الثقافة السائلة براديغم جديد لتفسير الوضع الثقافي في العالم المعاصر

محمد مستقيم كاتب وباحث من المغرب

يعد المفكر والسوسيولوجي البولندي “زيغمونت باومان” (1925-2017) من أهم المفكرين والسوسيولوجيين المعاصرين الذين أسهموا بأطروحاتهم النظرية في تحليل ظاهرة الحداثة كما نشأت في المجتمعات الغربية في العصور الحديثة وفحص القضايا التي أفرزتها على المستويات الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية . والجدير بالذكر أن باومان يصرح في جل كتاباته بأن أفكاره ومواقفه هي امتداد لأطروحات مدرسة فرانكفورت الألمانية التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي وعرف روادها عبر مختلف أجيالهم بنقد مظاهر الحداثة الناجمة عن تطور النظام الرأسمالي وتأثير ذلك على مستقبل البشرية. وقد ساهمت أفكاره وتحليلاته في إغناء النقاش الدائر حول تطور الحداثة وانتقالها إلى مرحلة ما بعد الحداثة. وفي هذا الإطار نحث باومان مفهومين جديدين لتوصيف هذه العلاقة، مطلقا مصطلح “الحداثة الصلبة” على الحركة الحديثة التي بدأت في عصر التنوير في القرن الثامن عشر بعد تجاوز العصور الوسطى والدخول في مرحلة جديدة تميزت بوضع أسس جديدة للمجتمع والدولة والفكر . أما مرحلة ما بعد الحداثة فقد سماها “الحداثة السائلة” لتفسير ما آلت إليه منجزات الحداثة خاصة بعد تطور النظام الرأسمالي وظهور العولمة وتفشي استغلال الإنسان للإنسان وتفاقم الحروب والصراعات الدولة والإقليمية والكوارث البيئية والطبيعية الناجمة عن الحضارة الصناعية. لقد ذابت صلابة الحداثة وتداخلت الحدود وأصبح كل شيء سائلا مائعا. تتجلى السيولة في المال الذي أصبح يعبر القارات والحدود بدون رقابة، كما تتجلى في سيولة البشر إثر تدفق الناس وهجرتهم لدول أخرى بحثا عن بدائل لأوطانهم، وسالت الهويات الفردية والجماعية بتغيرها السريع والمستمر، وسالت القيم الأخلاقية بسبب طغيان النزعة الاستهلاكية . إلى غير ذلك من مظاهر السيولة التي طالت جميع مناحي الحياة الإنسانية في عالمنا المعاصر وعلى كافة المستويات. في هذا الإطار ألف باومان سلسلة من الكتب تشترك عناوينها في حمل صفة السيولة وهي:

الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الحب السائل، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، الأزمنة السائلة، الخوف السائل، المراقبة السائلة، الشر السائل، الثقافة السائلة.

يرى زيغمونت باومان بأن الحداثة بدأت قوية وصلبة بوضع أسس جديدة للمجتمع والثقافة الغربيين، فقد تطور العلم وأفرز نوعا من التصور العقلاني للعالم بعيدا عن الأسطورة والغيبيات، ونجحت الحداثة في تأسيس قوانين تحقق كرامة الإنسان وتحفظ حقوقه بعيدا عن كل هيمنة وإكراه، كما نجحت في فصل الدين عن الدولة وإبعاد شبح الهيمنة اللاهوتية على المجتمع. بالإضافة إلى التطور الاقتصادي الذي ساهم إلى حد كبير في تحقيق رفاهية المواطن الأوربي وتحسين وسائل عيشه. لكن هذه الصلابة بدأت تضعف وتذوب إلى أن اصبحت شيئا سائلا مائعا يتحرك بسهولة ويسر ويخترق كل شيء شأن المعادن التي تذوب وتنصهر وتصبح مواد لزجة.

في إطار أجرأته لمفهوم السيولة في المجال الثقافي والفكري يعتبر باومان في كتابه “الثقافة السائلة” الثقافة لازالت تتميز بالحياة والاستمرارية الصحية، بل هي أكثر نشاطا وأكثر حماسة من أي وقت مضى، لكنها مشغولة بتتبع النجاحات الثقافية الكبيرة، الشيء الذي يعوق تخصيصها لوقت لازم لرسم طريقها الصحيح. وقد اعتمد تنظيره لهذا المفهوم على التراث النقدي لمدرسة فرانكفورت، خاصة كتابات تيودور أدورنو بأن التجربة التاريخية تعلمنا بأن ثمن البقاء هو تحويل الأفكار إلى أداة لبسط السيطرة والهيمنة .

لقد كانت الثقافة في الماضي عاملا أساسيا للتغيير وقيادة التطور الاجتماعي نحو عالم أفضل وترسانة للثورة الحديثة ووسيلة لقيادة التحولات الاجتماعية نحو وضع إنساني أفضل، وليس وسيلة للحفاظ على الوضع القائم، لكنها اليوم تحولت إلى عامل مسكن ومهدئ، بل إلى مستودع للبضائع الاستهلاكية وإنتاج المواد الحافظة، أي أداة للحافظ على الاستقرار والتوازن وهذا ما أدى إلى تعطيل حركتها وقتل حيويتها، وقد استشهد باومان بتحليلات العالم السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو الذي استطاع أن يسجل بدقة تلك المرحلة التي تحولت فيها الثقافة إلى حارسة للوضع القائم وخادمة للتكاثر الرتيب للمجتمع وحفظ توازن النظام، قبيل الفقدان الحتمي والسريع القادم لمكانتها.

ليس للثقافة السائلة “شعب” تسعى إلى تنويره والارتقاء به، بل لها زبائن تغريهم “فليست وظيفة الثقافة هي إشباع الحاجات القائمة، بل خلق حاجات جديدة، بينما تحافظ على الحاجات المترسخة بالفعل أو غير المتحققة على الدوام. فاهتمامها الرئيس هو منع إحساس بالرضا لدى الزبائن، لاسيما منع الإشباع الكامل التام النهائي الذي لا يترك مجالا لمزيد من الحاجات والنزوات الجديدة التي لم تتحقق بعد.”

أصبحت الثقافة معروضة في السوق الاستهلاكية وخاضعة لمنطق الموضة الذي يقلل من شأن الأشياء ويحط من قيمة القديم الذي ينبغي أن يترك مكانه للجديد، وأصبح السلوك الشخص حربائيا يسعى إلى إثبات قدرته على أن يكون شخصا جديدا، بل على تغيير هويته باستمرار كما يغير ملابسه وكل ذلك مقابل ثمن بسيط جدا امتثالا لتوصية الثقافة، كما أن الموضة أضحت تشكل كل أسلوب حياة في حالة من الثورة الدائمة اللانهائية، بل أكثر من ذلك أصبحت الموضة تتعهد بدور المشغل الرئيس في إعادة تشكيل التغير الدائم وتحويله إلى حالة طبيعية لطريقة الحياة البشرية، وفقا لما تتطلبه أهداف المؤسسات التي تخدم تشغيلها.

من جهة أخرى يرى باومان بأن مفهوم المثقف الملتزم بقضايا الإنسان هو مفهوم حديث، ظهر مع بداية القرن العشرين، وتميزت وظيفته في القيام تنوير عامة الناس وتحويلهم إلى مواطنين في دولة حديثة وفي ظل نظام اجتماعي جديد عادل مؤسس على ابنية صلبة يحكمها القانون والأخلاقيات العقلانية.، فالغاية كانت هي بناء إنسان جديد قادر على تحقيق قراته البشرية ومتحرر من قواعد وأغلال الجماعات التقليدية المنغلقة.

وقد ساهمت العولمة-حسب باومان– في تحطيم سيادة الدولة القومية واستقلالها الاستقلال الحدودي وهو الكيان الذي كان ملاذا للهوية القومية وضمانا لسلامتها على مدار مئتي عام مضت. فالعلاقة بين الدولة الحديثة والقومية علاقة جدلية، حيث كانت الدولة الحديثة في حاجة إلى الحماسة القومية لتضفي شرعية على سيادتها وتضمن الامتثال المدني، وكانت القومية بحاجة إلى دولة قوية لتضمن نجاح حملة توحيد أنماط الحياة. أما الوجه الليبرالي فقد تميز بالحرية وعدم إكراه الناس على الاعتقاد الديني خوفا من التكتل والانغلاق داخل بنيات تقليدية تجعلهم يبحثون عن ولاء واحد وهوية واحدة.

في مقابل هذا البعد الصلب نجد أن الحداثة السائلة تشجع من يأتي بتغيرات تقوم على نموذج سوق الأوراق المالية، وتسمح بتغييرات ثقافية بصورة مستمرة خضوعا لقوانين العرض والطلب التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها. وهذا ما يستغله المحتالون السياسيون وأنصار الثقافة السائلة حيث يتخلون تماما عن بناء نموذج للعدالة الاجتماعية باعتبارها الغاية الكبرى للطريق المرسوم.

يلاحظ باومان بأن الأعمال الفنية الثقافية في الحياة المعاصرة تتداخل و تتفاعل مع المتلقي بصورة أوثق من أي وقت مضى، وأن هذا التفاعل سينمو حتما نموا أقوى في المستقبل، لأن الأعمال الفنية المعاصرة غير قابلية للتحديد والتعريف بل وعدم الاكتمال حتى لحظة لقائها بالجمهور المتلقي، بل إن المعنى الحقيقي للفنون أنها تنبت وتولد وتنضج داخل ذلك اللقاء المتسم بالحوار متعدد الأطراف.

يقول باومان :” ولما كانت الوظيفة الحقيقية للدولة الرأسمالية في إدارة “مجتمع المنتجين” هي ضمان اللقاء المستمر المثمر بين رأس المال والعمال، وبينما كانت الوظيفة الحقيقية للدولة القائمة على مجتمع المستهلكين هي ضمان اللقاءات المتكررة الناجحة بين المنتجات الاستهلاكية والمستهلك، فإن اهتمام “الدولة الثقافية”، الدولة العاكفة على ترويج الفنون، يحتاج إلى التركيز على ضمان اللقاء المستمر بين الفنانين وجهورهم وخدمته. ففي ذلك اللقاء، تولد الفنون المعاصرة وتنمو وتتحقق. ومن أجل ذلك اللقاء لابد من تشجيع المبادرات الفنية والأداتية المحلية والشعبية ودعمها. فرعاية الإبداع الثقافي في حاجة ماسة إلى الدعم، مثل كثير من وظائف الدولة المعاصرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى