السياسة التعليمية بالمغرب: انحطاط السياسة وتخلف التعليم.
ذ. محمد تيكونسى
ماهي خصائص السياسة الحكومية، أو سياسة الدولة في مجال التعليم؟ …
إن هذا السؤال يفترض أن هناك عناوين لهذه السياسة يمكن أن نلمسها في التصريحات الحكومية، والوثائق والبرامج السياسية للأحزاب المشكلة لها، غير أن وجودها أو عدمه لا يعني أنه ليست هناك سياسة تعليمية محددة وموجهة يجري تنفيذها بدون كلل، وبالدقة المطلوبة، وحسب إيقاعات وتمرحلات تفرضها الظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن عدم الإعلان عن النوايا الحقيقية والتوجهات الفعلية للسياسة التعليمية ببلد ما خاصة إذاكان غير ديمقراطي، لا يعني غيابها بل إن هذه السياسة قد تكون غير معلنة نظرا لطبيعتها غير الشعبية، او أحيانا يتم الإعلان عن توجهاتها بشكل تمويهي يخفي مراميها وأهدافها الحقيقية.
يحدَّد النظام التربوي باعتباره نظاما كبيرا (macro système) للعلاقات والقيم التي ينبغي تأسيسها واستنباتها، أو المحافظة عليها وتأبيدها. ويتميز بتفاعل عدد كبير من الأنظمة الصغيرة (microsystèmes)المترابطة والمتناسقة بأشكال مختلفة من التفاعل حسب البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع. يشكل النظام التعليمي، واحدا من هذه الأنظمة الصغرى داخل النظام التربوي. إن قيمة السلطة هي ما يجعل النظام التربوي تابعا للسلطة السياسية، من خلال سلطة القانون وسلطة التنظيم وسلطة الاعلام ومجموع القيم الدينية والاجتماعية المروجة في الفضاءات الخاصة بالتنشئة. هذه التبعية الشاملة على المستوى السياسي والايديولوجي تسمح بفهم خصائص السياسة التعليمية التي يجري تنفيذها أو تحضيرها من داخل أنساق الممارسة السياسية للطبقة الحاكمة، وليس من داخل الممارسة التعليمية بصفة حصرية.
ماهي مساهمة النظام التعليمي، في تنفيذ السياسات العمومية في مجال التربية؟
لقد أخذت المدرسة العمومية، منذ نشأتها خاصة في أوروبا، على عاتقها النهوض بالفرد وبالمجتمع على كافة المستويات، من جهة كتجسيد لفلسفة الأنوار، والإيمان بالإنسان كقيمة عليا، وهو ما فرض عليها القيام بأدوارها في التربية والتثقيف والتنوير)، ومن جهة أخرى، نهضت بتلك الوظيفة الاجتماعية القيمية ، كما أن الحاجة المتزايدة إلى يد عاملة مدربة دفع النظام الرأسمالي إلى الدفاع بدوره عن المدرسة نظرا لحاجته إلى المزيد من أصحاب الياقات البيضاء بتعبير روزا لوكسمبورغ. وهذا ماتم تسميته بالوظيفة الاقتصادية للمدرسة والذي صار يسمى بالوظيفة التنموية تحت تأثير توصيات البنك الدولي وحاجة الشعوب المستقلة بعد الحرب العالمية الثانية إلى إعادة بناء دولها.
بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، صارت الطريق معبدة أمام منظري الليبرالية والليبرالية الجديدة، للتنظير للسياسة التربوية بما يحقق أهداف الرأسمالية، وتأبيدها كخيار وحيد أمام البشرية، وتوظيفها أيديولوجيا بما يخدم هذه الغاية، بل وتكريس الاصطفاء كخيار “طبيعي” بما يلائم حاجاته ليس فقط على المستوى الوطني، بل وتحديد خريطة اليد العاملة عبر العالم وتحديد المستويات التعلمية والتثقيفية التي يجب أن ينالها المتعلمون( المناهج الدولية للرياضيات والعلوم، تحديد الكفايات المفاتيح في أوروبا…الخ).
في المغرب حاول النظام القائم بعد الاستقلال، إيجاد حل للصراع حول المدرسة، خاصة بين الاتجاه المحافظ والتقليدي الذي يمثله القصر والزوايا، والاتجاه التقدمي داخل الحركة الوطنية، أي بين مدرسة تنويرية تهدف إلى بناء المغرب الجديد، وتوجه آخر يحاول تحقيق الحدود الدنيا من التنمية والحفاظ على منطق الرعية الجاهلة التي يُتحكم فيها بأساليب الردع.
بالنسبة للنظام ،المفارقة هي كالتالي: كيف يمكن تدجين المدرسة، أي حل التناقض بين البنية السياسية المخزنية التقليدية والعتيقة، وبين الطابع التنويري للمدرسة، لكنه تناقض ينبغي حله ليس في اتجاه تطوير البنية السياسية وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ولكن في اتجاه إلغاء الطابع التنويري للمدرسة، وتحييد تأثيرها، وجعل مخرجاتها تتلاءم مع هذه البنية، بعبارة أخرى: كيف يمكن الحفاظ على حد أدنى فقط من التعليم ( المحافظة على نسب مرتفعة من الأمية لتحقيق التوازن) وعلى أدنى مستوى ممكن من التنوير والتثقيف ( لذلك نجد نسب هامة من الموظفين ذوي تعليم متوسط دون أي تكوين أوتثقيف خلال المسار المهني)، وتكريس مستويات قياسية من الاصطفاء بين السنوات والأسلاك ( ارتفاع نسب الهدر، والعودة للأمية.
من جهة أخرى، ينبغي حسم الصراع حول التعليم لصالح القصر، بكل الوسائل منذ مناظرة المعمورة الشهيرة، وصولا للرؤية الاستراتيجية للتعليم 2015-2030 التي تحدد معالم السياسة التعليمية في مستوى فوق البرامج والتصورات السياسية للأحزاب المشكلة للحكومة ولا تلك المعارضة حيث تبقى نافذة رغم تغير الحكومات. ومن جهة ثالثة تكريس تعليم غير نقدي وغير ذي فعالية لتحييد مخرجاته عن التناقض بين البنية السياسية التقليدية وبين متطلبات التنمية الحقيقية.
يعتبر الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وثيقة مرجعية حصل عليها نوع من التوافق بين القصر والأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، بعد تعيين الملك للجنة الخاصة للتعليم برئاسة مزيان بلفقيه، وأعضاء من مختلف التوجهات والتخصصات، كما صارت مرجعا ثابتا لكافة الإصلاحات التي جرت وتجري منذ ذلك التاريخ. لكن ما ينبغي التذكير به هنا هو أن رسالة تكليف اللجنة تضمنت البحث عن حلول لثلاث إشكاليات:
- إشكالية التمويل: أي من سيتحمل مسؤولية تمويل التعليم في المغرب؟ هل الدولة أم القطاع الخاص أم الأسر؟
- إشكالية اللغة: اختار المغرب منذ الاستقلال اللغة الفرنسية كخيار أول في اللغات الأجنبية، وقد ترتب عن صعود الإنجليزية، كلغة علم ومعرفة، محاصرة الفرنكوفونية. من جهة أخرى يعاني النظام التعليمي المغربي من اختلالات نتيجة الازدواج اللغوي بين التعليم المدرسي والتعليم الجامعي، كما أنه لم يحسم في اختيار اللغات المدرسة ولغات التدريس.
- إشكالية التشغيل: أنتج النظام التعليمي رغم خاصية الاصطفاء القوية، خريجين جامعيين يعجز المغرب عن الاستفادة منهم، نظرا للفروق الواضحة بين حاجيات المجتمع والمتوفر من الأطر والخريجين، إضافة إلى تفاقم أزمة المعطلين خريجي الجامعات.
عندما انتهت اللجنة، غابت هذه الإجابات المطلوبة، سواء لغياب التوافق بينها، أو لأن الإجابات الوحيدة الممكنة لم ترض عنها “الجهات العليا”، وهكذا غاص الميثاق في التفاصيل التي لا تشكل جوهر السياسة التعليمية، وخاض في التنظيم المدرسي والبيداغوجي، الذي يشكل جزءا من مهام الجهاز التنفيذي.
إن الاستشارات الواسعة ودراسة الأنظمة التربوية المختلفة (عبر زيارات متعددة) انتهى فقط إلى تبني مشروع يجري التحضير له في أوروبا (توحيد الأنظمة التربوية بالاتحاد الأوروبي على شاكلة السوق المشتركة ونظام شينغن والعملة الموحدة).
وقد تضمن الميثاق عددا من الغايات الكبرى التي يعتريها الكثير من الغموض والجمع بين غايات متناقضة، تحت ذريعة خلق التوافق بين أعضائها، لكنها لم تحسم الجدل بين المدرسة الحداثية والتقليدية. ما تم حسمه في الواقع هو تضمين التصور الليبرالي للتعليم القائم على:
- تحديد فترة للتعليم الالزامي في حدود 15 سنة ( السنة الثالثة إعدادي) مع ما يتلاءم مع حاجيات السوق خاصة الحاجة إلى اليد العاملة الأقل تأهيلا، مع استمرار أدوات الفرز والاصطفاء في المدرسة العمومية بما يضمن أن أقل من 40 في المئة كمردودية بين السنة 1 والسنة الثالثة إعدادي.
- إقرار مبدأ التجسير إي خلق جسور وممرات بين التعليم المدرسي والتكوين المهني ابتداء من نهاية السنة السادسة من التعليم الابتدائي.
- إقرار مبدأ التلاؤم: وهو قدرة المؤسسة على ملاءمة التكوين البيداغوجي لرغبات وتغيرات سوق الشغل، وتعديل نظام التدريس والتقويم ونظام الشعب المتحركة بالجامعة، حسب اتجاهات التمويل.
- التأكيد على عدم مسؤولية الدولة الكاملة على القطاع من خلال صيغ ملتوية بمافيها تحميل الأسرة إلى جانب الدولة مسؤولية التعليم الإلزامي، وتردد كبير لمفردة القطاع الخاص، وكذلك مراجعة نظام التوظيف بالتعليم من خلال الحديث عن التوظيف بالتعاقد (م135).
- تكريس صريح لمبدأ الاصطفاء من خلال نظام التقويم، وغياب تدابير للقضاء على التكرار والهدر المدرسي من جهة وتكريس مبادئ التميز والاستحقاق من جهة ثانية.
إن الميثاق الوطني للتربية والتكوين وهو يستلهم جل أدبياته ومفاهيمه من المشروع الأوروبي المذكور أعلاه، عاش حالة من التخبط وعسر التنفيذ خاصة بعد قمة لشبونة 2004 حيث سيتم إلغاء المشروع بسبب صعوبة إقراره وبسبب اختلاف التقاليد التعليمية في البلدان الأوروبية خاصة بين ألمانيا وفرنسا، وهكذا سيختفي مفهوم الكفايات المستعرضة او العرضانية، وحتى بعد إقرار الكفايات المفاتيح في أوروبا، فإن المغرب سينتظر لغاية 2008 حيث سيصدر تقرير المجلس الأعلى للتعليم، والذي توقف عند حالة التعليم الحالية والمشاكل التي يتخبط فيها، واقترح برنامجا استعجاليا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الميثاق. خلاصات:
الخلاصة الأولى: إن ملامح الوجه الليبرالي في السياسة التعليمية، ليست فقط وليدة اليوم، أو ما يجري التنصيص عليه في القانون الإطار، بل هي قديمة، ويكفي قراءة الميثاق لوحده للوقوف على الخلفيات والمرجعيات التي تعتمدها الإجراءات الجارية حاليا، بما في ذلك التوظيف بالتعاقد. والدولة سائرة في طريق رفع يدها عن التعليم، وتفويض أجزاء منه للقطاع الخاص، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر وكذلك عن طريق فرض مساهمة الأسر في تعليم أبنائها سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عبرالساعات الإضافية، أو فرض التعليم الخصوصي فرضا.
الخلاصة الثانية: الفاعل المركزي الوحيد في السياسة التعليمية هو الطبقة الحاكمة، بعد إقصاء التعليم من دائرة التداول السياسي، وهو أمر ستكون له تداعيات سلبية على المدى المنظور، فالتعليم يجب أن يكون ويظل في صدارة اهتمام الأحزاب السياسية لأن من شأن ذلك تحقيق نوع من التوازن في هذه السياسات واستحضار المطامح الشعبية في تعليم شعبي وديمقراطي، من أجل إعادة الاعتبار لوظائف المدرسة التثقيفية والتنويرية…