الإلتراس المغربية : مقاربة للفهم
إعداد وتركيب: عبد الكريم وشاشا
الكثير من الأحكام المسبقة، والآثمة أحيانا، تطال مجموعات الإلتراس، البعض يتصيد الفرصة لوضعها وقولبتها ثم تنميطها في قالب نهائي كي يستريح من هذه الحركات الفوارة بعنفوان الشبيبة المغربية المبدعة الملتزمة والتي ملأت مدرجات الملاعب وعقول وأفئدة الشباب وشغلت الناس وأرقت كثيرا أم الوزارات، وتعاملت معها الصحافة السيارة بتوجس أحيانا وبالتحريض أحيانا كثيرة.. والكل تقريبا تعامل معها باختزال شديد.. شبيبة خارج المؤسسات جميعها ترسل رسائلها الخاصة في الفضاءات العمومية والافتراضية حول الحرية والكرامة والعدالة والاستقلالية بوسائل جديدة في غاية الدهشة والجمال..
.. جيل جديد صاعد من الشبيبة المغربية (ما بين 18 و20 سنة) أتى من رحم المجتمع المغربي، جيل عانى كثيرا من ” الحكرة ” ومن الخذلان ومن إفلاس جميع المشاريع خاصة التعليمية منها..
تحتاج حركات الإلتراس من أجل مقاربتها وفهمها.. تحتاج إلىالإنصات.. أولا وأخيرا…
سياقات التأسيس والهوية
البدايات (2004 / 2006 و2007..)كانت بدائية وبدون تنظيم، وقد لعب الفايسبوكومنصات التواصل الاجتماعي دورا مهما في بلورة الصيغة المغربية حتى وصلت تضاهي الصيغ العالمية .. وقد لعبت الصيغة الإيطالية، دورا مؤثرا وكبيرا في ميلاد الحركات، بعد أن كان الهاجس الأول هو البحث عن تأسيس إطار بديل عن جمعيات المشجعين الموازية للفرق الوطنية بعد تراجعها، وكذا حجم الفساد المستشري والإقصاء الممنهج داخل الأندية الكروية؛ ولعب الرواد المؤسسون دور المعلم الأول في الإعداد والتكوين والتلقين ومنح لكل حركة خصوصيتها وبصمتها المعروفة، لما يتوفرون عليه من خلفية ثقافية وقوة اقتراحية هائلة ومؤثرة، كما لعب المسار الكروي للفريق الذي يجب تشجيعه وظروف إنشائه والمدينة أيضا وخصوصيتها التاريخية في تحديد الكثير من السمات .. فهذه الحركات إذن ليست كتلة منسجمة كما يعتقد الكثيرون..
فهذه المجموعات لا تتبع لأي تنظيم سياسي أو عرقي ولا تخضع لأي تيار إيديولوجي كما هو حاصل في العديد من دول أوروبا التي يسيطر اليمين المتطرف على الكثير من مجموعاتها.. كما أنها طبقا لمبادئها لا تمثل جمهور الكرة كله ولا تؤطره، فهي جزء فقط من هذا الجمهور الذي يأتي إلى مدرجات الملاعب لغاية واحدة ووحيدة، هي تشجيع الفريق؛ فمن المبادئ الأولية في قواعد الإلتراس هو تشجيع الفريق بطرق هسترية وبأشكال وألوان متعصبة وإبداع لوحات جسدية هائلة على المدرجات تخيف الخصوم وتبعث الرهبة في نفوسهم، ولكن مع مرور الوقت، طرأ تحول مهم، وهذا هو الجدير بالوقوف عنده، التعبير عن قضايا وانشغالات مجتمعية آنية ومصيرية تستأثر بالاهتمام، وتناولها بطريقة فنية كرسائل لمن يهمهم الأمر؛ فالإلتراس يعتبرون أنفسهم، الأبناء البررة لهذا المجتمع، وهم المرآة التي تعكس ما يعتمل داخله.. الإلتراس هم جسور موصولة بين الشارع والمدرج.
فعندما اندلعت شرارة الحركات الاحتجاجية التي قادتها حركة 20 فبرايرفي شوارع المغرب سنة 2011وخروج فئات واسعة من الشعب المغربي إلى الشارع بقيادة الحركة الشبابية، مطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد في أكثر من 20 مدينة مغربية بشعارات خلاقة ساخرة وصادمة.. انطلقت وسط المجموعات نقاشات ساخنة ومستفيضة حول المواقف التي يجب اتخاذها من هذا الحراك الاحتجاجي الاجتماعي والسياسي العارم، ولقد قامت بعض مجموعات الإلتراس، بالفعل، بترديد نفس الشعارات وخاصة الشعار الشهير “عاش الشعب“وارتداء قمصان ورفع لافتات مساندة لحركة 20 فبرايرفي المدرجات.. أما القضية الفلسطينية فهي من القضايا المركزية في الاهتمامات التعبيرية لكل مجموعات الإلتراس المغربية..
فمن هو الإلتراس الحقيقي ؟فبحسب التصريحات المستقاة من داخل صفوفه؛ هو عنوان للرجولة والشجاعة وكي يكون ناجحا في مدرجات الملاعب عليه أن يكون ناجحا في حياته، يؤمن بالحرية والنقد والنقد الذاتي والاختلاف والحوار ويكره العنف.. فهو زبدة الجمهور، ولا يمكنه أن يتورط في أعمال شغب لأنه يحمل مبادئ سامية – فمجموعة الإلتراس لا تقبل الفاشلين والمنحرفين – .. فهو مستعد للبذل والعطاء بلا حدود لأنه يشعر عميقا بالانتماء وحب الوطن.. وتجيش مشاعره بدون خجل ولا مواربة، معبرا بالهتافات والأغاني والشعارات واللوحات.. يحترم شعار فريقه المختوم (اللوغو) إلى حدود القداسة.. أما اللافتة الكبيرة للمجموعة أو ما يسمى بالباش Bâche)) فهي الهوية وهي من ” المحرمات” الكبرى التي لا يمكن المساس بها إلى درجة أنه عندما يتم لمسها من طرف ” الخصوم ” أي من أحد المجموعات المنافسة فكأنما تم تدنيس المجموعة بأكملها ووجب عندئذ حلها فورا وتلقائيا؛ وهذا من أغرب الأشياء وأكثرها تطرفا.. ويمتلك كل فريق نوعين من الباش Bâche)) رسمي ومتنقل، فالرسمي دائم لا يمكن نقله من مدينة الفريق عكس المتنقل وكلاهما لهما نفس ” التبجيل والاحترام والتوقير ” ..
إشكالية التنظيم
أشكال التنظيم لدى مجموعات الإلتراس بشكل عام هلامية وعصية على القبض وهي من مكامن قوتها وصلابتها فلا أحد يمكن أن ينطق باسمها أو يمثلها، وهذا ما حير وزارة الداخلية طويلا وأتعب المخبرين وأجهدهم.. ويخضع شكل التنظيم بدوره لخصوصية كل مجموعة وظروف ومكان وملابسات تأسيسها، يعتبر المؤسسون دائما النواة الصلبة ، لكنهم يتراجعون إلى الخلف بعد وقوف الحركة واستوائها ليفسحون المجال للأجيال الأخرى وللكفاءات الصاعدة، تليهم العناصر الفعالة والنشيطة التي تصبح مع مرور الوقت والتجربة والحنكة والدربة والقوة الاقتراحية مسؤولة ومؤثرة داخل الحركة.. كما أن الحجم والعدد يلعب دورا مهما في شكل التنظيم، فهناك مجموعات تتوفر على خلايا، وعلى كل رأس كل خلية مسؤول، وهناك المتعاطفين والنصيرين ثم المنخرطين.. وهناك مجموعات قوتها فقط في قاعدتها المتشكلة غالبا من المتعاطفين.. فالتنظيم هو أيضا يخضع لخصوصية كل مجموعة؛ وتتخذ القرارات بديمقراطية في شكلها اليوناني الدائري القديم يشارك فيها كل أفراد المجموعة.. وتلعب كاريزما الأفراد تأثيرا كبيرا في اتخاذ القرارات النهائية.
وحفاظا على استقلالية المجموعات وصيانة لها من جميع التأثيرات الخارجية لا يمكن القبول بالهبات والمنح والتمويل الخارجي، فكل مجموعة تعتمد على مواردها المالية الخاصة المتمثلة أساسا في بيع منتوجاتها التي يقوم أعضاؤها في إبداعها وإنتاجها.
قرار منع وزارة الداخلية: ورب ضارة نافعة
خلال بطولة موسم 2016 وبالضبط يوم السبت 19 مارس 2016، وعقب مباراة جمعت بين فريق شباب الريف الحسيمي والرجاء البيضاوي، اندلعت أحداث دامية بين أنصار الفريقين قتل فيها شخصان وجرح العديد ، بإصابات بليغة وخطيرة ،سميت تلك المباراة في “حوليات” كرة القدم المغربية بالسبت الأسود.. وكانت مناسبة هائلة سنحت لوزارة الداخلية التي كانت تتحين الفرص، بمقاربتها الأمنية الضيقة للانقضاض على مجموعات الإلتراس وفرضت حظر دخولها إلى المدرجات ببلاغ ناري يقول:
“نظرا لكون المجموعة المسماة “الإلتراس” تعدّ غير موجودة من الناحية القانونية لكونها غير مصرح بها طبقا لمقتضيات الظهير الشريف، والمتعلق بحق تأسيس الجمعيات، وبالتالي تبقى كافة أنشطتها غير مشروعة وخاضعة للعقوبات المقررة بمقتضى القانون”.
.. واعتبارا لكون العامل هو الساهر على تطبيق القوانين والأنظمة والمكلف بالحفاظ على النظام العام بتراب المملكة أو الإقليم، وله أن يتخذ تدابير ذات صبغة تنظيمية أو فردية فقد تقرر منع كافة أنشطة المجموعة المسماة “الإلتراس”، وكذا أنشطة جميع أعضائها كيفما كان شكلها وطبيعتها”.
فبجرة قلم وبدون تحريات ميدانية،تمت إدانة مجموعات الإلتراس وتحميلها المسؤولية عن الأحداث، لكن وزارة الداخلية وجدت صعوبة كبيرة في تبليغ قرار المنع، وقامت فعلا باعتقالات في صفوف بعض المجموعات التي انتفضت ضد هذا القرار، مما دفع مثلا مجموعات مدن أخرى في رفع لافتاتها المركزية بشكل مقلوب احتجاجا على هذه الاعتقالات التعسفية، وتضامنا مع المعتقلين؛ بل والدعوة إلى مقاطعة جماعية للمباريات.. كما دعت وزارة الداخلية إلى التراجع عن هذا القرار الجائر..
لكنها طبقا لمبادئها السلمية دعت إلى التهدئة وضبط النفس معتبرة بأن شغب الملاعب موجود في كل مدرجات العالم، بل قامت بمقاربة حول الشغب والعنف الموجود في كل ثنايا ومفاصل المجتمع المغربي واعتباره ظاهرة مركبة تحتاج إلى مجهودات الكثير من الفاعلين.. بل والأكثر من ذلك ولأول مرة اجتمعت بعض الفصائل ووضعت ميثاقا حول المبادئ والحدود والاختلاف… بذلك قدمت حركات الإلتراس نفسها كجزء لا يتجزأ من المجتمع المدني على عاتقها مهام صعبة في ميدان أصعب وأكبر من دعم وتشجيع الفريق.. منفتحة على قضايا المجتمع…
حاولنا جاهدين التواصل مع بعض الأعضاء من حركات الإلتراس لفتح ثغرة في الطوق المضروب عليها، ففي كل “حوارات” الإعلام الرسمي التي تناولتها، سواء كانت تلفزية أو عبر الأثير، لم تكن الإلتراس حاضرة، كانت هي دائما الغائبة المغيبة، وهذا ما أراده الكثيرون لتمرير المغالطات وبث الغموض، ولتضييق الخناق ومراقبة كل حركاتها وسكناتها، لكن من جهة أخرى فالإلتراس أيضا مسؤولة عن هذا الحوار الأصم، فقد حملنا أسئلتنا طويلا وطرقنا أبواب كثيرة لكن لا أحد يريد أن يتكلم أو يتفاعل معنا..
فتضخيم شعور الذات الجماعية وشيطنة الأحزاب والجمعيات ووضعها في خانة واحدة والأحكام المسبقة ومعاداة الجميع وضبابية الرؤية والتنظيم المعقد.. كل هذا سيزيد من عزلتها ومن عدد أعدائها.. ففي البيان الرسمي الأخير الذي أصدرته مجموعة ” مدرسة إتحاد الإلتراس المغربية ” يوم 28 يناير 2019 والذي جاء فيه:
في أرضِ تضيِيع الطاقاتِ و الشباب ، في أرضِ الإهمالِ و مُستقبلٍ ضباب ، في أرضٍ عقلُها ضاع بسببٍ مسؤولينَ جِيَاع ، في أرضٍ حتى من إعلاُمُهاَ باع … وُلِدَ تحدي العقلِ و الحضارة ، و كتبَ التاريخ بأسطُرِ فخرٍ عن من لم يرض بوضعِ نهايةٍ غير ناصِفة لِإبداعاتِ حياتِه ، فارتبط الشمال بالجنوب ، و الشرق بالغرب ، و تحول البُعدُ لِقُرب ، تحتَ لِواءِ شباب ” إتحاد الألتراس المغربية ” ، من حطمت إختلاف التصوراتِ و الإديولوجيات لِتستطيع تحويلها لِوحدةٍ مُشِعة لم تستطع مكاتِبُ الدولةِ تحقيقَها.
إجتِماعاتٌ سِرية و بحثٌ عن حلولٍ تُزيل المنعَ بِصورتِهِ التجريمية ، نُكرانٌ للذات و توحيدٌ للعقلِ والقرار …..
شرعية الجمعيات أو الأحزاب السياسية، لم تقدم اليوم ما قدمته ” الألتراس ” الغير الشرعية ، من دروس في وحدة الشباب و الشعب ، حيث لن يستطيع أي طرف كيفما كان نوعه الآن ، أن يحقق ذلك الحجم من الإتحاد و في وقتٍ وجيز.
و لكي نضع النقط على الحروف ، الألتراس المغربية هي ليست ظاهِرة للدراسة ، بقدر ما هي مصدر للعبِرة و الإبداع و الروح المسؤولة التي لا يحملها أي مسؤول.
ستبقى مرحلة الإتحاد ، من أرقى التعابير الفكرية و الحضارية ….
في تواصل مع أحد الطاقات الشبابية القريبة جدا والمتابعة إعلاميا لتموجات حركات الإلتراس محمد حمزة حشلافيرى بأن على الإعلام الجاد الذي يريد الاشتغال على هذا الموضوع أن يقوم بالبحث والتقصي، قبل تناوله إعلاميا تفاديا للأحكام المتسرعة والمزيفة ولإبراز صورة حقيقية وصادقة للإلتراس.. وعلى فصائل الإلتراس بدورها الخروج من قوقعتها والتعريف بنفسها.. كما أنه أكد بأن كل فصائل الإلتراس تعتبر الأحزاب كيفما كانت يمينية، أو يسارية، خطا أحمر، بالنسبة لها.
في جواب على الشكل الفيدرالي أو التنسيقي بين الفصائل وخاصة بعد تجربة قرار المنع، رد بأنه بدأ يتشكل منذ مقاطعة المباريات وأن هناك تكتلات أخرى مثل التكتل بين إلتراس الرجاء والوداد – وتوج بمجموعة ” مدرسة إتحاد الإلتراس المغربية ” – ..
أما بالنسبة لمحاربة وفضح الفساد داخل كرة القدم المغربية فهو يعتبره من أولى الأولويات لدى كل الفصائل، التي تقوم الآن بالتشهير بالأسماء المرتبطة به داخل الملاعب ورفع شعارات “ارحل” في وجوه مسيري الأندية ..
.
مراجع وهوامش:
- رابط فيديو ” كيف نفهم حركة الإلتراس ” في صفحة الفايسبوك لمعهد بروميثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان : https://www.facebook.com/institutprometheus/videos/200798640843573/
- سوسيولوجية جمهور كرة القدم “الالتراس المغربي نموذجا: الأستاذ لحسن تفروت
- ” 20 فبراير بين الماضي والحاضر” عبد الكريم وشاشا