أمير تاج السر: علامة مضيئة في الرواية العربية المعاصرة

◆ ذ. سفيان البراق

درج‭ ‬المهتمّون‭ ‬بالشّأن‭ ‬الأدبي‭ ‬إلى‭ ‬الإعلاء‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬رواياتٍ‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬تصدّى‭ ‬لها‭ ‬نقّادٌ‭ ‬سواءٌ‭ ‬بخيرٍ‭ ‬أو‭ ‬بشرٍّ،‭ ‬أو‭ ‬نُقِلت‭ ‬إلى‭ ‬لغاتٍ‭ ‬عالمية‭ ‬فتنهال‭ ‬عليها‭ ‬عبارات‭ ‬التنويه‭ ‬والإشادة‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬حدبٍ‭ ‬وصوب،‭ ‬بيد‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬كُتّابا‭ ‬تسعدُ‭ ‬بهم‭ ‬الساحة‭ ‬الثّقافية‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬يتلقّوا‭ ‬الاهتمام‭ ‬المرجو‭. ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬إنّهم‭ ‬مغمورون،‭ ‬وذلك‭ ‬ممنوعٌ‭ ‬عليّ،‭ ‬والذي‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬ادعائي‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ترشُّح‭ ‬أعمالهم‭ ‬الرّوائية‭ ‬لجوائز‭ ‬تحظى‭ ‬بمكانة‭ ‬رفيعة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثّقافي‭ ‬العربي‭. ‬لقد‭ ‬أنجبت‭ ‬السودان‭ ‬أيقونةً‭ ‬أدبية‭ ‬قلّ‭ ‬نظيرها‭ ‬هو‭ ‬الرّوائي‭ ‬الكبير‭ ‬الطيّب‭ ‬الصالح‭ (‬1929‭ ‬–‭ ‬2009‭) ‬الّذي‭ ‬أمتع‭ ‬وأبهر‭ ‬القارئ‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬تحفته‭ ‬الخالدة‭ “‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشّمال‭” ‬نظراً‭ ‬للغة‭ ‬الرصينة‭ ‬الّتي‭ ‬كتبت‭ ‬به،‭ ‬وللوصف‭ ‬الدقيق‭ ‬للأماكن‭ ‬والشخصيات،‭ ‬كما‭ ‬أنّها‭ ‬جعلت‭ ‬صاحبها‭ ‬في‭ ‬مصاف‭ ‬الكُتّاب‭ ‬العالميين‭ ‬بعد‭ ‬الانتشار‭ ‬الواسع‭ ‬الذي‭ ‬تبعها،‭ ‬كما‭ ‬أنّها‭ ‬عالجت‭ ‬اغتراب‭ ‬الفرد‭ ‬العربي‭ (‬مصطفى‭ ‬سعيد‭) ‬وما‭ ‬قد‭ ‬يؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬الأفكار‭ ‬والرؤى‭ ‬والقيّم‭.‬

بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬ليس‭ ‬موضوعنا‭ ‬هو‭ ‬الطيّب‭ ‬صالح‭ ‬الّذي‭ ‬يعد‭ ‬جوهرةً‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وإرثه‭ ‬الأدبي‭ ‬يشهدُ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭. ‬لكنني‭ ‬بصدد‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬روائيٍّ‭ ‬سودانيٍّ‭ ‬ينحدرُ‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬الطيّب‭ ‬صالح،‭ ‬فهذا‭ ‬الأخير،‭ ‬خاله،‭ ‬وقد‭ ‬أشاد‭ ‬بكتاباته‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يافعاً‭. ‬أمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬هو‭ ‬روائيٌّ‭ ‬سوداني‭ ‬يكتبُ‭ ‬بشرهٍ‭ ‬كبير،‭ ‬إذ‭ ‬يطلّ‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سنتين‭ ‬أو‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬تقريباً‭ ‬بعملٍ‭ ‬روائي،‭ ‬وترشّحت‭ ‬بعض‭ ‬أعماله‭ ‬للائحة‭ ‬الطويلة‭ ‬والقصيرة‭ ‬للجائزة‭ ‬العالمية‭ ‬للرّواية‭ ‬العربية،‭ ‬ونال‭ ‬جائزة‭ ‬كتارا‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭ ‬سنة‭ ‬2015م‭. ‬

من‭ ‬أعماله‭ ‬الروائية‭ ‬رواية‭ ” ‬طقس‭ ” ‬الصادرة‭ ‬سنة‭ ‬2015م‭ ‬في‭ ‬طبعتها‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬مؤسسة‭ ‬قطر‭ ‬للنّشر‭. ‬رواية‭ ‬مميّزة‭ ‬سرداً‭ ‬ووصفاً،‭ ‬دأب‭ ‬فيها‭ ‬الكاتب،‭ ‬عن‭ ‬قصد،‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬الأحداث‭ ‬بسخرية،‭ ‬بالانتقال‭ ‬من‭ ‬حدثٍ‭ ‬لآخر‭ ‬دون‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭ ‬المملّة‭ ‬الّتي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تجعل‭ ‬القارئ‭ ‬ينفر‭ ‬مما‭ ‬يقرأ‭. ‬وما‭ ‬يميزها‭ ‬أيضاً‭ ‬هو‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬روايتين‭ ‬في‭ ‬روايةٍ‭ ‬واحدة،‭ ‬إذ‭ ‬يستحضر‭ ‬شخصية‭ ‬رئيسية‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬أمنيات‭ ‬الجوع،‭ ‬بيد‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬ستخرجُ‭ ‬من‭ ‬النّص‭ ‬للواقع‭ ‬لتُطاردهُ‭ ‬وسيُصابُ‭ ‬بسببها‭ ‬بالأرق‭. ‬تبدأ‭ ‬أحداث‭ ‬رواية‭ ” ‬طقس‭” ‬في‭ ‬حفل‭ ‬توقيع‭ ‬روايته‭ ‬أمنيات‭ ‬الجوع‭ ‬عندما‭ ‬سيحضر‭ ‬نيشان‭ ‬حمزة‭ ‬نيشان‭ ‬الحفل،‭ ‬وسيطلب‭ ‬منه‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬روايته‭ ‬وسيكتشفُ‭ ‬أنّه‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الشّخصية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرفها‭. ‬استخدم‭ ‬أمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬تقنية‭ ‬حديثة‭ ‬قلّما‭ ‬يُوظفها‭ ‬روائيٌّ‭ ‬في‭ ‬روايته،‭ ‬جعلته‭ ‬يتميّزُ،‭ ‬إلى‭ ‬حدٍّ‭ ‬ما،‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الروائيين،‭ ‬كما‭ ‬استطاع‭ ‬الانفلات‭ ‬من‭ ‬النّمطية‭ ‬التقليدية‭ ‬الّتي‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬الروايات‭ ‬المعاصرة‭ ‬الّتي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الألف‭ ‬إلى‭ ‬الياء،‭ ‬وقد‭ ‬اعتدنا‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬ولم‭ ‬نعد‭ ‬ننتبهُ‭ ‬لها‭. ‬قد‭ ‬يقول‭ ‬القارئ‭ ‬الّذي‭ ‬قرأ‭ ‬لأمير‭ ‬تاج‭ ‬السرّ‭ ‬أنّ‭ ‬لغته‭ ‬بسيطة‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬تكادُ‭ ‬تكون‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬العموميات،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬يبدو‭ ‬للقارئ‭ ‬الذي‭ ‬يقرأ‭ ‬قراءة‭ ‬سريعة‭ ‬وسطحيّة،‭ ‬فلغته،‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬لغة‭ ‬متينة،‭ ‬متماسكة،‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يوظفها،‭ ‬وينتقي‭ ‬عباراته‭ ‬بدقةٍ‭ ‬فائقة‭. ‬يختارُ‭ ‬أمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬شخصيات‭ ‬نكادُ‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬رواياته،‭ ‬الّتي‭ ‬قرأتها‭ ‬لحد‭ ‬الآن،‭ ‬وهي‭ ‬خمس‭: ‬طقس،‭ ‬صائد‭ ‬اليرقات،‭ ‬366،‭ ‬زهورٌ‭ ‬تأكلها‭ ‬النّار،‭ ‬منتج‭ ‬الساحرات؛‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نُصنّفها‭ ‬ضمن‭ ‬الرّوايات‭ ‬الواقعية‭ ‬المعيشة،‭ ‬حيث‭ ‬يمكنُ‭ ‬لأي‭ ‬واحدٍ‭ ‬منّا‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬تلك‭ ‬الأحداث‭ ‬أو‭ ‬يصادفها‭. ‬ومن‭ ‬السمات‭ ‬المميزة‭ ‬لأمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬هو‭ ‬غياب‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬المملة‭ ‬الّتي‭ ‬تجعلك‭ ‬تقضم‭ ‬عشرات‭ ‬الصفحات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬حدثٍ‭ ‬معيّن،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬تستعرضُ‭ ‬الأحداث‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬بنوعٍ‭ ‬من‭ ‬التشويق‭ ‬والغموض،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬متلهفاً‭ ‬لمعرفة‭ ‬النّهاية‭.‬

في‭ ‬رواية‭ ” ‬طقس‭ ” ‬وظّف‭ ‬الروائي‭ ‬أسلوباً‭ ‬ساخراً،‭ ‬يجعل‭ ‬أحداثها‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال،‭ ‬بين‭ ‬الزيف‭ ‬والحقيقة،‭ ‬يُصوّرها‭ ‬في‭ ‬قالبٍ‭ ‬سرديّ‭ ‬ينمّ‭ ‬عن‭ ‬حنكته‭. ‬شكّلت‭ ‬شخصية‭ ‬نيشان‭ ‬حمزة‭ ‬نيشان‭ ‬عبئاً‭ ‬على‭ ‬مبتكرها‭ ‬طوال‭ ‬أطوار‭ ‬الرواية،‭ ‬وعانى‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬عرفه،‭ ‬حتى‭ ‬ندم‭ ‬على‭ ‬كتابته‭ ‬تلك‭ ‬الرّواية‭. ‬ترمي‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬تبيان‭ ‬الجهد‭ ‬المضني‭ ‬الّذي‭ ‬يبذله‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬وبناء‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يصنعها‭ ‬من‭ ‬الخيال،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يُصادفها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬ويستلهمها‭ ‬ويضعها‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬تتخبّط‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬روايته،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يُضفي‭ ‬عليها‭ ‬تعديلاً‭ ‬حتى‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬موضوع‭ ‬الرّواية‭ ‬ورؤيتها‭.‬

نُشرت‭ ‬لأمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬رواية‭ ‬نحت‭ ‬لها‭ ‬عنوان‭: ‬صائد‭ ‬اليرقات،‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الساقي،‭ ‬سنة‭ ‬2016م،‭ ‬في‭ ‬طبعتها‭ ‬الرابعة‭. ‬وصلت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬القائمة‭ ‬القصيرة‭ ‬لجائزة‭ ‬بوكر‭ ‬العربية‭ ‬سنة‭ ‬2011م‭. ‬تتألفُ‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬حوالي‭ ‬160‭ ‬صفحة،‭ ‬تناول‭ ‬فيها‭ ‬قصّة‭ ‬عميل‭ ‬سرّي‭ ‬في‭ ‬الاستخبارات‭ ‬سيتعرّض‭ ‬لحادثٍ‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬فقدان‭ ‬ساقه‭ ‬وتمّ‭ ‬تعويضها‭ ‬بقدمٍ‭ ‬بلاستيكية‭ ‬يمقتها‭ ‬ويزدريها‭ ‬كلّما‭ ‬نظر‭ ‬إليها،‭ ‬وسيتعرّفُ‭ ‬هذا‭ ‬العميل،‭ ‬بعدما‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬عمله‭ ‬مكرهاً‭ ‬بعد‭ ‬فقدانه‭ ‬لساقه‭ ‬وصار‭ ‬ملازماً‭ ‬للمقاهي،‭ ‬على‭ ‬كاتبٍ‭ ‬معروف،‭ ‬وستُخامرهُ‭ ‬فكرة‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭. ‬وضع‭ ‬أمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬الكتابة‭ ‬هنا‭ ‬تحت‭ ‬المجهر،‭ ‬وقد‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬كاتبة‭ ‬تكتب‭ ‬نصوصاً‭ ‬لا‭ ‬يشمّ‭ ‬فيها‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬رائحةً‭ ‬للإبداع،‭ ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬تتلقّى‭ ‬عبارات‭ ‬التنويه‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬الّذي‭ ‬سيعتبرهُ‭ ‬قدوةً،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬سيسرقُ‭ ‬فكرته‭ ‬التي‭ ‬سيبلورها‭ ‬في‭ ‬مشروعٍ‭ ‬روائي‭. ‬ظلّ‭ ‬العميل‭ ‬السابق‭ ‬يقرأ‭ ‬في‭ ‬محاولةٍ‭ ‬جادّة‭ ‬منه‭ ‬لكتابة‭ ‬رواية،‭ ‬وقد‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬هي‭ ‬يرقات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬فراشات‭ ‬فقفز‭ ‬العنوان‭ ‬إلى‭ ‬ذهنه‭: ‬صائد‭ ‬اليرقات‭. ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬واظب‭ ‬على‭ ‬مخالطة‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬وأصبح‭ ‬مصمِّماً‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬سيضعُ‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مأزق‭ ‬حيث‭ ‬سيصبح‭ ‬مذكرة‭ ‬لملاحقةٍ‭ ‬أمنية‭. ‬كما‭ ‬تناول‭ ‬أمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬فكرة‭ ‬جوهرية‭ ‬وهي‭ ‬تعامل‭ ‬الناس‭ ‬مع‭ ‬العميل‭ ‬قبل‭ ‬فقدانه‭ ‬لعمله‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬فقده،‭ ‬هي‭ ‬حقيقةٌ‭ ‬مُرّة،‭ ‬جعلت‭ ‬الرّاوي‭ ‬يعترفُ‭ ‬بأن‭ ‬النّاس‭ ‬حربائيون،‭ ‬ويتزلّفون‭ ‬للمظاهر‭. ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬بوليسي‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأوّل‭ ‬عالج‭ ‬فيها‭ ‬مشاكل‭ ‬اجتماعية‭ ‬وما‭ ‬قد‭ ‬تسفرُ‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬ضغوطات‭ ‬نفسية‭. ‬

لقد‭ ‬أبان‭ ‬أمير‭ ‬تاج‭ ‬السرّ‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الكائن‭ ‬الشعري‭ ‬الّذي‭ ‬يسكنُ‭ ‬بداخله‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬الموسوم‭ ‬بـ‭ ‬مرايا‭ ‬ساحلية‭ (‬سيرةٌ‭ ‬مبكّرة‭)‬،‭ ‬تنقّل‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬ارتمى‭ ‬في‭ ‬أحضانها‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الصبا،‭ ‬وصفها‭ ‬وصفاً‭ ‬دقيقاً‭ ‬باستعماله‭ ‬لكلمات‭ ‬منتقاةٍ‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬البديعة،‭ ‬كما‭ ‬استعمل‭ ‬عبارات‭ ‬عامّية‭ ‬جعلت‭ ‬هضم‭ ‬الأحداث‭ ‬بشكلٍ‭ ‬متسارع‭ ‬صعباً‭ ‬إلى‭ ‬حدٍّ‭ ‬ما‭ ‬وغموضٍ‭ ‬في‭ ‬المضمون‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬موضع‭. ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يُعطينا‭ ‬نظرة‭ ‬شاملة‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬نشأ‭ ‬وترعرع‭ ‬فيه،‭ ‬والأهالي‭ ‬الذي‭ ‬يقطنون‭ ‬المكان‭ ‬واصفاً‭ ‬تقاليدهم‭ ‬وأعرافهم‭ ‬محاولاً‭ ‬نقل‭ ‬الثقافة‭ ‬السودانية‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬العربي‭. ‬هي‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬بامتياز،‭ ‬مميزة،‭ ‬وما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬تميّزها‭ ‬هو‭ ‬هيمنة‭ ‬الطابع‭ ‬الشّعري‭ ‬الّذي‭ ‬تسرّب‭ ‬عبر‭ ‬سطورها‭.‬

هناك‭ ‬رواية‭ ‬جيّدة‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬الروايات‭ ‬المذكورة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تدخل‭ ‬اللّائحة‭ ‬الطويلة‭ ‬لجائزة‭ ‬البوكر‭ ‬سنة‭ ‬2014م،‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬366‭ ‬،‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬طبعتها‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬2012م‭ ‬عن‭ ‬الدار‭ ‬العربية‭ ‬للعلوم‭ ‬ناشرون‭. ‬رواية‭ ‬كتبها‭ ‬أمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬عن‭ ‬أستاذ‭ ‬عاش‭ ‬قصّة‭ ‬حبّ‭ ‬مع‭ ‬طيفٍ‭ ‬خيالي‭ ‬لمدة‭ ‬366‭ ‬يوماً‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬السنوات‭ ‬الكبيسة،‭ ‬تميّزت‭ ‬بحبكة‭ ‬محكمة،‭ ‬وبانسيابية‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬الأحداث،‭ ‬وحضور‭ ‬كثيف‭ ‬لشخصيات،‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬اعوجاج‭ ‬الأحداث‭ ‬عن‭ ‬مسارها‭. ‬تتناول‭ ‬الرواية‭ ‬قصّة‭ ‬أستاذ‭ ‬للكيمياء‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية،‭ ‬يقطن‭ ‬حي‭ “‬المساكن‭”‬؛‭ ‬حيٌّ‭ ‬مهمّش‭ ‬يعجُّ‭ ‬بالمنحدرين‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الكادحة‭. ‬هذا‭ ‬الأستاذ‭ ‬حضر‭ ‬زفاف‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬يدعى‭ ‬عبد‭ ‬القادر،‭ ‬وسيرى‭ ‬فتاةً،‭ ‬اسمها‭ ‬أسماء،‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬أناقتها،‭ ‬وانبهر‭ ‬بها،‭ ‬وانغرس‭ ‬بداخله‭ ‬سهم‭ ‬الحبّ،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬دوّامةٍ‭ ‬من‭ ‬التيه،‭ ‬وسيبحثُ‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬أرجاء‭ ‬المدينة‭ ‬دون‭ ‬العثور‭ ‬عليها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬أسيراً‭ ‬لكوابيس‭ ‬وضغوطات‭ ‬نفسية‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭.‬

تنكبّ‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الأستاذ‭ ‬مع‭ ‬جيرانه‭ ‬وزملائه‭ ‬في‭ ‬المؤسسة،‭ ‬كما‭ ‬أنّها‭ ‬لا‭ ‬تتغاضى‭ ‬عن‭ ‬أحداث‭ ‬الماضي؛‭ ‬التي‭ ‬تطفو‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬حين‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬كما‭ ‬تطفو‭ ‬الشوائبُ‭ ‬في‭ ‬البرك‭ ‬الآسنة،‭ ‬وهنا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تورّط‭ ‬أخيه‭ ‬بخاري‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬القضايا‭ ‬السياسية‭ ‬وانتمائه‭ ‬لحزبٍ‭ ‬مشبوه‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬غيابه‭ ‬المفاجئ‭ ‬ثم‭ ‬رحيل‭ ‬والدته،‭ ‬ليعيش‭ ‬الأستاذ‭ ‬لوحده‭ ‬منكوباً،‭ ‬وما‭ ‬زاد‭ ‬الطينة‭ ‬بلّة‭ ‬هو‭ ‬حبّه‭ ‬الجارف‭ ‬لأسماء‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رآها‭ ‬وهي‭ ‬لم‭ ‬تره‭. ‬ربّما‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬الحب‭ ‬رغم‭ ‬أنّ‭ ‬الذي‭ ‬سيشاركه‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬مجرّد‭ ‬طيف‭ ‬ناوره،‭ ‬وقد‭ ‬خُيّل‭ ‬إليه‭ ‬أنّه‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬سينتشله‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬الوحدة‭ ‬وسيرميه‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الحياة‭ ‬الزّاهية‭.‬

لقد‭ ‬كتب‭ ‬أمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬ما‭ ‬ينيف‭ ‬عن‭ ‬عشر‭ ‬روايات‭ ‬وسيرتين‭ ‬وديوان‭ ‬شعري،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكّد‭ ‬على‭ ‬الزخم‭ ‬الّذي‭ ‬بداخله،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬الاهتمام‭ ‬المطلوب،‭ ‬رغم‭ ‬حضوره‭ ‬الدائم‭ ‬في‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬عبر‭ ‬مجلات‭ ‬ثقافية‭ ‬ذائعة‭ ‬الصيت،‭ ‬وتناوله‭ ‬لقضايا‭ ‬المجتمع‭ ‬السوداني‭ ‬عبر‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬منابر‭ ‬إعلامية‭ ‬مختلفة‭. ‬إنّ‭ ‬أعماله،‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬جديرةٌ‭ ‬بالقراءة‭ ‬والاهتمام‭ ‬والدراسة،‭ ‬لأنّها‭ ‬ذات‭ ‬رؤية‭ ‬روائية‭ ‬معاصرة‭ ‬فريدة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى