنظيمي رقم 113.14 يخول لكل جماعة، في حدود اختصاصاتها المنصوص عليها في القسم الثاني من هذا القانون التنظيمي، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، فإن نفس القانون يخضع هذه المداولات وتنفيذها وتنفيذ مقرراتها لمساطر معينة في إطار المراقبة الإدارية وبالتالي يحد من استقلاليتها. فما هي هذه المراقبة؟ ومن يقوم بها؟ وكيف؟ وما ذا يترتب عنها؟
2. المراقبة الإدارية
أ. مفهوم المراقبة الإدارية
يعرف بعض الباحثين المراقبة الإدارية بكونها الآلية القانونية التي خولها المشرع لسلطة المراقبة (السلطة المكلفة بالداخلية وولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم) لضمان مشروعية أعمال الجماعات الترابية ومطابقتها للقانون والتزام أعضاء مجالسها بالواجبات المقررة قانونا. حيث تعتبر قواعد المشروعية الأساس القانوني لتدبير الشأن المحلي.
والهدف المعلن من المراقبة الإدارية هو الحرص على مطابقة أعمال المجالس واعضائها للقوانين والأنظمة المعمول بها وضمان حماية الصالح العام ودعم ومساعدة الإدارة عن طرق المواكبة والإرشاد.
ب. الأسس القانونية للمراقبة الإدارية
ضدا على مبدأ التدبير الحر المنصوص عليه دستوريا، تستمد المراقبة الإدارية شرعيتها كذلك من نص الدستور وبعض القوانين التنظيمية والقوانين.
• دستور 2011:
- الفصل 145: ينص الفصل 145 من الدستور على:
أ يمثل ولاة الجهات وعمال الأقاليم والعمالات، السلطة المركزية في الجماعات الترابية. يعمل الولاة والعمال، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية.
أ يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية..
- الفصل 146: كما ينص الفصل 146 على أنه تحدد بقانون تنظيمي بصفة خاصة:
أ شروط تنفيذ رؤساء مجالس الجهات ومجالس الجماعات الترابية الأخرى لمداولة المجالس ومقرراتها.
أ قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تدبير مبدأ التدبير الحر وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة.
• القوانين التنظيمية
- القانون التنظيمي المتعلق بالجماعات رقم 113.14 خاصة القسم الثالث – الباب الرابع (المواد من 115 إلى 118 بالإضافة إلى عدة مواد أخرى)؛
- القانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخابات أعضاء مجالس الجماعات كما تم تعديله وتتميمه: المواد المتعلقة بالأهلية الانتخابية وفقدانها: المادتان 6 و142.
• القانون رقم 57.11 المتعلق باللوائح الانتخابية العامة وعمليات الاستفتاء واستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري العمومية خلال الحملات الانتخابية والاستفتائية: المادة 7 المتعلقة بالأهلية الانتخابية.
ج. أشكال المراقبة الإدارية وكيفية إجرائها ونتائجها
وتشمل المراقبة الإدارية التي يقوم بها وزير الداخلية أو العامل أو ممثله حسب الحالة كل من المراقبة الإدارية على أعمال مجلس الجماعة (كالتأكد من صحة دورات المجلس وجدول أعمال المجلس) ومشروعية مقررات المجلس والرقابة على قرارات رئيس المجلس والرقابة على اعضاء المجلس (بصفتهم الجماعية وبصفتهم الفردية).
وهكذا يتبين أن المراقبة الإدارية تطال جل مناحي أنشطة المجلس الجماعي بل وفي المسائل المهمة تتعدى المراقبة الإدارية حدود مراقبة المشروعية إلى التدخل في اختصاصات المجالس من خلال إجبارية وضع نقط بجدول أعمال دورات المجلس بطلب من العامل على سبيل المثال، أو فرض شرط تأشيرة وزير الداخلية قبل تنفيذ المقررات المتعلقة بالتدبير المفوض للمرافق والمنشآت العمومية الجماعية وبإحداث شركات التنمية المحلية، أو فرض شرط تأشيرة العامل قبل تنفيذ المقررات المتعلقة ب:
- برنامج الجماعة؛
- الميزانية؛
- تنظيم إدارة الجماعة وتحديد اختصاصاتها؛
- المقررات ذات الوقع المالي على النفقات أو المداخيل، ولاسيما الاقتراضات والضمانات وتحديد سعر الرسوم والأتاوى ومختلف الحقوق وتفويت أملاك الجماعة وتخصيصها؛
- تسمية الساحات والطرق العمومية عندما تكون هذه التسمية تشريفا عموميا أو تذكيرا بحدث تاريخي؛
- اتفاقيات التعاون اللامركزي والتوأمة التي تبرمها الجماعة مع الجماعات المحلية الأجنبية؛
- إحداث المرافق العمومية الجماعية وطرق تدبيرها.
وتتخذ المراقبة الإدارية أشكالا متعددة كمراقبة حضور أعضاء المجلس خلال الدورات، والنصاب المتعلق بهذه الدورات ومشروعية مقررات المجلس وقرارات الرئيس وحالات التنافي وحالة الانقطاع عن المهام أو التخلي عن المهام او فقدان المجلس لنصف أعضاءه أو التخلي عن الانتماء الحزبي أو ربط علاقات نفعية خاصة مع الجماعة أو القيام بأعمال غير قانونية..
وتطبق عبر إرسال سجل الحضور وجدول أعمال الدورات ومحاضر الدورات ومقررات المجلس وقرارات الرئيس إلى العامل داخل آجال محددة والقيام بمعاينة الانقطاع عن المهام أو الوفاة أو الأحكام القضائية المتخذة في حق المنتخبين..
وبعد الدراسة وحسب الحالة يقوم العامل إما بإبداء موقف معين من جدول الأعمال أو يطلب إضافة نقطة فيما يخص جدول أعمال الدورة؛ أو التأشير على مقررات المجلس في إطار المادة 118 من القانون التنظيمي 113.14 أو رفض التأشيرة داخل أجل محدد؛ أو عدم الإدلاء بأي ملاحظة إن لم تكم هناك خروقات قانونية بخصوص مقررات المجلس أو قرارات الرئيس؛
ويمكن للعامل عرض بعض القضايا على القضاء الإداري للبت فيها كحالة امتناع الرئيس أو المجلس عن القيام بمهامهم قصد إقالة الرئيس أو حل المجلس مثلا أو قصد إعمال مسطرة الحلول..
وفي إطار المراقبة الإدارية تلعب السلطة التقديرية لوزير الداخلية أو العامل أو ممثله دورا مهما قد يفتح المجال أمام سلوكيات لا أخلاقية أو تصفية حسابات سياسية مما يصيب في الصميم مبدأ التدبير الحر الذي أتى به الدستور أصلا قصد تجاوزها كما وقع في الحالة المتعلقة بمجلس جهة كلميم – واد نون على سبيل المثال.
وبالإضافة للمراقبة الإدارية التي تقيد مبدأ التدبير الحر، تلعب عوامل أخرى مؤسساتية وذاتية أدوارا لا تقل أهمية في تقويض مبدأ التدبير الحر الذي جاء به دستور 2011. ومن أهم العوامل المؤسساتية نجد الأحزاب السياسية التي كثيرا ما تتغاضى عن الخروقات التي تكون في بعض الأحيان فاضحة كحالة توقيف مجلس جهة كلميم واد نون بقرار إداري وصمت الأحزاب السياسية الممثلة بهذا المجلس عن هذا الخرق. أما العامل الذاتي فهو متمثل في الموارد البشرية والتي بدورها تنقسم إلى قسمين. القسم الأول متعلق بالأشخاص الذين يشكلون المجالس المنتخبة والقسم الثاني متعلق بفئة الموظفين الذين يشكلون إدارة الجماعة والتي يعهد إليها تحت مسؤولية رئيس المجلس بتنفيذ مقررات المجلس وقرارات الرئيس وإنجاز الخدمات لصالح المرتفقين. فالأشخاص المنتخبون يعاني كثير منهم من الأمية حسب الإحصائيات الرسمية. فكيف لهذه النخب أن تترافع عن مبدأ التدبير الحر أمام المحاكم الإدارية وهي تجهل حتى سبب وجودها بهذه المجالس؟ والقلة القليلة من هذه النخب التي يمكن أن يعول عليها غالبا ما تفتقد لاستقلالية القرار بسبب الضغوطات الحزبية المتواطئة مع سلطة المراقبة في إطار صفقات سياسية معينة وإلا كيف يمكننا تفسير صمت هذه الأحزاب وممثليها عن عدة خروقات ترتكبها سلطة المراقبة الإدارية؟ أما الموارد البشرية الإدارية فقد تتجاوز في بعض الأحيان سلطتها غصبا لتستولي على سلطة المجلس ورئيسه ويمكن أن تقرصن كلية صلاحيات المجلس والرئيس خاصة في المجال القروي حيث كثير من الرؤساء لا يلمون بأبجديات التسيير الإداري للجماعة. وفي أحيان أخرى وعند وجود رؤساء ضعيفي الالمام بمجال تدبير الموارد البشرية تبقى مقررات المجلس وقراراته حبرا على ورق ولا تجد طريقها إلى التنفيذ وبذلك يضيع ليس فقط مبدأ التدبير الحر وإنما كذلك مصالح المواطنين.
III. خاتمة
إن تضمين مبدأ التدبير الحر في الوثيقة الدستورية يمكن اعتباره مكسبا هاما للجماعات الترابية بالمغرب. غير أن نفس الدستور سكت عن تحديد هذا المبدء ورسم حدوده. حيث جاء القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات وأفرغه من محتواه بإبداع صيغ كثيرة للمراقبة الإدارية. وقد لعب المشرع دورا سلبيا للغاية في إخراج هذا القانون التنظيمي نظرا لعدم دفاعه عن مبدأ التدبير الحر وسماحه بتمرير مقتضيات تجهضه.
كما أن دسترة مبدأ التدبير الحر تبقى غير كافية في حد ذاتها إن لم تترجم على أرض الواقع من خلال تكييف الترسانة القانونية والتنظيمية التي تؤطر عمل الجماعات مع هذا المبدء إن نحن أردنا حقا التأسيس لعلاقات جديدة بين الدولة وجماعاتها الترابية، علاقات مبنية أساسا على احترام الاختصاصات خاصة الاختصاصات الذاتية للجماعات، لأن ما يعاب على هذا “المولود الجديد” ضمن قاموس القانون العام المغربي كونه قد يكون ضحية التأويلات والتشريعات المفسرة له خصوصا عند اعتماد القوانين التطبيقية والمراسيم والقرارات المرتبطة بتنزيله.
وهكذا يتبين من خلال كل ما سبق أنه بإمكاننا الجزم بأن منطق التدبير الحر لا يمكن أن يلتقي مع شروط إخضاعه للمراقبة الإدارية في حلتها الحالية لأن هذه المراقبة تتعدى منطق مراقبة الشرعية إلى منطق التدخل في اختيارات المجلس واستقلاليته الإدارية والمالية. ولا يمكن التذرع بتدني مستوى النخب السياسية ومن تم الاستيلاء على صلاحيات المجلس ورهنها بمساطر من قبيل التأشيرة والموافقة الخ…
وبالتالي لم تشكل الوثيقة الدستورية والقانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات محطة نوعية تقطع مع التجارب السابقة وتخول الجماعات صلاحيات محددة وتدبيرا حرا حقيقيا يؤسس لمبادئ التدبير الحر الفعلي على المستوى الترابي المحلي اقتداء بتجارب رائدة في العالم في هذا المجال بل يشكل فقط في نظرنا محطة لا زالت تتطلب تطويرا مستمرا ومسترسلا.
ودفاعا عن مبدءا التدبير الحر كهدف أسمى يمكن أن يؤسس لديمقراطية محلية تجعل المواطن مركز اهتمامها بإشراكه في بلورة وتتبع وتنفيذ السياسات العمومية المحلية بما يضمن كرامة الساكنة ويحقق بين أفرادها قيم العدالة الاجتماعية والتضامن، واحتراما لمبدأ التدبير الحر بصفته مبدأ دستوريا يسمو على غيره من المقتضيات القانونية والتنظيمية، يجب في نظرنا ملائمة الترسانة القانونية والتنظيمية معه بشكل يحترم روح النص الدستوري. غير أن طلب مأسسة هذه الملائمة لن يستقبل بالورود وعلى كل حال فالملائمة حسب روح الدستور من وجهة نظرنا لن تتم بشكل تلقائي في ظل الوضع السياسي القائم، بل تتطلب صراعا ومرافعات قوية وذات نفس طويل. والصراع يتطلب تواجد نخب سياسية على مستوى الجماعات الترابية مستقلة في قراراتها ومؤمنة بضرورة التغيير والدفاع عن المبدء الدستوري المتعلق بالتدبير الحر. ويجب على هذه النخب، عند توفرها، الاشتغال على كل الأصعدة بما فيها:
- طرق باب التشريع قصد تعديل القانون التنظيمي 113.14 والقوانين الأخرى بهدف ملاءمتها مع هذا المبدء؛
- مراقبة عمل الحكومة بخصوص القوانين والمراسيم والقرارات التطبيقية والمنشورات والدوريات التي تصدرها في إطار مواكبة عمل الجماعات؛
- مواكبة عمل المنتخبين المحليين قصد الوقوف على الخروقات التي يمكن أن تقوم بها سلطات المراقبة؛
- طرق أبواب القضاء الإداري كلما برز ما من شأنه المس بمبدء التدبير الحر.