المُثقّف السياسوي ومثقف الخدمة
عبد الدين حمروش
أُنجِزت حول موضوع «المثقف» دراسات عديدة. والجدير بالذكر أن غير قليل من تلك الدراسات، جاء يحمل أطروحات في غاية من العمق والجِدّة. ولعل من نتائج الاستعادة المُتجدِّدة لمفهوم المثقف، أن صرنا بصدد ما يمكن تسميته «علم اجتماع المثقف». وإن استمرّ الموضوع يسترعي الانتباه «الثقافي»، إلى حدود اليوم، فإن ذلك لم يشفع لبعض المهتمين من الوقوع في أتون الخلط والالتباس، الناتِجيْن عن المبالغة في تقدير طبيعة «الدور»، الذي يمكن للمثقف أن يضطلع به.
والملاحظ أن المبالغة في دور المثقف، غالبا ما تجعل من الأخير «ضحية»، بفعل تصنيفه في خانة «الغائب» حينا، وفي خانة «الخائن» حينا آخر. ما من شك في أن التاريخ الثقافي، بما يحفل به من سِيَر لمثقفين «استثنائيين»، يزيد الموضوع اتساعا، من حيث المبالغة في تحديد دور المثقف: حجمه وطبيعته. في مثل هذا السياق، لا يندر أن نجد سؤال المثقف يطرح نفسه بصيغة أخرى. هكذا، يتحوّل الاستفهام إلى استنكار، خصوصا بالنظر إلى السياقات التي يتمّ فيها الاستدعاء. ويبلغ الأمر شأوا بعيدا في الاستنكار، حين نجد من يُدين المثقف، مُحمِّلا إياه مسؤولية ما يجري، سلبا، على صعيد الواقع.
والحال مثلما سلف، طبيعيٌّ أن يَغَلُب النظر إلى المثقف، باعتباره «منقذا» للمجتمع مما «يغرق» فيه من أزمات، نتيجة سوء سياسة الحاكم أو شططه واستبداده. المثقف يكتسب، من هذه الناحية، صورة مُثلى، بحكم الانتظارات المعقودة عليه. حتى وهو يتخلَّف عن أداء أدواره كاملة أو بعض منها، إنَّما النقد يتوجّه إليه من منطلق الحاجة إليه. لذلك، ليس غريبا أن تتمّ استعادة سؤال المثقف، كلما جدّت أزمة من طبيعة سياسية أو اجتماعية. ومن المؤكد أن في مغرب العقدين الأخيرين أمثلة عديدة، استلزمت طرحَها سياقاتٌ راهنة، من قبيل التطرف الديني، التعصب اللغوي، الريع الاقتصادي والثقافيّ.
وبحكم امتلاك «الحاكِم» السلطة المادية/ التنفيذية، فإن المثقف لا يمتلك، بالمقابل، إلا جرأة الجهر بالرأي. هكذا، ترتسم حدود التقابل بين فاعليتين: فاعلية المثقف وفاعلية الحاكِم/ السياسي. وقد عُهِد أن لا يُستبان، في كثير من الكتابات، وجه المثقف إلا بمقابلته مع وجه الحاكم/ السياسي. وهنا، يدخل التقابل بوصفه آلية مُميِّزة للمثقف، من حيث طبيعة دوره وحدود فِعْله. وقد كان من نتائج استعادة هذه المقابلة، أن تمّ توجيه النقاش حول المثقف، مغربيا، ضمن سياق « علاقة الثقافي بالسياسيّ». ويحسن التنبيه، بهذا الصدد، إلى أن ما يعتري مفهوم المثقف من التباس، إنما يأتي من مُماهاته مع الحاكم/ السياسيّ في نوعيّة الدور والوظيفة.
لم يكن للمثقف، في مختلف سياقات التاريخ، إلا رأيه، يجهر به بكل نزاهة وموضوعية. تلك كانت سيرة كبار المثقفين في الشرق والغرب. ضمن هذا الإطار، ظل المثقف (الأصيل) يُحدِّد لنفسه «هوية»، من صميم مجال اشتغاله العلمي- الأكاديمي، بما يهجس به من أمانة علمية وعقلانية نقدية.
هكذا، ترتسم أمام أعيننا صورة المثقف في أمثل صوره. والجدير بالذكر أن تركيبة هذه الصورة، لا تخرج عن إطار معاني الاستقلالية النقدية، والموضوعية العقلانية، والنزاهة الأخلاقية. من المؤكد أن انتصار الروح الثقافية، في سياق المعاني المذكورة، ستكون دليلا إلى انتصار المثقف/ السياسي، أي المثقف المشتغل بالسياسة بالمعنى الإيجابي للكلمة. غير أن ندرة وجود هذه الروح، لم تعد تتكشّف، في العقدين الأخيرين، إلا عن سيادة نوع من المثقفين «السياسويين»، الذين يستثمرون «متاعهم» الثقافي لخدمة «السياسي» فيهم، المُتطلِّع بشغف إلى السلطة/ الحُكم. وأعتقد أن من هنا، جرى كثير من النقاش حول تبعية «الثقافي» لـ «السياسي».
في ظل غياب ما سميناه الروح الثقافية، الكفيلة بإنتاج مثقفين أصلاء، حتى وهم يمارسون السياسة، فإن المجتمع المغربي/ العربي لم يتمخَّض ، في أغلب حالاته، إلاّ عن نمط من المثقفين «السياسويين». وبالموازاة مع النمط الأخير، يمكن للمُهتمّ ملاحظة انبثاق نمط آخر من المثقفين، يمكن تسميتهم «مثقفي الخدمة». يتميز النمط الأخير بكون معظم أطره ذوي خلفية براغماتية، يشتغلون لـ»حساب» المثقف السياسوي أحيانا، أو لـ»حسابهم» الشخصي، في إطار «نشاطهم» ببعض مراكز الأبحاث الوطنية، والهيآت المدنية الدولية.
وبالنظر إلى ما يعتري المغرب المعاصر من إبدالات، في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية، سنجد أن التقابل الإيجابي بين المثقف السياسي (المنحدر من الحركة الوطنية) والمثقف التكنوقراطي (المنحدر من الحماية/ المخزن) سيعرف كثيرا من التراخي. ذلك أن من رحم المثقف الأول، سيظهر المثقف «السياسوي» المتطلع إلى السلطة (بأي ثمن!). وبحكم ما أخذت تشهده الأحزاب «الوطنية» من ضمور، بعد تنصيب ما يسمى حكومة التناوب، سيجد المثقف الأخير «ضالته» لاعتلاء سطح المشهد السياسي. هذا المثقف السياسوي، إما أنه كان «مُهمَّشا» من قِبَل المثقف السياسي، وإما أنه جاء طارئا على العمل السياسي في مرحلة لاحقة (مرحلة الضمور).
إن الانفضاض من حول الأحزاب الوطنية، سيمنح المثقف السياسوي «الفرصة» ، لكي يتسيَّد المشهد الثقافي والسياسي (الحزبي والحكومي). هذا، في حين سيعوض المثقف التكنوقراطي (ذا النفس الليبرالي) مثقف آخر: «مثقف الخدمة». والغريب أن غير قليل من مثقفي النمط الأول (المثقف بالمضمون السياسي)، نتيجة للإبدالات الطارئة في المجتمع والحزب، سيلتحقون بمثقفي الخدمة. وعلى الرغم من احتفاظ العديد منهم بالمضمون السياسي، إلا أن الأخيرين سينزحون نحو تدبير العمل الثقافي بـ»عقلية» مختلفة، يحكمها الهاجس البراغماتي. وفي محاولة تحديد مظاهر هذا البعد، يمكن الاكتفاء بتسجيل العناصر التالية:
– الانفصال عن الدينامية الثقافية/ السياسية، التي كانت تحكمها سيرورة نضالية ممتدة في التاريخ. ضمور الأحزاب الوطنية، بفعل الصراعات والاختيارات غير الموفقة، سيجعل العديد من المثقفين معزولين عن أطرهم السابقة (في الحزب والنقابة والجمعية).
– العمل الثقافي بـ»التجزيء»، في صورة أنشطة «موضوعاتية»، يتفوق فيها الشكل على حساب المضمون. وعلى الرغم من أن مختلف تلك الأنشطة، ذات علاقة بمضامين التربية على المواطنة والديمقراطية والتنمية (تعليم الفتاة، حماية المال العامّ، المحافظة على البيئة، إلخ)، إلا أنها تظل محدودة من حيث التأثير: في الزمن والمكان والفئات المستهدفة. غلبة الشكل على المضمون، في سياق عنصر الانفصال المذكور آنفا، أكثر ما يتجلى في تعبئة شروط الحصول على منح الدعم المادي الوطني والدولي؛
– الارتهان إلى الجهات المانحة، التي لا يخفى على أحد أجنداتها في المنطقة. والملاحظ أن الكثيرين من مثقفي هذا النمط، سرعان ما يجدون أنفسهم تحت طائلة إكراهين: فقدان الدعم المالي من جهة، ومراقبة الدولة المتربصة (في حال تحريك المتابعات القضائية ضد الخصوم المناوئين)؛
– غياب الحس الديمقراطي في تدبير الأطر الجمعوية، التي ينشط فيها هذا النمط من المثقفين. فبحكم أن منشأ هذه الأطر خاص (شخصي)، فإن الأخذ بسبل التداول على مسؤولية التدبير تظل محدودة. ونتيجة لذلك، ليس لأحد أن يستغرب من أن يجد «مكتب» الجمعية مؤلفا من أعضاء معدودين (في عائلة واحدة أو قريبا منها في الجوار).
هكذا، يبدو المشهد الثقافي في مغرب ما بعد حكومة التناوب. وبالنتيجة، لا نكاد نلمس للمثقف السياسي والمثقف التكنوقراطي حضورا. تلك التقاطبية الإيجابية، التي اشترطت وجودهما (الحركة الوطنية في مقابل الدولة المخزنية)، اندثرت بفعل نشوء متغيرات عديدة. وأمام هذا الوضع الجديد، نستطيع تفسير هيمنة مثقفي الخدمة (الشّنّاقة). لتجلية صورة هذا النمط من المثقفين، يمكن العودة إلى «اتحاد كُتّاب المغرب»، في محاولة لاستجلاء بعض الأدوار، التي غدا بعض مثقفيه «يلعبونها» اليوم (بالمعنى الحرفي وليس المجازي).