وحدة اليسار المغربي: بين الضرورة والفعل
◆ محمد امباركي
1 – النقد البناء في أفق إعادة البناء
إن وضعية اليسار في المغرب لا تحتاج الى التشخيص سواء من حيث تاريخه ومكوناته أوحقول اشتغاله، لأن هذه الوضعية معروفة في ظل الوتيرة ”السيزيفية “ التي تميز دورته التنظيمية والنضالية، وبالتالي نفس الوتيرة تطال مسارات التقارب وتجارب الوحدة التي عاشها هذا اليسار وهو يحمل أحلام عريضة تؤطرها سرديات كبرى من قبيل الاشتراكية العلمية، الماركسية اللينينية، الكتلة التاريخية، الثورة الوطنية الديمقراطية والثورة الشعبية، ثم بناء الدولة الوطنية الديمقراطية أو الدولة الوطنية الحديثة، لينتقل جزء من الخطاب اليساري نحو مجتمع المواطنة والثورة السوسيوثقافية… وتجدر الملاحظة هنا أن الوعي حاصل داخل هذا اليسار المتعدد بأن تحقيق هذه التطلعات رهين باستراتيجية بناء الأداة التنظيمية القوية والقادرة على ترجمة هذه الأهداف الكبرى الى وعي مجتمعي عام .
بيد أنه، لا بد من الإشارة الى أن معظم هذه “البراديغمات ” لم تسعف مكونات اليسار من إحداث القطائع الضرورية في السياسة والفكر والممارسة، حيث ظلت المعادلة تتأرجح بين قدرة النظام السياسي على إعادة إنتاج نفسه وتعزيز اصطفافاته في الداخل والخارج والسماح ببعض الهوامش “الديمقراطية ” المحروسة، وبين حقل سياسي معارض يقوده يسار يسعى الى طرح نفسه كبديل ديمقراطي على قاعدة الوعي بضرورة الوحدة وتجاوز انقسامية المشهد الذاتي، لكن ذلك الوعي تصاحبه ممارسة التشتت وتعثر التجارب التحالفية والوحدوية على أهميتها بدأ من الكتلة الوطنية، الكتلة الديمقراطية، تجمع اليسار الديمقراطي، الحزب الاشتراكي الموحد، تحالف اليسار الديمقراطي، فدرالية اليسار الديمقراطي ثم فدرالية اليسار التي عقدت مكوناتها لعقد المؤتمر الاندماجي أيام 16-17-18 دجنبر 2022 تحت ” شعار “مسارات تتوحد، يسار يتجدد”.
لا شك أن النضال من أجل الديمقراطية هو مسار معقد خاصة في السياق الراهن المتميز بأزمة التمثيل السياسي الناجم عن هيمنة النيوليبرالية المتوحشة وتحكم قوى السوق عالميا والرأسمال الريعي محليا، مما نتج عنه اختلالا كبيرا في ميزان القوى السياسي والاجتماعي والثقافي لصالح قوى السلطوية والمحافظة، وبالتالي يظل تطلع اليسار الديمقراطي الى إعادة بناء ذاته على مرتكزات قوية تجعل منه سلطة مضادة حقيقية، محكوم بهذه الشروط التاريخية التي تميز الديمقراطيات السائدة بما فيها الديمقراطية التمثيلية التي أصبحت تتحول تدريجيا نحو ديمقراطية نخبوية في خدمة البورجوازية الرأسمالية المهيمنة في المتروبولات والأطراف.
إن طموح القوى اليسارية الى نمط من الديمقراطية يتجاوز أعطاب الديمقراطية البورجوازية، وطموحه في ذات الوقت الى تشييد صرحه التنظيمي بشكل مشترك، لا ينبغي أن يخفي حقيقة أن ممارسة الديمقراطية الداخلية والتداول على المسؤولية وتجديد النخب والأجيال هي قضية داخلية بامتياز ولا تهم فقط البينة السياسية الموضوعية، ثم أن الوحدة التنظيمية لا تلغي التعدد الفكري وتنوع المقاربات والقراءات لأنها وحدة منشودة على مستوى الآليات وطرائق إنتاج الموقف، القرار، وصيغ التصريف والتنزيل ولا تهم الوحدة المطلقة للفكرة والتصور وإلا سقط اليسار في فخ “الإجماع ” الذي لا يعني في نهاية المطاف غير التسلط، أي التماثل مع الزعيم واستدماج أن تكون سلطته فوق سلطة المؤسسات. بمعنى آخر أن الديمقراطية الداخلية ليست فقط آليات ومساطر، بل إنها جزء من الذهنية الديمقراطية التي يعرفها عالم الاجتماع الفرنسي “ألان تورين ” بكونها تستجيب لمقتضيين هما الحد من السلطة وتلبية مطالب الأكثرية. إنها من صميم الثقافة الديمقراطية وفكرة الذات الفاعلة. ( كتاب ماهي الديمقراطية ؟. حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية. 2016. ص 8 و19).
2 – يسار المجتمع والحاجة الى تجاوز ذهنية الشعار الايدلوجي العام
بناء على ما سبق، يمكن القول أن قوى اليسار في المغرب لا تنقصها السرديات الكبرى سيما أنها شكلت مدارس حقيقية في العطاء الفكري والاجتهاد النظري وإنتاج أطر ونخب قدمت خدمات جمة للمجتمع والدولة ، من هنا لن نبالغ إذا قلنا أن هذا التيار السوسيوثقافي يمتلك قدرات هائلة على إنتاج الشعار الأيديولوجي العام، وهو على كل حال مسألة ضرورية من حيث أن النظرية أو الفكرة هي التي تقود الفعل، والفعل يضع النظرية في مختبر التجسيد الملموس ويجعلها قابلة للتطوير والتجاوز والتفنيد، لكن وفي اعتقادنا، تبقى الحلقة الضعيفة على هذا المستوى هي اختيار شعار المرحلة، وبالتالي ينتج عن هذا الأمر بالضرورة عجز آليات العمل وقنوات التأطير والتعبئة في مختلف جبهات الصراع الاجتماعي. وليس جديدا إذا قلنا أن صعوبة صياغة الشعار المرحلي هي بشكل من الأشكال تعبير عن الحاجة الى فهم أعمق لبنيات المجتمع وتحولاته ودينامياته المستمرة على مستوى السياسة، الاقتصاد والثقافة والقيم، ومن ثمة تخطي واقع هامشية الفعل التي يعكسها بوضوح النزال الانتخابي رغم أنه نزال موجه ومتحكم فيه ويفتقد الى قواعد الصراع المتكافئ، لكنه يظل مرآة حقيقية تعكس حاجة اليسار الى تجديد وتجويد أدوات الفعل والتأطير.
إن تفكيك البنيات السوسيوتاريخية للاستبداد بشتى أبعاده، لا ينطلق فقط من تحليل العلاقة غير المتكافئة بين السلط، بل أيضا من الوعي بأن هذه البنيات متغلغلة ومستدمجة في اللاشعور الاجتماعي والثقافي للمجتمع عبر قنوات عدة تلعب أدوارا أيدولوجية حيوية بما فيها الأسرة، المدرسة، المسجد، الإعلام ومختلف الأدوات القانونية والمؤسساتية للدولة، وكذلك شبكات التواصل الاجتماعي التي بقدر ما تعتبر فضاء مهما للتعبير والاحتجاج في ظل “احتكار السلطة” للفضاء العمومي الواقعي، بقدر ما تشكل مجالات ملائمة لتصريف التفاهة والفكر المسطح والهويات الهجينة. ومن الممكن أن تكون هذه العوائق من جملة ما يفسر الحلقة المفرغة للحركات الاحتجاجية في المغرب بما فيها حركة 20 فبراير، وانحباس الحركات الاجتماعية عن التطور وصياغة هوياتها الفكرية وخطها السياسي في مختلف الحقول ( العمالية، الحقوقية، النسائية..) أمام ضعف الفاعل السياسي التقدمي على صعيد التأطير والمواكبة والقدرة على التفاوض، وبالتالي تصاعد الدينامية الاحتجاجية السوسيومجالية من قبيل حراك الريف الذي برهن على قيمة الذوات الفاعلة أفرادا وجماعات، وهو حراك وجد نفسه معزولا بين يقظة النشطاء من كل ارتباط غير واضح، وبين تأويلات وتدخلات السلطة كي تبعث من خلاله رسائل عدة مضمونها أنه ليس هناك حيز متاح لإنتاج قيادات كاريزمية منتقدة ومنافسة سواء في مجال الاحتجاج الاجتماعي المحلي، أو في مجال الإعلام والصحافة النقدية سيما التي تقترب من محيط “خدام الدولة”، بل وفي المجال الرسمي نفسه (“البلوكاج” الحكومي المشهور)..
من هنا، تتضح الضرورة القصوى ليسار يفكر، يشتغل ويناضل كي يشكل سلطة مضادة فاعلة ومؤثرة، وهي ضرورة لصيقة بمراحل سابقة، لكن ظل خروجها الى الوجود معاقا ومنتظرا…لكن التجديد والتجويد ينبغي أن يطال الفكر والممارسة، والوحدة تظل فضاء مفتوحا لكل الأفراد والجماعات التي تؤمن بقيم النزاهة والديمقراطية والحداثة والعقلانية…من هنا فشعار المؤتمر الاندماجي “مسارات تتوحد، يسار يجدد”، هو شعار تنظيمي يتوجه الى الذات بالدرجة الأولى، وهذه مسألة بديهية لأنه يعكس من جهة أولى مرحلة انتقالية من التشييد المشترك، ومن جهة ثانية الوعي بأن التوجه الى المجتمع في مختلف مستوياته الأفقية والعمودية، ينبغي ان يستد مشروعيته من تمنيع الذات ضد كل الاختلالات، وإلا نظل أمام تضخم الخطاب والبعد عن قضايا المجتمع والناس وبالتالي غير مؤهلين عن تأطير والدفاع عن الفئات الاجتماعية التي نتحدث عنها كثيرا بما فيها العمال والفلاحين والفئات المتوسطة وضحايا البطالة والإقصاء الاجتماعي.
إن التحول “التاريخي ” لليسار الى تيار سوسيوثقافي تحرري يخترق كل مناحي المجتمع هو عملية مفتوحة ولا تلغي التراكم الذي حصل ويحصل بإيجابياته وسلبياته، فقط وكما أشرنا سابقا، لا بد من إعمال الحس النقدي اتجاه وسائل العمل وتنمية التفكير الجماعي المنفتح والتشاركي والمنتج لمطالب ديمقراطية ذات مضمون ملموس و قادرة على حشد التعبئة المجتمعية من قبيل مثلا ” الدفاع عن المدرسة العمومية الضامنة للجودة وتكافؤ الفرص وإشاعة قيم التنوير” بشكل يتجاوز بعض الشعارات العامة والاستراتيجية، والتي قد تستجيب لمرحلة يكون فيها اليسار قويا فكرة وتنظيما، وقريب من الوصول الى السلطة وتدبير الحكم، وهذا غير متاح الآن في ظل الشروط الذاتية والموضوعية السائدة. وفي نظرنا أن الأرضية الثقافية للمشروع تنطلق من قناعة أن المدرسة هي رافعة الديمقراطية وبالتالي المدخل الأساسي لمحاربة تفاوت الحظوظ التربوية والاجتماعية والتعثر الدراسي والانقطاع عن المدرسة بشكل مبكر وسط ضحايا الاقصاء الاقتصادي والاجتماعي، وهي مسؤولية تقتضي الترافع في اتجاه الدولة من جهة والمجتمع من جهة ثانية، وبالتالي تدشين حوار عمومي واسع حول المدرسة العمومية، وضع خطط وبرامج ولجان للدعم السوسيوتربوي للتلاميذ المنحدرين من أوساط فقيرة وكذلك مصاحبة التلاميذ الذين يجدون صعوبات حقيقية في التمدرس سواء كانت صعوبات لسانية لغوية أو نفسية أو اجتماعية ، تنظيم أوراش وجامعات شعبية مفتوحة ( واقعية وافتراضية) ، هذا بالإضافة الى مواكبة مشاريع الإصلاح المطروحة رسميا بمشاريع مضادة تعكس أن اليسار مختبرا حقيقيا لإنتاج الأفكار والبدائل وقادر على أن يشكل سلطة مضادة في سياق جدلية السلطتين الاقتراحية والاحتجاجية، وأن الدفاع عن المدرسة العمومية والحق في التعليم، ليس شأنا فئويا يخص النضال النقابي والتربوي، بل إنه قضية سياسية وفكرية ترتبط بشكل مباشر بالمشروع الديمقراطي المنشود.
هذا فقط مثال لمعركة قد تحظى بالأولوية في أجندة اليسار وتسير جنبا الى جنب مع البرنامج الديمقراطي العام وتخدمه، ونفس الرؤية قد تشمل حقول أخرى من المعركة الديمقراطية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية من قبيل الصحة العمومية والدفاع عن المرفق العام، المسألة النسائية، الحريات العامة وحقوق الإنسان، حقوق العمال، الحقوق البيئية، حماية المال العام… الخ. وحول هذه القضايا الحيوية، يتقاطع اليسار مع مختلف مكونات الحقل المدني الديمقراطي من موقع تصور يتجاوز التمثل الإلحاقي الموروث عن زمن “القطيعة الثورية “، وبالتالي مقاربة هذا الحقل باعتباره مستقلا وشريكا استراتيجيا في عملية تبلور السلطة الديمقراطية المضادة ، لأن “بناء الديمقراطية ينبغي أن تقوم به القوى المجتمعية الفاعلة بالذات، لا أن تقوم به الطلائع ولا الفئة المميزة. وهذا ما يحمل على تحديد الديمقراطية باعتبارها ثقافة أكثر مما هي مجموعة من المؤسسات والتدابير الإجرائية “. (كتاب ماهي الديمقراطية ؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية. 2016. ص 248)