السياسة

وحدة اليسار المغربي: بين الضرورة والفعل

◆ محمد امباركي

1 ‭ – ‬النقد‭ ‬البناء‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬إعادة‭ ‬البناء

إن‭ ‬وضعية‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬الى‭ ‬التشخيص‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تاريخه‭ ‬ومكوناته‭ ‬أوحقول‭ ‬اشتغاله،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الوضعية‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الوتيرة‭ ‬‭”‬السيزيفية‭ “  ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬دورته‭ ‬التنظيمية‭ ‬والنضالية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬نفس‭ ‬الوتيرة‭ ‬تطال‭ ‬مسارات‭ ‬التقارب‭ ‬وتجارب‭ ‬الوحدة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬هذا‭ ‬اليسار‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬أحلام‭ ‬عريضة‭ ‬تؤطرها‭ ‬سرديات‭ ‬كبرى‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الاشتراكية‭ ‬العلمية،‭ ‬الماركسية‭ ‬اللينينية،‭ ‬الكتلة‭ ‬التاريخية،‭ ‬الثورة‭ ‬الوطنية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والثورة‭ ‬الشعبية،‭ ‬ثم‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أو‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬الحديثة،‭ ‬لينتقل‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الخطاب‭ ‬اليساري‭ ‬نحو‭ ‬مجتمع‭ ‬المواطنة‭ ‬والثورة‭ ‬السوسيوثقافية‭… ‬وتجدر‭ ‬الملاحظة‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬الوعي‭ ‬حاصل‭ ‬داخل‭ ‬هذا‭ ‬اليسار‭ ‬المتعدد‭ ‬بأن‭ ‬تحقيق‭ ‬هذه‭ ‬التطلعات‭ ‬رهين‭ ‬باستراتيجية‭  ‬بناء‭ ‬الأداة‭ ‬التنظيمية‭ ‬القوية‭  ‬والقادرة‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬الكبرى‭ ‬الى‭ ‬وعي‭ ‬مجتمعي‭ ‬عام‭ .‬

بيد‭ ‬أنه،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ “‬البراديغمات‭ ” ‬لم‭ ‬تسعف‭ ‬مكونات‭ ‬اليسار‭ ‬من‭ ‬إحداث‭ ‬القطائع‭ ‬الضرورية‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والفكر‭ ‬والممارسة،‭ ‬حيث‭ ‬ظلت‭ ‬المعادلة‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬قدرة‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬نفسه‭ ‬وتعزيز‭ ‬اصطفافاته‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭ ‬والسماح‭ ‬ببعض‭ ‬الهوامش‭ “‬الديمقراطية‭ ” ‬المحروسة،‭ ‬وبين‭ ‬حقل‭ ‬سياسي‭ ‬معارض‭ ‬يقوده‭ ‬يسار‭ ‬يسعى‭ ‬الى‭ ‬طرح‭ ‬نفسه‭ ‬كبديل‭ ‬ديمقراطي‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الوعي‭ ‬بضرورة‭ ‬الوحدة‭ ‬وتجاوز‭ ‬انقسامية‭ ‬المشهد‭ ‬الذاتي،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬الوعي‭ ‬تصاحبه‭ ‬ممارسة‭ ‬التشتت‭ ‬وتعثر‭ ‬التجارب‭ ‬التحالفية‭ ‬والوحدوية‭ ‬على‭ ‬أهميتها‭ ‬بدأ‭ ‬من‭ ‬الكتلة‭ ‬الوطنية،‭ ‬الكتلة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬تجمع‭ ‬اليسار‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬الحزب‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الموحد،‭  ‬تحالف‭ ‬اليسار‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬فدرالية‭ ‬اليسار‭ ‬الديمقراطي‭ ‬ثم‭ ‬فدرالية‭ ‬اليسار‭ ‬التي‭ ‬عقدت‭  ‬مكوناتها‭ ‬لعقد‭ ‬المؤتمر‭ ‬الاندماجي‭ ‬أيام‭ ‬16‭-‬17‭-‬18‭ ‬دجنبر‭ ‬2022‭  ‬تحت‭ ” ‬شعار‭ “‬مسارات‭ ‬تتوحد،‭ ‬يسار‭ ‬يتجدد‭”.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الديمقراطية‭ ‬هو‭ ‬مسار‭ ‬معقد‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬الراهن‭ ‬المتميز‭ ‬بأزمة‭ ‬التمثيل‭ ‬السياسي‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬هيمنة‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬المتوحشة‭ ‬وتحكم‭ ‬قوى‭ ‬السوق‭ ‬عالميا‭ ‬والرأسمال‭ ‬الريعي‭ ‬محليا،‭ ‬مما‭ ‬نتج‭  ‬عنه‭ ‬اختلالا‭ ‬كبيرا‭  ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬القوى‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والثقافي‭ ‬لصالح‭ ‬قوى‭ ‬السلطوية‭ ‬والمحافظة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يظل‭ ‬تطلع‭ ‬اليسار‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الى‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬ذاته‭ ‬على‭ ‬مرتكزات‭ ‬قوية‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ ‬سلطة‭ ‬مضادة‭ ‬حقيقية،‭ ‬محكوم‭ ‬بهذه‭ ‬الشروط‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬السائدة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الديمقراطية‭ ‬التمثيلية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تتحول‭ ‬تدريجيا‭ ‬نحو‭ ‬ديمقراطية‭ ‬نخبوية‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬البورجوازية‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المهيمنة‭ ‬في‭ ‬المتروبولات‭ ‬والأطراف‭.‬

إن‭ ‬طموح‭ ‬القوى‭ ‬اليسارية‭ ‬الى‭ ‬نمط‭ ‬من‭ ‬الديمقراطية‭ ‬يتجاوز‭ ‬أعطاب‭ ‬الديمقراطية‭ ‬البورجوازية،‭ ‬وطموحه‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬الى‭ ‬تشييد‭ ‬صرحه‭ ‬التنظيمي‭ ‬بشكل‭ ‬مشترك،‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يخفي‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬ممارسة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الداخلية‭ ‬والتداول‭ ‬على‭ ‬المسؤولية‭ ‬وتجديد‭ ‬النخب‭ ‬والأجيال‭ ‬هي‭ ‬قضية‭ ‬داخلية‭ ‬بامتياز‭ ‬ولا‭ ‬تهم‭ ‬فقط‭ ‬البينة‭ ‬السياسية‭ ‬الموضوعية،‭ ‬ثم‭ ‬أن‭ ‬الوحدة‭ ‬التنظيمية‭ ‬لا‭ ‬تلغي‭ ‬التعدد‭ ‬الفكري‭ ‬وتنوع‭ ‬المقاربات‭ ‬والقراءات‭ ‬لأنها‭ ‬وحدة‭ ‬منشودة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الآليات‭ ‬وطرائق‭ ‬إنتاج‭ ‬الموقف،‭ ‬القرار،‭ ‬وصيغ‭ ‬التصريف‭ ‬والتنزيل‭ ‬ولا‭ ‬تهم‭ ‬الوحدة‭ ‬المطلقة‭ ‬للفكرة‭ ‬والتصور‭ ‬وإلا‭ ‬سقط‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬فخ‭ “‬الإجماع‭ ” ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬غير‭ ‬التسلط،‭ ‬أي‭ ‬التماثل‭ ‬مع‭ ‬الزعيم‭ ‬واستدماج‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬سلطته‭ ‬فوق‭ ‬سلطة‭ ‬المؤسسات‭. ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬أن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الداخلية‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬آليات‭ ‬ومساطر،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الذهنية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭  ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الفرنسي‭ “‬ألان‭ ‬تورين‭ ” ‬بكونها‭ ‬تستجيب‭ ‬لمقتضيين‭ ‬هما‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬وتلبية‭ ‬مطالب‭ ‬الأكثرية‭. ‬إنها‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬الثقافة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وفكرة‭ ‬الذات‭ ‬الفاعلة‭. ( ‬كتاب‭ ‬ماهي‭ ‬الديمقراطية‭ ‬؟‭. ‬حكم‭ ‬الأكثرية‭ ‬أم‭ ‬ضمانات‭ ‬الأقلية‭. ‬2016‭. ‬ص‭ ‬8‭ ‬و19‭).‬

2 ‭ – ‬يسار‭ ‬المجتمع‭ ‬والحاجة‭ ‬الى‭ ‬تجاوز‭ ‬ذهنية‭ ‬الشعار‭ ‬الايدلوجي‭ ‬العام

بناء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬أن‭ ‬قوى‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬لا‭ ‬تنقصها‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬سيما‭ ‬أنها‭ ‬شكلت‭ ‬مدارس‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬العطاء‭ ‬الفكري‭ ‬والاجتهاد‭ ‬النظري‭ ‬وإنتاج‭ ‬أطر‭ ‬ونخب‭ ‬قدمت‭ ‬خدمات‭ ‬جمة‭ ‬للمجتمع‭ ‬والدولة‭ ‬،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬لن‭ ‬نبالغ‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬السوسيوثقافي‭  ‬يمتلك‭ ‬قدرات‭ ‬هائلة‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬الشعار‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬العام،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬مسألة‭ ‬ضرورية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬النظرية‭ ‬أو‭ ‬الفكرة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬الفعل،‭ ‬والفعل‭ ‬يضع‭ ‬النظرية‭ ‬في‭ ‬مختبر‭ ‬التجسيد‭ ‬الملموس‭ ‬ويجعلها‭ ‬قابلة‭ ‬للتطوير‭ ‬والتجاوز‭ ‬والتفنيد،‭ ‬لكن‭ ‬وفي‭ ‬اعتقادنا،‭ ‬تبقى‭ ‬الحلقة‭ ‬الضعيفة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬هي‭ ‬اختيار‭ ‬شعار‭ ‬المرحلة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬ينتج‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬بالضرورة‭  ‬عجز‭ ‬آليات‭ ‬العمل‭ ‬وقنوات‭ ‬التأطير‭ ‬والتعبئة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬جبهات‭ ‬الصراع‭ ‬الاجتماعي‭. ‬وليس‭ ‬جديدا‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬أن‭ ‬صعوبة‭ ‬صياغة‭ ‬الشعار‭ ‬المرحلي‭ ‬هي‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬الى‭ ‬فهم‭ ‬أعمق‭ ‬لبنيات‭ ‬المجتمع‭ ‬وتحولاته‭ ‬ودينامياته‭ ‬المستمرة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬السياسة،‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والثقافة‭ ‬والقيم،‭ ‬ومن‭ ‬ثمة‭ ‬تخطي‭ ‬واقع‭ ‬هامشية‭ ‬الفعل‭ ‬التي‭ ‬يعكسها‭ ‬بوضوح‭ ‬النزال‭ ‬الانتخابي‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬نزال‭ ‬موجه‭ ‬ومتحكم‭ ‬فيه‭ ‬ويفتقد‭ ‬الى‭ ‬قواعد‭ ‬الصراع‭ ‬المتكافئ،‭ ‬لكنه‭ ‬يظل‭ ‬مرآة‭ ‬حقيقية‭ ‬تعكس‭ ‬حاجة‭ ‬اليسار‭ ‬الى‭ ‬تجديد‭ ‬وتجويد‭ ‬أدوات‭ ‬الفعل‭ ‬والتأطير‭.‬

إن‭ ‬تفكيك‭ ‬البنيات‭ ‬السوسيوتاريخية‭ ‬للاستبداد‭ ‬بشتى‭ ‬أبعاده،‭ ‬لا‭ ‬ينطلق‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬العلاقة‭ ‬غير‭ ‬المتكافئة‭ ‬بين‭ ‬السلط،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬البنيات‭ ‬متغلغلة‭ ‬ومستدمجة‭ ‬في‭ ‬اللاشعور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي‭ ‬للمجتمع‭ ‬عبر‭ ‬قنوات‭ ‬عدة‭ ‬تلعب‭ ‬أدوارا‭ ‬أيدولوجية‭ ‬حيوية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الأسرة،‭ ‬المدرسة،‭ ‬المسجد،‭ ‬الإعلام‭ ‬ومختلف‭ ‬الأدوات‭ ‬القانونية‭ ‬والمؤسساتية‭ ‬للدولة،‭ ‬وكذلك‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تعتبر‭ ‬فضاء‭ ‬مهما‭ ‬للتعبير‭ ‬والاحتجاج‭ ‬في‭ ‬ظل‭ “‬احتكار‭ ‬السلطة‭” ‬للفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬الواقعي،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تشكل‭ ‬مجالات‭ ‬ملائمة‭ ‬لتصريف‭ ‬التفاهة‭ ‬والفكر‭ ‬المسطح‭ ‬والهويات‭ ‬الهجينة‭. ‬ومن‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬العوائق‭ ‬من‭ ‬جملة‭  ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬الحلقة‭ ‬المفرغة‭ ‬للحركات‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬حركة‭ ‬20‭ ‬فبراير،‭ ‬وانحباس‭ ‬الحركات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬عن‭ ‬التطور‭ ‬وصياغة‭ ‬هوياتها‭ ‬الفكرية‭ ‬وخطها‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الحقول‭ ( ‬العمالية،‭ ‬الحقوقية،‭ ‬النسائية‭..) ‬أمام‭ ‬ضعف‭ ‬الفاعل‭ ‬السياسي‭ ‬التقدمي‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬التأطير‭ ‬والمواكبة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التفاوض،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تصاعد‭ ‬الدينامية‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬السوسيومجالية‭ ‬‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬حراك‭ ‬الريف‭ ‬الذي‭ ‬برهن‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬الذوات‭ ‬الفاعلة‭ ‬أفرادا‭ ‬وجماعات،‭ ‬وهو‭ ‬حراك‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬معزولا‭ ‬بين‭ ‬يقظة‭ ‬النشطاء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ارتباط‭ ‬غير‭ ‬واضح،‭ ‬وبين‭ ‬تأويلات‭ ‬وتدخلات‭ ‬السلطة‭ ‬كي‭ ‬تبعث‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬رسائل‭ ‬عدة‭ ‬مضمونها‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬حيز‭ ‬متاح‭ ‬لإنتاج‭ ‬قيادات‭ ‬كاريزمية‭ ‬منتقدة‭ ‬ومنافسة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الاحتجاج‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المحلي،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الإعلام‭ ‬والصحافة‭ ‬النقدية‭  ‬سيما‭ ‬التي‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬محيط‭ “‬خدام‭ ‬الدولة‭”‬،‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬المجال‭ ‬الرسمي‭ ‬نفسه‭ (“‬البلوكاج‭” ‬الحكومي‭ ‬المشهور‭)..‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬تتضح‭ ‬الضرورة‭ ‬القصوى‭ ‬ليسار‭ ‬يفكر،‭ ‬يشتغل‭ ‬ويناضل‭ ‬كي‭ ‬يشكل‭ ‬سلطة‭ ‬مضادة‭ ‬فاعلة‭ ‬ومؤثرة،‭ ‬وهي‭ ‬ضرورة‭ ‬لصيقة‭ ‬بمراحل‭ ‬سابقة،‭ ‬لكن‭ ‬ظل‭ ‬خروجها‭ ‬الى‭ ‬الوجود‭ ‬معاقا‭ ‬ومنتظرا‭…‬لكن‭ ‬التجديد‭ ‬والتجويد‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يطال‭ ‬الفكر‭ ‬والممارسة،‭ ‬والوحدة‭ ‬تظل‭ ‬فضاء‭ ‬مفتوحا‭ ‬لكل‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬التي‭ ‬تؤمن‭ ‬بقيم‭ ‬النزاهة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والحداثة‭ ‬والعقلانية‭…‬من‭ ‬هنا‭ ‬فشعار‭ ‬المؤتمر‭ ‬الاندماجي‭ “‬مسارات‭ ‬تتوحد،‭ ‬يسار‭ ‬يجدد‭”‬،‭ ‬هو‭ ‬شعار‭ ‬تنظيمي‭ ‬يتوجه‭ ‬الى‭ ‬الذات‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬وهذه‭ ‬مسألة‭ ‬بديهية‭ ‬لأنه‭ ‬يعكس‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أولى‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬من‭ ‬التشييد‭ ‬المشترك،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭ ‬الوعي‭ ‬بأن‭ ‬التوجه‭ ‬الى‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مستوياته‭ ‬الأفقية‭ ‬والعمودية،‭ ‬ينبغي‭ ‬ان‭ ‬يستد‭ ‬مشروعيته‭ ‬من‭ ‬تمنيع‭ ‬الذات‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬الاختلالات،‭ ‬وإلا‭ ‬نظل‭ ‬أمام‭ ‬تضخم‭ ‬الخطاب‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬المجتمع‭ ‬والناس‭ ‬وبالتالي‭ ‬غير‭ ‬مؤهلين‭ ‬عن‭ ‬تأطير‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬الفئات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬نتحدث‭ ‬عنها‭ ‬كثيرا‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬والفئات‭ ‬المتوسطة‭ ‬وضحايا‭ ‬البطالة‭ ‬والإقصاء‭ ‬الاجتماعي‭.‬

إن‭ ‬التحول‭ “‬التاريخي‭ ” ‬لليسار‭ ‬الى‭ ‬تيار‭ ‬سوسيوثقافي‭ ‬تحرري‭ ‬يخترق‭ ‬كل‭ ‬مناحي‭ ‬المجتمع‭ ‬هو‭ ‬عملية‭ ‬مفتوحة‭ ‬ولا‭ ‬تلغي‭ ‬التراكم‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬ويحصل‭ ‬بإيجابياته‭ ‬وسلبياته،‭ ‬فقط‭ ‬وكما‭ ‬أشرنا‭ ‬سابقا،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إعمال‭ ‬الحس‭ ‬النقدي‭ ‬اتجاه‭ ‬وسائل‭ ‬العمل‭  ‬وتنمية‭ ‬التفكير‭ ‬الجماعي‭ ‬المنفتح‭ ‬والتشاركي‭ ‬والمنتج‭ ‬لمطالب‭ ‬ديمقراطية‭ ‬ذات‭ ‬مضمون‭ ‬ملموس‭ ‬و‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬حشد‭ ‬التعبئة‭ ‬المجتمعية‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬مثلا‭  ” ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬الضامنة‭  ‬للجودة‭ ‬وتكافؤ‭ ‬الفرص‭ ‬وإشاعة‭ ‬قيم‭ ‬التنوير‭”  ‬بشكل‭ ‬يتجاوز‭  ‬بعض‭ ‬الشعارات‭ ‬العامة‭ ‬والاستراتيجية،‭ ‬والتي‭ ‬قد‭ ‬تستجيب‭ ‬لمرحلة‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬اليسار‭ ‬قويا‭ ‬فكرة‭ ‬وتنظيما،‭ ‬وقريب‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬الى‭ ‬السلطة‭ ‬وتدبير‭ ‬الحكم،‭ ‬وهذا‭ ‬غير‭ ‬متاح‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الشروط‭ ‬الذاتية‭ ‬والموضوعية‭ ‬السائدة‭. ‬وفي‭ ‬نظرنا‭ ‬أن‭ ‬الأرضية‭ ‬الثقافية‭ ‬للمشروع‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬قناعة‭ ‬أن‭  ‬المدرسة‭ ‬هي‭ ‬رافعة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وبالتالي‭ ‬المدخل‭ ‬الأساسي‭ ‬لمحاربة‭ ‬تفاوت‭ ‬الحظوظ‭  ‬التربوية‭  ‬والاجتماعية‭ ‬والتعثر‭ ‬الدراسي‭  ‬والانقطاع‭ ‬عن‭ ‬المدرسة‭ ‬بشكل‭ ‬مبكر‭ ‬وسط‭ ‬ضحايا‭ ‬الاقصاء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬وهي‭ ‬مسؤولية‭ ‬تقتضي‭ ‬الترافع‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والمجتمع‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تدشين‭ ‬حوار‭ ‬عمومي‭ ‬واسع‭  ‬حول‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية،‭ ‬وضع‭ ‬خطط‭ ‬وبرامج‭ ‬ولجان‭  ‬للدعم‭ ‬السوسيوتربوي‭ ‬للتلاميذ‭ ‬المنحدرين‭ ‬من‭ ‬أوساط‭ ‬فقيرة‭ ‬وكذلك‭ ‬مصاحبة‭ ‬التلاميذ‭ ‬الذين‭ ‬يجدون‭ ‬صعوبات‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬التمدرس‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬صعوبات‭ ‬لسانية‭ ‬لغوية‭ ‬أو‭ ‬نفسية‭ ‬أو‭ ‬اجتماعية‭ ‬،‭ ‬تنظيم‭ ‬أوراش‭ ‬وجامعات‭ ‬شعبية‭ ‬مفتوحة‭ ( ‬واقعية‭ ‬وافتراضية‭) ‬،‭ ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬مواكبة‭ ‬مشاريع‭ ‬الإصلاح‭ ‬المطروحة‭ ‬رسميا‭ ‬بمشاريع‭ ‬مضادة‭ ‬تعكس‭ ‬أن‭ ‬اليسار‭ ‬مختبرا‭ ‬حقيقيا‭ ‬لإنتاج‭ ‬الأفكار‭ ‬والبدائل‭ ‬وقادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يشكل‭ ‬سلطة‭ ‬مضادة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬جدلية‭ ‬السلطتين‭ ‬الاقتراحية‭ ‬والاحتجاجية،‭ ‬وأن‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬والحق‭ ‬في‭ ‬التعليم،‭ ‬ليس‭ ‬شأنا‭ ‬فئويا‭ ‬يخص‭ ‬النضال‭ ‬النقابي‭ ‬والتربوي،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬قضية‭ ‬سياسية‭ ‬وفكرية‭ ‬ترتبط‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬بالمشروع‭ ‬الديمقراطي‭ ‬المنشود‭.‬

هذا‭ ‬فقط‭ ‬مثال‭ ‬لمعركة‭ ‬قد‭ ‬تحظى‭ ‬بالأولوية‭ ‬في‭ ‬أجندة‭ ‬اليسار‭ ‬وتسير‭ ‬جنبا‭ ‬الى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬البرنامج‭ ‬الديمقراطي‭ ‬العام‭ ‬وتخدمه،‭ ‬ونفس‭ ‬الرؤية‭ ‬قد‭ ‬تشمل‭ ‬حقول‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬المعركة‭ ‬الديمقراطية‭  ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والبيئية‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الصحة‭ ‬العمومية‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬المرفق‭ ‬العام،‭ ‬المسألة‭ ‬النسائية،‭ ‬الحريات‭ ‬العامة‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬حقوق‭ ‬العمال،‭ ‬الحقوق‭ ‬البيئية،‭ ‬حماية‭ ‬المال‭ ‬العام‭… ‬الخ‭. ‬وحول‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬الحيوية،‭ ‬يتقاطع‭ ‬اليسار‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬مكونات‭ ‬الحقل‭ ‬المدني‭ ‬الديمقراطي‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬تصور‭ ‬يتجاوز‭ ‬التمثل‭ ‬الإلحاقي‭ ‬الموروث‭ ‬عن‭ ‬زمن‭ “‬القطيعة‭ ‬الثورية‭ “‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬مقاربة‭ ‬هذا‭ ‬الحقل‭ ‬باعتباره‭  ‬مستقلا‭ ‬وشريكا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬في‭ ‬عملية‭  ‬تبلور‭ ‬السلطة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬المضادة‭ ‬،‭ ‬لأن‭ “‬بناء‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬القوى‭ ‬المجتمعية‭ ‬الفاعلة‭ ‬بالذات،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬الطلائع‭ ‬ولا‭ ‬الفئة‭ ‬المميزة‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يحمل‭ ‬على‭ ‬تحديد‭ ‬الديمقراطية‭ ‬باعتبارها‭ ‬ثقافة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬والتدابير‭ ‬الإجرائية‭ “. (‬كتاب‭ ‬ماهي‭ ‬الديمقراطية‭ ‬؟‭ ‬حكم‭ ‬الأكثرية‭ ‬أم‭ ‬ضمانات‭ ‬الأقلية‭. ‬2016‭. ‬ص‭ ‬248‭)‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى