بصوت مرتفع..النظارة السوداء لن تصمد أمام حراك الريف

محمد امباركي

أكيد أن للنظارة السوداء فائدتها الصحية من حيث إن غرضها الأساسي هو الوقاية من الشمس والغبار، وقد يكون ارتداؤها يستجيب أيضا لضرورة طبية، لكن لما يرتديها المسؤولون ورجالات الدولة خاصة في الدول غير الديمقراطية تتحول هذه النظارة الى رمز سياسي يحول دون رؤية الواقع على حقيقته من جهة، ومن جهة ثانية يجعل الدولة لا ترى في هذا الواقع إلا جانبه السوداوي الكئيب فيثير غضبها الشديد ويستنفر فيها الحاجة الى العنف. وفي كلتا الحالتين تصبح النظارة السوداء لما ترتديها الدولة حاجزا بينها وبين الواقع والناس.
نعتقد أن التوصيف أعلاه ينطبق على تعاطي النظام السياسي مع حراك الريف…كيف ذلك؟

إن التأخر الحاصل في التفاعل مع مطالب الحراك حيث ظلت الدولة ونخبها السياسية لأزيد من سبعة أشهر على انطلاق الانتفاضة مشغولة بتجاذباتها الفارغة التي يتم تصريفها بخطاب سياسي بئيس في سياق ما اصطلح عليه يومها ب ” البلوكاج الحكومي “، انعكس سلبا على الاستفاقة المتأخرة للدولة التي لما فطنت الى ضرورة التدخل بطريقة لم تخرج عن الهاجس الأمني الصرف، حتى أن النظارة السوداء حالت دون قيام المسؤولين بقراءة واعية لمطالب حراك الريف واستيعاب موضوعي وجدي للوثيقة المطلبية التي شكلت إحدى أقوى أسس الحراك ومصادر شرعيته، بمعنى أنها وثيقة مستمدة منهجيا ومطلبيا من الواقع المعيش للساكنة على المستويات الحقوقية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، فبقدر ما عكست الوثيقة تشخيصا مكثفا لتجليات التهميش والإقصاء في سياق تاريخي مليء بجراحات تسبب فيها عقاب المخزن وظلت محفورة في الذاكرة الجماعية والفردية للساكنة، بقدر ما عكست في الوقت نفسه نهج الدولة لخيار اللاعقاب إزاء مافيا الفساد والريع وتعطيل جزء كبير من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة الخاصة بجبر الضرر الجماعي عن سنوات القمع السياسي بمختلف أساليبه وتلاوينه، بل إن خطاب المصالحة مع الريف تم تدشينه بمداخل مشوهة لم تقدر النظارة السوداء للدولة على حجبها من خلال محاولة إدماجه في بنية حزبية تستمد أسباب وجودها وبقائها من السلطوية و الريع، وهي بنية قادتها بعض النخب ذات ماض سياسي ” ممانع ” اعتقدت واهمة بالإمكان التاريخي لدمقرطة ” المخزن ” وتحديث ” الأعيان ” فانتهى بها الأمر الى إعادة إنتاج مدافعين جدد عن المخزن من خلال توليفة غير علمية وغير تاريخية بين التقليد والحداثة. وهكذا أصبحت هذه البنية الحزبية عاجزة عن الحياة خارج تحالف السلطة والمال والجاه.

إن المتأمل بالدقة والوضوح اللازمين في الوثيقة المطلبية لحراك الريف سيستنتج بناءها المحكم من خلال تشخيص حجم استفادة المنطقة من الثروة الوطنية عبر ربط المحلي بالوطني خاصة ما يتعلق بعائدات عمال الريف المقيمين بالخارج ومصير الثروة المائية، وكذلك احتواء الوثيقة على مطالب واقعية وغير تعجيزية تستبعد أي تأويل تعسفي للسقف السياسي للحراك، بل اللافت للانتباه هو منطق الأولويات والنفس الاقتراحي البناء اللذان ميزا الوثيقة المطلبية من بدايتها الى نهايتها حيث ظلت في كل مرة وحين تسطر على بعض المطالب بكونها مطالب مستعجلة وملحة كإلغاء ظهير العسكرة، بناء مؤسسة جامعية، تأهيل المستشفى الإقليمي طبيا وبشريا مع تسييد حكامة التدبير، وبناء مستشفى خاص بالسرطان، وتعميم المستوصفات والخدمات الطبية، وتوفير شبكات تطهير الواد الحار وتعميمها، مطالب خاصة بتطوير قطاع الصيد البحري وحماية البيئة والثروة السمكية للمنطقة من لوبيات الريع والفساد وكذلك القطاعات المتعلقة بالفلاحة والضريبة والقطاع البنكي ومراقبة الأسعار خاصة ما يرتبط بتخفيض تسعيرة الماء والكهرباء ومراقبة أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية….إلخ
ومن الأكيد أن كل المطالب الواردة في وثيقة حراك الريف تكتسي ملحاحية بالنظر إلى حجم الخصاص والتهميش وسوء التدبير الاقتصادي والسياسي الذي طال العديد من الملفات والمشاريع الخاصة بتنمية المنطقة. وكان من الممكن أن تشكل بعض المطالب ذات الطابع الاستعجالي أرضية حقيقية لحوار مسؤول وجدي يشكل فرصة حقيقية لضخ منسوب الثقة بين الساكنة والدولة، غير أنه مرة أخرى تحول النظارة السوداء للدولة دون الرؤية الواضحة لتراتبية المطالب التي تشكل في حد ذاتها حافزا على تلبيتها من خلال جدولة دقيقة في الزمان والمكان والمسؤولية ، وبالتالي لجوء الدولة – خوفا من توسع الحراك مجاليا في الريف و خارج الريف – الى عنف متعدد الأشكال يتراوح بين منطقين: منطق العنف الرمزي القائم على بعض الوساطات المأزومة والفاقدة للمصداقية وأساليب التضليل والتشويه وإلصاق تهم الانفصال بنشطاء الحراك ( بلاغ الأغلبية الحكومية ) والذهاب بعيدا في استثمار واقعة المسجد خلال خطبة الجمعة، كمحاولة لنقل الصراع من حقله الاجتماعي الحقيقي الى حقل عقائدي تعي الدولة جيدا أنها تملك من الترسانة الأيدولوجية ما يكفي لربح هذا النزال مؤقتا، وبالتالي تأليب الرأي العام و تعبئته ضد الحراك، ومنطق العنف الخالص عبر الملاحقات والاعتقالات والترهيب وتسخير ضحايا التفقير والتهميش في أعمال بلطجية دنيئة ضد الحراك ونشطائه رغم أن دروس التاريخ تعلمنا أن التعبئة المجتمعية لن تتحقق في ظل عدم حماية كرامة المجتمع نفسه، وبالتالي فتأكيد الأحكام الصادرة عن غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء يوم الجمعة 5 أبريل 2019 وتوزيع أحكام قاسية وانتقامية في حق معتقلي حراك الريف هو بشكل من الإشكال إصرار ممنهج على التشبث بالنظارة السوداء وبالتالي فقدان البصر والبصيرة.

إن الإصرار على ارتداء النظارة السوداء وعدم نزعها خوفا من التوسع المجالي والسياسي للحراك رغم ارتفاع الواقع وتحولات اللحظة الاجتماعية والسياسية، لن يزيد الوضع إلا احتقانا على اعتبار أن الانتصار للخيار القمعي الصرف لن يعود ببلادنا ليس فقط الى زمن ما قبل 20 فبراير، بل الى زمن ما قبل 2004 حقوقيا، أي ما قبل تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة، مما سيساهم في تبديد بعض التراكمات الإيجابية رغم هشاشتها ويضع العديد من الخطابات والاطروحات والمشاريع موضع شك مجتمعي يكون المستفيد الأكبر منه هو القوى المعادية للديمقراطية والتقدم والحداثة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى