الشعب الجزائري يمهد للجمهورية الثانية
انتخاب عبد العزيز بوتفليقة لرئاسة الجمهورية الجزائرية، ليس ككل الإنتخابات السابقة بعد أن انفرط عقد النخبة العسكرية التي كانت تتوافق على الرئيس قبل إنتخابه من الشعب،إنها فترة لانتقال طرف من الأطراف القوية المتصارعة إلى الهيمنة من جهة، وهو صراع على السلطة في شكله فقط، لكنه من جهة أخرى، هو في مضمونه صراع محموم على الثروة والريع. سيناريو تقديم بوتفليقة الذي بدأ على الأقل منذ الضربات التي وجهتها الرئاسة لعدد من القيادات العسكرية والإستخباراتية في 2015 اصطدم بانتفاضة الشعب الذي نزل بقوة الى الشارع رافعا شعارات سياسية ترمي الى التغيير مهدداً بالتصعيد الى الإضراب العام إذا صعّد النظام ، وهو نزول فاجأ وأربك المطبخ الذي أعد السيناريو.
حدود الصبر والتحمل
قيل مرارا ان الشعب الجزائري تحمل كثيراً وصبر على نظام حُكمٍ عتيق ومنخور، إلا أنه في الأيام الأخيرة، فاجأ الرأي العام الدولي والعربي بهبَّته السلمية المنظمة، إنها انتفاضة بكل معنى الكلمة شاركت فيها كل الفئات والأعمار، ومن كل مجالات النشاط الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والثقافي والإعلامي والقانوني … ولعل ما برهن على أن الشعب الجزائري عانى كثيرا من الإحساس بالتحقير، هو خروج الصحافيين والصحافيات من وسائل الاعلام العمومية والخاصة مطالبة النظام بإنهاء الكبت وقول الحقيقة للشعب كما هي، وكانت قد صدرت تعليمات كما هي العادة من طرف السلطات، بالتعتيم وتجاهل المظاهرات إن لم تتم مهاجمتها وتخوينها بادعاء أنها تخدم أجندة أجنبية أو أنها ستجلب الفوضى والفتنة على غرار سوريا وليبيا..
في بضعة أيام قليلة، من 22 فبراير إلى 3 مارس انقلب المشهد السياسي الجزائري من التشتت والتشرذم في كل الأوساط السياسية والعسكرية، سواء داخل الموالاة، أو داخل المعارضة، إلى تشكل قوتين كبيرتين متصارعتين: قوة الرئاسة، والجيش بقيادة نائب وزير الدفاع ورئيس الإستخبارات، وجبهة التحرير الرسمية بقيادتها التي ترضى عنها الرئاسة، والتجمع الوطني الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء أحمد أويحيى، من جهة ، والقوة المقابلة: كل أحزاب المعارضة ممن ينوي المشاركة في الإنتخابات أو التي قاطعتها، وعدد من القادة العسكريين المتقاعدين أو المغضوب عليهم في مقدمتهم علي غديري الذي ترشح لهذه الإنتخابات وكان قد قدم استقالته على اثر إقالة الجنرال توفيق، بعد أن مورست عليه ضغوط كثيرة لأنه كان لا يخفي قربه منه، كما شارك عدد من القطاعات النقابية والطلابية إلى جانب هذه القوة الثانية. وهذه القوة معززة بهذه الإنتفاضة التي وصفت بأنها الثانية تاريخيا في ضخامتها التي أخرجت الشعب الجزائري إلى الشارع منذ مثيلاتها في معركة الاستقلال وفي الفرح به، بينما الموالاة ما تزال تائهة لم تستطع حتى جمع مناصريها لأن الإنتفاضة أحدثت فيهم شرخا كبيراً وخاصة وسط أعضاء جبهة التحرير وقادتها في الرتبة المتوسطة والصغرى .
انفراط العقد والصراع على الثروة
ثلاث قوى تحكم الجزائر، الجيش والاستخبارات، والرئاسة، والحزب الوحيد جبهة التحرير طوال الستينات والسبعينات والثمانينات حتى شكل الجنرال لامين زروال حزب التجمع الوطني الديمقراطي في أواخر التسعينات منفصلا عن جبهة التحرير، وسحب منها العديد من المنظمات الموازية و يأتي دائما في الرتبة الثانية أو الثالثة في الإنتخابات ما عدا مرة واحدة احتل فيها الرتبة الأولى في تشريعية 1997.
هذا الثالوث الكبير متداخل جدا فعلى مستوى الرئاسة، مثلا، كل العصب المسير والنافذ هو من الجيش والإستخبارات أو من الشخصيات التي تجلبها الرئاسة ويكون الجيش راضيا عنها، وحاليا فإن الرجل القوي، وصلة الوصل بين الرئاسة والجيش هو عثمان طقطاق (البشير) الذي خلف الجنرال توفيق وكان اليد اليمنى لهذا الأخير.
ما حصل هو أن إنهيار أسعار النفط والغاز عالميا بنسبة 55 بالمئة عام 2014 أدى إلى تدهور مداخيل الجزائر ومن المعلوم أن تصديره يشكل 97 في المئة من مصادر العملة الصعبة، الشئ الذي يعني هبوطا كبيراً في استيراد المواد الغذائية والصناعية والفلاحية، ويعني التقشف وفرض الضرائب، ويعني أيضا مد اليد إلى منابع الريع الكثيرة للإنقاص منها قليلاً، وهذا المعطى زلزل الثالوث الكبير وخلق توثرات بين عدد من أفراد النخبة العسكرية والسياسية، لأن مد اليد والضغط على الإنفاق لم يمس إلا أسماء دون غيرها، من المقربين للرئاسة ولطاقم وزارة الدفاع، وأول علامة على التقشف ظهرت مع قرار تخفيض المساعدات الموجهة لدول إفريقية في 2014 بنسبة 50 في المئة ثم توجه إلى ضرب أفراد كانوا سائبين ولكن بدون حماية ، كما أن الآمال المعقودة على الثروة الباطنية مثل الحديد والذهب وما ستدره من ريع زاد من أسباب التصدع والمواجهات لأن الحصول على جزء منه يتطلب البقاء في السلطة وفرض الذات. فعندما بدأ التفكير أيضاً في استغلال واسع للثروات الأُخرى من غير النفط والغاز وأول ثروة تم الاستعداد لها هي الحديد في غار جبيلات ومنجم مشري عبد العزيز القريب من الأول في تندوف، تطايرت رؤوس عديدة وظهرت أخرى والجميع يزايد بأن أصبح شوفينيا حتى لا يقال عنه أنه سيتخلى عن الثروة أو منفذ تصديرها . ومن المعروف أن هذا المنجم اكتشفه الجيش الفرنسي في 1952 وبسبب ضخامة الإحتياطي فيه تم تزوير خريطة الصحراء الشرقية بحيث تم ضمها للأراضي الجزائرية إذ كانت فرنسا تعتبر الجزائر قطعة منها على عكس المغرب الذي كان تحت الحماية فقط. و قد اندلعت حرب الرمال بين المغرب والجزائر في 1963 اقترب فيها الجيش المغربي من تندوف ب 15 كلم وتم الإنسحاب بعد عدة وساطات افريقية ودولية وكان الشهيد المهدي بنبركة قد اقترح الإستغلال المشترك لثروات المنطقة وأن تعتبر لبنة للدفع نحو مغرب الشعوب وبناء المغرب الكبير.
وقعت الجزائر بواسطة الشركة الوطنية الجزائرية «فيرال» مع شركة صينية «سينوستيل» للتجهيز والهندسةعلى قاعدة 51/49 بروتوكول دراسة الجدوى، وحسب المسؤولين الجزائريين فإن العمل في المنطقة سيبدأ في 2021.كما أن عدداً من الدول إلى جانب الصين سارعت في السنين الأخيرة إلى الإستثمار في مصانع الحديد والصلب في غرب الجزائر مثل تركيا وقطر والإمارات.
نحو الجمهورية الثانية
لكل هذا، فإن القوة القابضة على زمام السلطة، لم تقدم بوتفليقة للإنتخابات إلا لأنها أوصلت النخبة العسكرية والسياسية التي كانت تتوافق عند أي خطر، إلى وضع لم يسبق له مثيل في التمزق، إلى حد أنه لم يعد ممكنا معه رتقه، وبوتفليقة بالنسبة لها مرحلة مؤقتة، لأنها لا تملك من الرصيد السياسي والمعنوي شيئا يمكنها من الظهور أمام الرأي العام الجزائري ولأن الصراعات محتدمة حاليا بين شخصيات الموالاة ولم يستطيعوا الإتفاق الا على بوتفليقة الشخص الذي يلخص فترة زمنية قصيرة كل واحد يتمنى ان يفرض ذاته خلالها، وعين هذه القوة أساسا على الثروة وما تجلبه من ريع، لكن في نفس الوقت متفقة كلها على ان هذه الثروة والريع مرتبطة بمخططات العداء للمغرب وكلها مع خلق ملحقة في الصحراء الجنوبية الغربية للمغرب ولو أن الدراسة الصينية عالجت أيضا إمكانية التصدير عبر موريطانيا لكنها شددت على أن ذلك مكلف جداً.
تابع الشعب الجزائري كل هذه الصراعات، وما تخفيه، ويعرف الكثير عنها، لذا عندما نزل إلى الشارع اعتقد الكثير أنه نزل ضد بوتفليقة، لكن الحقيقة أنه لم ينس ما قدمه الرجل من أجل استقرار الجزائر ودوره في المصالحة، ولم ينزل من منطلق تقييم الشخص اوتقييم أداءه بل لأنه أصبح دمية منذ الولاية الرابعة التي لم يخاطب فيها الشعب الجزائري ولو مرة واحدة ، ونزل لأنه يعرف جيدا أن الولاية الخامسة هي فترة زمنية ستتجاوز فيها الموالاة السياسة الحالية القائمة على الريع إلى سياسة هجومية تبتلع الثروات من طرف مجموعة تختفي وراء بوتفليقة ، لذا من البداية كانت الإنتفاضة سياسية في عمقها ودلالاتها، تسعى إلى تقويض نظام وبناء نظام آخر ديموقراطي وبالتالي إلى جمهورية ثانية.
السيناريوهات المحتملة
يشوب الوضع السياسي الحالي، بكافة شروطه، الكثير من المخاطر والتحديات، لكون القوى السياسية متنافرة، والجيش الذي كان مصدر كل حركة، يعيش تشتتا على مستوى القيادة، والعنصر الوحيد الذي يخلق الأمل عند الشعب الجزائري هو تخلي أوساط واسعة منه عن اللامبالاة والحياد، وهذه الأوساط التي قررت اخيرا الإنتفاض هي الضمانة الوحيدة الا تلتف آلقوة الأولى على الأحداث المتسارعة، وتدفع نحو الحفاظ على جوهر الوضع القائم. ومن قراءة تطورالأحداث يظهر ان المسار يتجه نحو توقع أحد السيناريوهات الثلاثة التالية بعد أن تأكد تقديم أوراق ترشيح بوتفليقة من طرف مدير حملته الجديد:
1- الإحتواء وإعادة انتاج نفس العلاقات السياسية القانونية
لقد كانت أواخر الثمانينات والتسعينات فرصة لتطور النظام وبناء الجمهورية الثانية، حيث رسًمت التعددية وتطورت حقوق التعبير والرأي، لكن كان كل ذلك مناورة فقط من اجل الإحتواء عن طريق اعادة توزيع الريع على «المشاغبين» السياسيين والعسكريين ، الآن ستسعى القوة الأولى الى نفس الطريقة ويمكن ان تتخذ عدة خطوات مثل تأجيل الإنتخابات، وتنظيم حوار وطني لتوسيع قاعدة النظام بعد تقلصها ،أو إخراج مناورة عن طريق المجلس الدستوري الذي عين رئيسه في 10 فبراير الماضي وكان وزيرا للداخلية ثم مستشارا لرئيس الجمهورية قبل تعيينه في هذا المنصب، ومن أولويات المجلس النظر في أوراق الترشح هل تتطابق مع مقتضيات الدستور، أو تقديم الإستقالة من طرف الرئيس وتطبيق المادة 102 من الدستور الذي يعطي لرئيس مجلس الأمة صلاحية شغل الرئاسة لمدة 90 يوما وهي كافية للإلتفاف على الشارع.
2- الصدام مع الشارع بمخطط دموي، وخلق شروط التوجه نحو إعلان حالة الطوارئ، وقد ظهرت بعض مؤشراتها منها ما قيل عن تسجيلات لمدير الحملة الانتخابية لبوتفليقة السابق حض فيها على استعمال القوة ضد الشارع، لقد تم عزله ولكن ربما يكون العزل فقط لان التسجيلات أصبحت علانية وأضرت كثيرا بالنظام ولم تترك له مجالا للمناورة.
3- تطور الإنتفاضة الى الإضراب العام إذا ما تمكنت من فرز قيادة ميدانية نحو القيادة السياسية أيضا، لان الوضع الحالي ما تزال فيه القيادة موزعة ومشتتة بين القيادات السياسية وغير منسجمة بالرغم من أنها تسارع لأن تنسجم مع الشارع حيث انضاف للأحزاب الثلاث المقاطعة من البداية حزبان آخران وشخصية مستقلة، لكن مع ذلك تحتاج الإنتفاضة إلى قيادة سياسية.