طريق التنوير – المتن الرُّشدي بين الأيديولوجيا والمعرفة

ذ. رشيد العلوي

تباينت الأطروحات حول سُبل التعامل مع التراث، والتي يمكن إجمالها في ثلاث:

  • ضرورة النَّبش في الاتجاهات العقلانيَّة في التراث وإعادة إحيائِها لوصل (ما انقطع) الماضي بالحاضر ويسمى هذا الاتجاه بالتيَّار العقلانِي في التعامل مع التراث،
  • الارتباط بالتراث فيما يُشبِه سلفيَّةً لصِيقةً بالنَّص ولا تخرُج عنه إن لم تكن هي التي خرَّبتُه وقدَّمتُه كما شاءت وفق أهدافِها الأيديولوجيَّة وهو ما ساهم في انتشار تيَّار السلفيَّة الدِّينيَّة في مجتمعاتِنا، ويسمى بالتيار السلفي (التراثيُّون).
  • التنكر للتُراث وربطه بأطروحة صراع الطبقات، ويدعو هذا التوجُّه الماركسي – اللِّينيني خاصة مع مهدي عامل إلى تقسيم التراث إلى تراث برجوازي في مقابل آخر بروليتاري، دون أن يبرر كيف يمكننا إعادة قراءة التراث وفق هذا المنظور أو النبش في الاتجاهات البروليتارية فيه (كانت هذه أطروحة مهدي عامل في كتابه: أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟ مع ربطه لمسألة التخلف بتوظيف الدين لخدمة أهداف الطبقات المسيطرة، وما يعنيه ذلك من أن “الحاضر هو الذي يملك مفتاح الماضي وليس العكس. ليس الماضي في بقائه بالحاضر سبب التخلف بل الحاضر هو سبب بقاء الماضي فيه” على حد تعبيره، وسنعود مستقبلا إلى مراجعة هذا النوع من القراءة الاختزالية.

إن القول بوجود نزعات ماديَّة في التراث العربي الإسلامي كما فعل حسين مروة أو وجود تراث بروليتاري في تاريخ هذه الشعوب كما فعل مهدي عامل يستوجب إعادة النظر، لأنها رؤية محكومة بنظر ميكانيكي ورؤيَّة جامِدة للجدل المادِّي التاريخي، وقد استغرق البحث عن أنماط الإنتاج السائدة في مجتمعاتِنا زمناً طويلاً لم يتم بعد الحسم فيه إن لم نقل أن اليسار لم ينتج إلى اليوم أطروحة واضِحة في التعامل مع تبيِّئة الماركسيَّة وظلَّت جل الأطروحات السَّائِدة اسقاطات مفاهيميَّة على واقِعٍ حيّ ومتعثر عن سيرورة التطور العالميَّة، مما يستدعي قراءة جديدة لكيفية قراءة هذا الواقِع من منظورٍ ماركسِي غير عقدي أو دوغمائي، يأخذ بعين الاعتبار ديناميَّة الماركسيَّة نفسها بدل اختزالِها في مجرد قواعِد وقوالب صالِحة لكل زمان ومكان.

يدعو البعض من المهتمين بإرث ابن رشد إلى إعلان نهاية الفكر الرشدي، بدعوى أن القرن العشرين كان قرن الاهتمام به بامتياز، ولا يخفي البعض إعلانه أن ابن رشد قد تم تجاوزه لأنه لم يفلح في تغيِّير عصره، بحيث بقيت الأمَّة الإسلاميَّة حبِيسة الغزالي وابن تيمية لهذا نتساءل: هل النَّاس مقتنعون بفكر ابن تيمية والغزالي أم إن هناك يدٌ للسُّلطة السيَّاسيَّة في شُيوع مذهبِهم دون المذهب العقلاني – الرشدي؟

تتابعون جميعاً ما تقوم به سلُطات الوصاية على الإسلام وتمويله الفاضح لعقيدة ابن تيمية والغزالي وايديولوجيا السَّلفيَّة الوهابيَّة التي غزت مجتمعاتِنا بتمويل البترو – دولار: فأين اختيَّارات النَّاس في كل هذا أمام سُلطة التَّجهِيل لإبقاء الوضع على ما هو عليه؟ لقد تماهتِ السُّلطة السيَّاسيَّة في السُّلطة الدِّينيَّة لأنها تمنحُ لها شرعيَّة الوجود والحكم باسم الدِّين ورفع رايتِه عاليّاً في وجه الحداثيِّين وحاملي مشروع التنوير.

كان للمدرسة الرشديَّة في المغرب مع محمد عابد الجابري وجمال الدين العلوي ومحمد المصباحي فضلُ كبير في إعادة الاعتبار للمتن الرُّشدِي في جامعاتِنا وفي رسم مسَار الدراسات الرُّشديَّة وفق تأويل أيديولوجي عقلانِي دون إغفال التوظيف المعرفي له، بحيث انصرف اهتمام جمال الدين العلوي إلى مجال الببليوغرافيا (في كتابه الشهير “المتن الرشدي”) والتي كلفتُه الكثير في سبيل إخراج ذلك المتن من رفوف المكتبات الأوروبيَّة، ليُرشد الباحِثين بعد ذلك إلى ما يتوجب فعله اتجاه هذا المفكر العملاق، وقد صنف أثر ابن رشد تصنيفاً علميّاً استحسنه مختلف الرشديِّين بعده، مستحضراً البعد التاريخي والسيَّاسي والذَّاتيِ، وأنار فيه الأضواء عن عناصر مُظلِمة من حياته، من منطلق أن ابن رشد حمل همّاُ معرفيّاً وسيَّاسيّاً واضِحاً حيث يقول: “إن هناك وحدة تنتظم فيها جميع مؤلفات ابن رشد. وأن هذه الوحدة تعبير عن مشروع معرفي من جهة وعن مشروع مجتمعي ـ سياسي من جهة أخرى”، (مقال: “مدخل لقراءة الخطاب الفلسفي لابن رشد”، مجلة آفاق، العدد الثامن، ص 39.)، في حين انصرف اهتمام الجابري إلى تحقيق النُّصوص وكتابة سيرة ابن رشد مع وضع سياقٍ عام لمجموع تآليفه في الفلسفة والفقه والمنطق والطبيعيَّات والطِّب مما تيسَّر له إخراجُه إلى حيِّز الوجود. أما جهود محمد المصباحي فقد انكبت على إعادة شرح وتفسير شروحات وتفاسِير ابن رشد مركزاً تحديداً على الشرح الكبير “تفسير ما بعد الطبيعة” لبيان مكانة أطروحته حول العقل والوجود، مع محاورة نصوصه مع ابن عربي وتصوف زمن الموحدين.

كان لتلك القراءات في جامِعتنا المغربيَّة وقعٌ كبير في انصراف بعض الباحثين الشباب إلى تأسيس “جمعية الفلسفة الإسلاميَّة”، وذلك لربما لغرض صرف النَّظر عن التوظيف الإيديولوجي لمتن ابن رشد وأثره الفلسفي لصالح تأويل معرفي: فهل يمكن حقاً غضُّ النَّظر عن التأويل الإيديولوجي لصالح التأويل المعرفي؟ ما الفرق بين الأيديولوجيا في هذا الخطاب وبين المعرفة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى