التحولات الاقتصادية بين أزمة كورونا والأزمة الدورية للرأسمال
◆ سفيان جناتي
من المعلوم أن كارل ماركس قد عمل -في مختلف أبحاثه- على استثمار الفلسفة والعلم والتاريخ لفهم الاقتصاد الرأسمالي وطبيعته، مستغلا في ذلك -وبشكل خلاق- الأسس النظرية التي كان قد صاغها سابقوه، مخضعا إياها للنقد ومعيدا تطويرها. وما تزال العديد من الأفكار العلمية التي تحتويها كتب كارل ماركس قائمة إلى يومنا، ولها أهمية قصوى في فهم الواقع العياني، كما يمكن الاستناد إليها في فهم ما وصلت إليه الرأسمالية اليوم. وقد سعت الإيديولوجية “البرجوازية” ما في وسعها لدحض نظرية ماركس، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل. وفي المقابل حققت كتب ماركس عموما و “رأس المال” على وجه الخصوص إقبالا غير مسبوق بعد أزمة 2008 . لكن هذا لا يعني أن (رأس المال) كان غائبا قبل هذا التاريخ، وإنما زاد الاهتمام به بشكل ملفت، وطالما وُجد البرجوازيون والعمال على حد سواء، يظل هذا الكتاب بالغ الأهمية في فهم النشاط الاقتصادي؛ فماركس يحدد الأزمة الدورية لنمط الإنتاج الرأسمالي ما بين ثمان و عشر سنوات، وهذه إشارة فقط من بين الإشارات العديدة التي تحتويها نظرية ماركس، والتي سنستند إليها في جوانب هذه المقال، فالغاية ـ هنا ـ ليست عرض أفكار ماركس بالقدر الذي يهم الاستناد إليها لتحديد خط التماس بين ما يدور في أفكارنا حول التطورات والتغيرات الاقتصادية التي شهدها العالم ـ خصوصا – في السنوات الأخيرة وبين مستقبل هذه التغيرات.
ومن بين الإشارات التي تتضمنها كتابات ماركس تلك التي تعنى بالسمات التي يتجه صوبها نمط الإنتاج الرأسمالي في القرن الحالي، ونقصد هنا؛ الهوة التي باتت متسعة بشكل كبير ومفضوح بين الأثرياء والفقراء، بين مالكي النقد ومالكي قوة العمل. وقد أدرك ماركس مبكرا أن الأزمات الاقتصادية ليست خطأ أو صدفة أو اختيارا، بل هي صفة ملازمة لهذا النمط؛ فأزمة الحربين الأولى والثانية قد أنتجت شكلا جديدا لإخضاع الشعوب، وجعلها تحت رحمة المركز الرأسمالي، وبما أن و.م.الأمريكية تفوق قوتها قوة باقي الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية 1945، فذلك كله عزز حظوظها في قيادة العالم بدءا من هذا التاريخ إلى حدود كتابة هذه الأسطر. لكن هذه السيطرة والهيمنة تنهار يوما بعد يوم كما سنبين ذلك في تفاصيل هذا المقال.
ففي سنة 1945 قامت و.م.الأمريكية بدعوة ما يقارب 44 دولة لإعطائهم مُهلة للتفكير، ابتداء من فاتح شهر يونيو إلى 22 من نفس الشهر، حول العديد من القضايا الاقتصادية والسياسية.
المستوى الاقتصادي: رفع النظام الرأسمالي العديد من الشعارات والأدوات الجديدة في هذا المجال؛ نظام نقدي جديد، سياسات نقديه جديدة، تحديث أسعار الصرف في العالم، والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية؛ وفي هذا المؤتمرسيتأسس المثلث الاقتصادي القاتل للشعوب (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، المنظمة العالمية للتجارة). وبدورهم سارعوا نحو رفع شعارات من قبيل: العمل على المناخ والأمن الغذائي والتعليم والصحة والزراعة والتموين والتجارة الخ…، لقد كان هذا الثالوث قبل تمظهره في قوالب جديدة يعرف ب “البنك الدولي للإنشاء والتعمير”، وكانت أول أعماله تعمير أوروبا بعد الحربين؛ لكن منذ هذا التاريخ أصبح يلعب دور منقذ الشعوب، ظلما وبهتانا، وأصبح مرحبا به لدى أغلب الأنظمة السياسية خصوصا في “المنطقة”، باستثناء النظام البعثي في العراق. وأمام هذا الترحيب، وضع البنك شروطا زجرية في جل تعاملاته، ك”قروض المقايضة” مثلا والتي تفرض على المَدين التعامل مع الشركات الدولية التي يحددها البنك بوصفه مانح القرض، وقد وضع البنك الدولي عدة شروط إجبارية ينبغي أن تتوفر في المُقرَضِ حتى يتسلم القرض، وفي مقدمتها: بيع مؤسسات القطاع العام؛ كالتعليم والصحة، وفي هذا السياق نذكر على سبيل المثال تصريح الحكومة المغربية بتاريخ 30 ابريل 2019 حول تفويت قطاع الطاقة إلى الخصخصة.
ونذكر في هذا الإطار، كذلك، حدثين بارزين:
- 1971 فك النظام المالي ارتباطه بالذهب.
- 1976 المصادقة على ربط الدولار بالبترول في مؤتمر جمايكا.
وعلى أنقاض هذين الحدثين ستتشكل العديد من الظواهر التي ساهمت في تطوير نمط الإنتاج الرأسمالي، وفي هذا الصدد نحيل على كتاب “القاتل الاقتصادي للأمم” لجون بركينز؛ الذي يَعُجُ بالمعلومات والمعطيات التي تُظهر جليا وقاحة النظام الدولي الذي يخفي في طياته الجشع والاستغلال اللامحدود لمقدرة الشعوب، عبر إنهاكها بالديون، ورهن ثرواتها وخيراتها في خزائن المركز الامبريالي؛ فتحويل الثورة المنتجة من القوة العاملة وطنيا يزيد من تفقير شعوبنا وتدمير أي محاولة للنهوض (العراق، سوريا، ليبيا، اليمن …) وإفقاد الدول سيادتها الوطنية وكذا تدمير الحدود القومية بما يخدم الرأسمال العالمي.
نعتقد أن توطئة كهذه مهمة جدا في سياق الحديث عن النتائج التي أوصلتنا إليها الرأسمالية بمظاهرها النيوليبرالية منذ الحربين إلى اليوم، وكذا نسوقها هنا؛ حتى يسهل الحديث عن التحولات التي تقع اليوم، وعن الأزمة التي أصبحت واضحة للعيان خاصة مع تفشي فيروس”كورونا” التاجي. على هذا الأساس ووفقا لفهم ماركس وتحليلاته كان من المفترض أن تنشب الأزمة أو الركود في أواخر 2018/ 2019 بعد الانهيار المالي الذي حدث سنة 2008، والتي دفعت البرجوازية العالمية إلى ابتكار حلول عديدة ومتنوعة، لكنها ظلت، في نهاية المطاف، حلولا ترقيعية، عجزت من خلالها البرجوازيات عن إيجاد إجابة جدرية للركود المستمر إلى اليوم. وكل هذا في الحقيقة يبطل جُل التصريحات المزعومة والكذب المعلن من طرف كل منظري الاقتصاد ومثقفي البنك الدولي؛ إذ يحاول العديد من هؤلاء”إخفاء الشمس بالغربال” في ظل المعاناة العميقة للشعوب، وظروفها الحالكة، وفي سياق اتساع رقعة مناهضي الإمبريالية والمطالبين بالقصاص من أفعالها الشنيعة، يظهر للواجهة أشباه المثقفين ومهرجي الإعلام الرسمي وبعض الشياطين أصحاب المليارات ليطالبوا بتقليص حدة الفقر بدون خجل.
لقد اضطرت “تيريزا ماي” في بريطانيا إلى الدفاع عن السوق وعن الرأسمالية بكل وقاحة، والإثناءعلى “السوق الحرة” بوصفها عاملا أساسيا للتقدم الاجتماعي، كما امتلأت المكتبات -في السنوات الأخيرة-بمؤلفات مرتزقة الرأسمالية من أمثال: “ألان لي ستفن فنكر” وكتاب “حقائق الأمور” لهانز روسلنغ، حيث شن هؤلاء وغيرهم حملة واسعة من التشهير للرأسمالية في محاولة منهم لإضفاء الملائكية على هذا الشيطان الجشع، إضافة إلى دور رموز المال والبورصة من أمثال “بيل جيست”. فكل واحد من هؤلاء، السلطويين، وباختلاف تخصصاتهم سعوا إلى ذر الرماد في عيون العالم، وذلك من خلال إلباسه لباس العفة وإظهاره في صورة المتعافي من الأزمة، فقد قاموا بتوزيع نسخ مجانية لكتب “روسلينغ” وكذلك تقديم العديد من البرامج في هذا الاتجاه، فنجحوا من خلال ذلك في إقناع كل البلدان بأن العالم بعد 2008 بلغ مرحلة الخلود، وأن البرجوازية تخطت أزماتها ببراعة كموقع ساعة الفقر العالمي الذي يعمد إلى تقديم رسومات وإحصائيات مغلوطة من أجل نشر الوهم حول مسألة القضاء على الفقر. لكن هذا الوهم وهذا التجاوز المزعوم للأزمة، سرعان ما تهاوى أمام الوقائع العيانية للاقتصاد نفسه، فالإحصائيات المقدمة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تبين ـ قطعا ـ أن ماركس كان محقا حينما تنبأ باتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، بحيث أن الليبرالية جعلت نصف ثروة العالم في يد حفنة من الرأسماليين لا تتجاوز نسبتهم واحدا بالمائة من سكان العالم. وهذا يبين حجم المهزلة التي وصلت إليها الرأسمالية، وقس عليها النصف المتبقي من الثروة.
إن كل طَرْقٍ لأبواب البنك الدولي من طرف الدول يخلف – بالضرورة – نتائجَ وخيمةٍ من فقرٍ وبطالة. ولا أدَلَّ على ذلك من البرازيل التي استنجدت ـ فترة الثمانينيات ـ بالبنك الدولي، ليتم بعد ذلك تسريح عدد هائل من عمالها، وتفويت قطاعاتها الحية إلى الخوصصة، كما تم إغراقها بالديون، ما شَرع الباب لدخولها في أزمة استمرت نحو 12 سنة، لم تخرج منها البرازيل إلا بعد أن سددت ديونها، فانطلقت بعد ذلك في عملية البناء، وقس على ذلك كل في من الأرجنتين واليونان بوصفهما نموذجين قريبين. دون إغفال شعوب المنطقة العربية وعلى رأسها المغرب؛ إذ تعرف هذه المناطق ارتفاعا حادا في نسبة الفقر بحسب الإحصائيات، إذ ترى هذه الأخيرة أن نصف سكان العالم تقريبا يعانون من الفقر المدقع؛ أي في حدود 3.2 دولار كحد أقصى في اليوم، وبالنسبة للبلدان المتوسطة الدخل يبلغ 1.9 دولارا للفرد في اليوم.
أما عن أمريكا فبدورها تسجل نسبا في معدل الفقر قدرت ب13بالمائة من سكانها؛ أي ما يزيد عن 41 مليون من الساكنة تعيش على حافة الفقر، وأن 18 مليونا منهم يعيشون الفقر المدقع، من بينهم طفل واحد من أصل ثلاثة فقراء، وحسب نفس الإحصائيات فإن عدد المشردين بأمريكا قدر بنحو550 ألف نسمة دون مأوى (أغلبهم من ذوي البشرة السوداء).
وحسب تقرير الأمم المتحدة فإن هذه الأرقام في ازدياد مستمر خصوصا في عهد المهرج ترامب الذي يتجه نحو إلغاء شبكة الأمن التي تحمي ملايين الفقراء، في المقابل نجد في نفس التقرير دعوة إلى توفير حماية اجتماعية قوية للفقراء.
أما عن فرنسا فهي لا تقل عن سابقاتها؛ إذ يعيش ما يقارب ثلاثة ملايين طفل من أصل أزيد من تسعة ملايين نسمة تحت خط الفقر، وحسب إحدى الدراسات التي أجراها “معهد ابيسوس لدراسة الأسواق” بمعية “منظمة النجدة الشعبية الفرنسية” حول الفقر الغذائي في فرنسا والتي تم نشرها في أواخر 2018، فإن هناك ما يعادل فرنسيان من بين كل خمسة فرنسيين لا يمكنهم تحمل تكلفة ثلاث وجبات يوميا. ففي فرنسا يتم تحديد عتبة الفقر في أن يتقاضى المرء راتبا أدنى من 1180 يورو. لكن في 2015 كانت عتبة الفقر تحدد بمدخول يوازي 1015 يورو، حينها وصل عدد الذين يعانون الفقر إلى 14.2 بالمائة، وأن 81 بالمائة من الفرنسيين يعتبرون أن أبنائهم مهددون بخطر الفقر، وأن 59 في المائة من الفرنسيين يعتبرون أنهم عرفوا أو كادوا يعرفون الفقر، و65 بالمائة من أصحاب الدخل الضعيف، و21 بالمائة من الفرنسيين يصعب عليهم توفير غذاء صحي لثلاث وجبات يوميا.
وفي جارتها ألمانيا والتي تعتبر النموذج البارز داخل الاتحاد الأوروبي، فقد أعلن “المكتب الاتحادي للإحصاء” في منتصف 2019 بأن 19 بالمائة من الألمان يعيشون تحت خط الفقر أو مهددين بذلك، كما صرح المكتب بأن عدد المهددين بالفقر والإقصاء الاجتماعي في ألمانيا تخطى15.5 مليون شخص وهو ما يعادل 19 بالمائة من السكان. وقد صرح “الاتحاد الألماني لحماية الأطفال” (دب كيه ا سبي) بأن هناك نحو 4.4 مليون طفل يعانون من الفقر حاليا في ألمانيا بزيادة 1.4 مليون طفل عن السابق، والحال لا يختلف في الكثير من بلدان أوروبا كبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا واليونان…والأعداد في ازدياد دائم.
وحسب المنظمة العالمية؛ فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا شهدت ارتفاعا ملحوظا في أعداد من يعيشون على أقل من 1.9 دولار للفرد، فاليمن وفلسطين وسوريا والعراق…. بلدان تم تشريدها وتصدير مقدراتها عن طريق المؤامرة الكونية خصوصا في سوريا وليبيا، وهذا ما عايناه في السنوات الأخيرة.
دون أن ننسى أن نذكر القارئ وننوهه بأن الأرقام المقدمة قد استقيناها من الإحصائيات الرسمية، وأن ما خفي كان أعظم. فالتلاعب بالأرقام والإحصائيات من خصائص الهيمنة الامبريالية، وهذا الأمر معروف منذ زمن بعيد. وفي هذا الصدد نشير إلى دراسة يقدمها أستاذ بجامعة لندن (جايسون هايكل) حيث يقدم فيها موجزا لانعدام المساواة العالمية وحلولها تاريخيا، وهو موجز للتلاعب بالإحصائيات، وفيه دلائل على بطلان ادعاءات كل من يحاول ذر الرماد في أعين الجماهير؛ لكن سرعان ما يتهاوى علميا وعلنيا كل هذا اللغط الذي تقدم به (بينكنز، و روسلينغ، وبيل جيتس)، وفي الوقت نفسه يتقارب كثيرا مع تنبؤات ماركس و(الكثير من الماركسيين) مما يجعل من القرن الواحد والعشرين مجبرا – ومنذ بدايته -على الترحيب بأفكار كارل ماركس، رغم السنوات الطويلة من التعتيم والطمس والتشويه، إلا أن دراساته وأفكاره كانت على الدوام حاضرة ولم تغب يوما، بل ويزداد الاهتمام بها مع كل الأزمات الدورية للاقتصاد الرأسمالي.
بعد الأزمة المالية سنة 2008 ستظهر العديد من الإشكالات في المراكز الرأسمالية التي عاشت الرخاء على حساب مقدرات شعوبنا الإفريقية والعربية، فالاتحاد الأوروبي يعيش أوضاعا لم يسبق له أن عاشها من قبل، إذ أن الواقع الاقتصادي المتدهوريتجلى بشكل ساطع في حقله السياسي، وما تأزم الأحزاب السياسية التي كانت بالأمس القريب تسهر على تسيير اللعبة السياسية في أوروبا إلا دليل على الأزمة المذكورة أعلاه، فصعود الشعبويين أدى إلى التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد، وهذا قد أوصل حزب المحافظين إلى حافة الموت، ما جعل”تريزا ماي” تقدم استقالتها فورا.
إن مجرد التفكير في سيناريو الخروج من الاتحاد هو بحد ذاته تعبير عن إفلاس كامل للنظام السياسي البريطاني. لكن أزمة أوروبا لا تقف عند هذا الحد؛ فألمانيا التي كانت – لزمن طويل – محركا فاعلا في الاقتصاد الأوروبي، أصبحت اليوم – وفي ظل قبضة الحزبين “الديمقراطي المسيحي” و”الاشتراكي الديمقراطي” – على أبواب الانهيار، وما تخلي “ميركل” عن منصبها في رئاسة الحزب إلا مظهر للاضطرابات الواقعة في البيت الألماني وما يصاحبها من صعود الحزب اليميني الجديد، بشكل يثير الانتباه.
أما فرنسا والتي تعتبر الوجه المفضوح للأزمة، فقد أسقطت معها المدافعين عن الوسطي الصغير (ماكرون) والذي كانت تعلق عليه آمال كبيرة في فرنسا وأوروبا لتخطي الأزمة. لكن كل ذلك يتبخر أمام موجات الصراع الطبقي. وما نضال أصحاب “السترات الصفراء” إلا جزء من هذه الموجات. ليفتضح زيف ماكرون ومن معه. أما الانقسام الذي يتبين للعموم والحاصل بين مركز أورويا وشمالها؛ فما هو إلا مظهر للأزمة الوجودية التي استوطنت في قلب القارة العجوز. وقد كانت أزمة اللاجئين من أسباب تعميق هذا الانقسام وهذا التوتر الذي انعكس على ألمانيا وبولندا والمجر بدعم من اليمين النمساوي في مواجهة الاتحاد الأوروبي، هذا الأمرعزز أفكار (حزب نداء من أجل ألمانيا)، فهذه التعبيرات هي أشكال سطحية للأزمة والانشقاق الاقتصادي العميق بين شمال وجنوب أوروبا.
في اليونان (التجربة القريبة) فقد استعملت فيها البورجوازية الأوروبية جميع المحاولات لضخ أموال كبيرة في الاقتصاد اليوناني، ومع ذلك، وصل هذا الأخير لدرجة الصفر، وانهار بشكل درامي أمام أعين الجميع، وما إن اقترب الاتحاد الأوروبي من أن يستسيغ هذه الخسائر وهذا السقوط، حتى ظهرت في إيطاليا أزمة أخرى أكثر تعقيدا، إذ وصل العجز المتراكم إلى أزيد من 130 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم محاولات التحالف الحكومي للتملص من الشروط المفروضة عليه، فقد تم إجبارهم على دفع غرامات ضخمة واستسلام زعيم حركة الخمس (لويجي دي ماي) وكذلك زعيم رابطة الشمال (مني تو) فتعهدت إيطاليا على تخفيف عجز ميزانيتها من 2.4 إلى 2 بالمائة من الناتج الداخلي العام، وهذه الحلول ترقيعية لا غير. وما إن حل عام 2019 حتى بدا التوتر الفرنسي الايطالي ظاهرا، حيث عبر عن ذلك في كلمته (كونتي) الذي صرح بأن “حكومتنا تواجه كل الصعوبات للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي في إيطاليا وأوروبا” وذلك بلغة شديدة اللهجة، وهو في الحقيقة تهديد صريح معناه؛ إما رفع الضغط عنا أو ستشهد المنطقة انفجارا اجتماعيا ستترتب عنه عواقب وخيمة على أوروبا كلها. ووفقا لكل هذا واستنادا إلى هذه النتائج التي خلفتها الامبريالية وصندوقها الدولي وقبل نهاية 2019 كان الكثير من الباحثين ودارسي الاقتصاد والمستقبليات يتنبئون بأزمة عميقة قد تتجاوز الأزمة المالية ل 2008، والتي ما يزال ركودها قائما إلى اليوم، على الرغم من مجموعة من الإجراءات التدبيرية والاحترازية. فحسب بعض المعطيات الرسمية فإن 2020 كانت ستكون أسوأ سنة في الألفية الأخيرة، لكن ينبغي الانتباه إلى كوننا نتحدث قبل ظهور أي مؤشر لفيروس كورونا بغية توضيح أن الأزمة كانت قادمة وعلى الأبواب، وما ال”كورونا” سوى النقطة التي أفاضت الكأس وعجلت وسرعت وعمقت الأزمة.
لكل أزمة أثرها وتغيراتها وتحولاتها، وأول تحول واضح للعيان هو ظهور قوى جديدة تتمركز في أسيا بدل البيت العميق للرأسمال العالمي، لكن ظهور القوى الأسيوية لم يكن صدفة أو ظهر مع كورونا، بل هو نتيجة لسنوات طويلة من التخطيط الاستراتيجي والعمل الجاد الطامح إلى النهوض، وهذا ما تميزت به العديد من البلدان الأسيوية كسنغافورة والصين وإيران وكوريا وروسيا والهند واليابان. والحديث اليوم سينصب على الصين خصوصا لكونها المنافس الحقيقي للمركز الرأسمالي التاريخي. هنا يتبادر في أذهاننا السؤال التالي: هل تملك الصين قدرات ومؤهلات لإنجاز هذه المهمات التاريخية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال ستكون في الغالب عبارة عن أرقام ومقارنات بين اقتصادها وبين الاقتصاد الذي يقود العالم ويحركه منذ الحرب العالمية (الاقتصاد الأمريكي ومنظومته) وهذه الأرقام والدراسات أغلبها من مصادرأمريكية، فالصعود الصيني كما هو معلوم يرعب أمريكا تاريخيا، خصوصا بعد 2002، وهذا مايفسر سبب الهجمة الشرسة التي يشنها ترامب ومن سبقه، فهؤلاء يعلمون تمام العلم أن الصين قادمة للريادة لا محال، ويقومون بأقصى ما لديهم لكبح وصول هذا اليوم، ما يجعل من تقهقر أمريكا وتراجعها، شأنها شأن باقي الدول، مسالة وقت ليس إلا.
تشير بعض الأطروحات والدراسات القديمة والجديدة ـ بوضوح – أن سنة 2020 بداية سقوط الهيمنة الأمريكية، أو على الأقل تقليص نفوذها العالمي. وهنا نستعرض للقارئ أهم التنبؤات التاريخية في هذا الاتجاه.
أول تنبؤ يشير إليه العالم الأمريكي المستقبلي “الفين طوفلير” وهو كاتب ومفكر وعالم مختص في الدراسات المستقبلية، وكان له صيت طويل ومكانة مرموقة بين أقرانه. إذ تتلمذ على يديه العديد من الرموز والشخصيات السياسية (ميخائيل غورباتشوف، والرئيس الهندي أبو بكر زين العابدين، ورئيس ماليزيا محمد مهاتير.. وغيرهم)، كما شكلت أعماله نظرة خارج السرب، خصوصا حول الثورة الرقمية والتطور التكنولوجي، وركز في كتبه على التكنولوجية وتأثيرها على الإنسان.
ومن كتبه (صدمة المستقبل) الذي حقق نجاحا واسعا. وكان لكتاباته أهمية كبيرة في تشكيل فهم العديد من الأنظمة السياسية، وقد وصفته مؤسسة “اكسطور للاستشارات الإدارية” بأهم شخصية بين رواد الإدارة في أمريكا عبر التاريخ، ووصفته جريدة (فايناتشال البريطانية) بأنه أشهر عالم دراسات للمستقبل، وكذلك صحيفة الشعب الصينية بأنه من بين خمسين أجنبي ساهموا في صياغة الصين الحديثة. ومن أهم تنبؤاته هو الحدث الفارق في التاريخ سنة 1987. ففي كتابه “الموجة الثالثة” قدم طوفلير رؤيته حول سقوط الاتحاد السوفياتي من خلال تقديم العديد من الدلائل القائلة بذلك، وهذا ما تحقق بعد ثلاث سنوات من إصدار الكتاب. وفي نهاية الكتاب يخلص إلى نتيجة بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستتفكك إلى ولايات مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ب 25 سنة على الأقل.
وفي سنة 2007 كلف “الكونكريس” الأمريكي فريقا من الاقتصاديين للإجابة عن سؤال”: هل تشكل الصين تهديدا للاقتصاد الأمريكي؟”. وقد جاء تقريره من 63 صفحة وفيه التأكيد على كون القلق الذي يعتري صناع القرار في أمريكا من صعود الصين كقوة عالمية عظمى هو قلق مشروع وأنه سيزداد حدة حينما تتجه الصين إلى صناعة وتصدير منتجات ذات قيمة عالية (الهواتف الذكية والسيارات….) وهذا ماشرعت فيه الصين رسميا بعد 2015 حينما كشف الرئيس الصيني عن مشروع “صنع في الصين 2025”، إضافة إلى هذا، جاء في هذا التقرير أن الصين ستتخطى أمريكا تجاريا في الوقت القريب وهذا ما تحقق سنة 2010، فحجم التجارة العالمية للصين يساوي 3.2 تريليون دولار وأمريكا 3.1 تريليون دولار أما سنة 2018 وما بعدها فقد تعمقت الهوة، إذ أصبح حجم التجارة الصينية 4.7 تريليون دولار وأمريكا 4.1 تريلون دولار، وركز هذا التقرير على الخطر الكبير الذي يهدد أمريكا إذا ما شرعت الصين في تصدير التكنولوجيا والأدوات التقنية بدل الألعاب والمنتجات العادية. وهذا في الحقيقة ما شرعت الصين في تطبيقه حينما صدمت العالم بمشروعها الكبير “صنع في الصين” أي التحول من إنتاج منتجات بسيطة إلى أشباه الموصلات، ويتم هذا في عشر قطاعات صناعية رئيسية:
1 تكنولوجيا المعلومات.
2علم الروبوتات.
3 الطاقة الخضراء.
4 صناعة الفضاء.
5 هندسة المحيطات والسفن ذات التقنية العالية.
6 صناعة السكك الحديدية.
7 صناعة الطاقة.
8 المواد الجديدة.
9 الطب والأجهزة الطبية.
10 الآلات الزراعية.
وتشير توقعات أخرى إلى أن 2030 هي السنة التي ستصبح فيها الصين أكبر اقتصاد عالمي (البنك الدولي).
يوهان غالتونغ عالم اجتماع نرويجي وعالم رياضيات ومؤسس لدراسات السلام والصراع، وهو من مواليد أوسلو النرويج 24 أكتوبر 1930 والمؤسس الرئيسي لمعهد بحوث السلام أوسلو سنة 1959، وشغل مديرا له حتى سنة 1970، كما يعود له الفضل في تأسيس مجلة بحوث السلام سنة 1964، ويعتبر أول بروفيسور في العالم يختص في دراسة السلام والصراع سنة 1969. وفي حوزته جائزة “ايريك” وجائزة “رايت” والدكتوراه الفكرية من جامعة لمبلوتشي 2017، وله أعمال ومساهمات معروفة في علم الاجتماع مثل “أخلاقيات غاندي السياسية” 1955،”نظرية البحث الاجتماعي”، “السلام والعنف والامبريالية”…وقام بنشر أكثر من 1000 مقالة وأزيد من 100 كتاب، وكانت له تنبؤات حول ضعف وانحسار دور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية، وهذا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. وفي سنة 2004 تم نشر مقال أثار الجدل في صفوف الجميع، حيث سرد فيه 14 تناقضا من شأنه إضعاف وإسقاط أمريكا. في البداية كان “غالتونغ” يعتقد أن الهيمنة الأمريكية لن تتخطى سنة 2025، لكن سرعان ما عاد ليقلص توقعه إلى سنة 2020، وذلك تزامنا مع فترة حكم “بوش الابن” وفقا لموقع “ماذربورد”.
يرى غالتون أن تولي ترامب للرئاسة سيسرع من عملية الانهيار الأمريكي، وهي من أهم تنبؤاته الدقيقة على غرار الثورة الإيرانية عام 1978، ومظاهرة ساحة ” تيانآن مين” في الصين عام 1989. وفي كتابه “سقوط الإمبراطورية الأمريكية” توقع صعود الخطاب الفاشي في أمريكا، وتقريبا كل تنبؤاته كانت تستند إلى نظرية الروسي (الكوكراكتيف) .
أما الدكتور وليد عبد الحي فيقدم عددا من المحاضرات الدسمة تم بثها على قناة “الفينق” الأردنية، بالإضافة إلى الكثير من المقالات والأبحاث في هذا الاتجاه، من بينها تنبؤات الدراسات المستقبلية حتى 2030 وهو يستند على نتائج بحوث 27 عالما من علماء العلاقات الدولية خلال 2018 و 2019 ونتائج بحوث العلوم التطبيقية، حيث اتضح له ـ من خلالها ـ أن هناك ثلاث اتجاهات حظيت بالتوافق بين أغلب العلماء، وسأكتفي هنا ب “الاتجاه الأول” ويتعلق الأمر بمكانة أمريكا حيث يقول إن هناك: “استمرار في تآكل المكانة الدولية للولايات المتحدة في إدارة العلاقات الدولية”، ويقدم أبرز المؤشرات على ذلك (ويمكنكم العودة إلى المقال لكونه غني بالمعطيات). ونكتفي بهذا القدر حول الدراسات التي تقدمت وتؤكد السقوط الوشيك لأمريكا، إلى جانب هذا وقبل نهاية 2019 أقر أغلب الاقتصاديين على أن 2020 ستكون هي الأسوأ في الألفية الأخيرة، وحتى صندوق النقد الدولي كان يؤكد على هذا الأمر. فالركود هو السمة الوحيدة التي عبرت عنها جل الأبحاث والإحصائيات، وهناك من رأى أن هذا الركود قد يصل إلى الكساد لمدة طويلة، وحسب إحصائيات “جوجل” فإن البحث عن كلمة الأزمة تضاعفت بخمس مرات عن 2018، وحسب مركز”بيو” لاستطلاعات الرأي في أمريكا فإن 50 بالمائة من الأمريكيين يعتقدون أن الأزمة ستضرب عام 2020، وأن 20 بالمائة منهم يحتاطون من الأمر، وقد قاموا بسحب كل أموالهم، واكتنزوها بعيدا عن البنوك، أما صندوق النقد الدولي فهو يحذر من أن العالم مقبل على ركود عميق، ويرى أن حوالي 90 بالمائة من اقتصاد دول العالم ستشهد تراجعات في النمو، ويتوقع أن ينمو ب 3 بالمائة، وهو أقل نسبة من بعد 2008. وهناك أسباب أخرى لها وزن كبير في هذا الركود الذي كان متوقعا قبل كورونا؛ فالحرب التجارية بين أمريكا والصين عامل أساسي له وزنه، فاقتصاد البلدين يمثل حوالي 40 بالمائة من الناتج العالمي، وأي تباطؤ في اقتصادهما سيجر العالم إلى الويلات، وخروج بريطانيا عامل مهم في تشكل هذه الأزمة؛ لأن اقتصادها يمثل حوالي 2.8 تريليون دولار مما سيكون له تأثير على كتلة الاتحاد الأوروبي، أما المديونية فهي مجرد بالونات قابلة للفرقعة في أي وقت. فالعالم مديون بالكامل حسب المعهد الدولي للتموين التابع للبنك الدولي ويرى أن حجم الديون حوالي 244 تريليون دولار في أواخر 2018 هذا يضاعف الإنتاج المحلي العالمي لثلاث مرات، ونصيب الحكومات من هذه الديون هو 65 تريليون دولار والأفراد حوالي 46 تريليون دولار والشركات بجميع أنواعها 130 تريليون دولار. وهذا بوسعه أن يؤدي بالبنوك إلى الإفلاس، وأمام أعيننا نموذج 2008.
إلى هنا قد أوضحنا ولو بشكل بسيط الواقع الذي كان قائما قبل فيروس كورونا الذي زاد هذا المناخ تأزما جراء ما ترتب عنه من ضرر على القطاعات الصحية وعلى غفلة من انتباه العالم. الأمر الذي جعل كل التوقعات تتعمق بشكل رهيب، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه الاقتصاديون وأغلب دارسي المستقبل ظهور بؤر اقتصادية، ظهرت أمامهم أزمة إضافية فيما أصبح يعرف اليوم بفيروس كورونا الذي ظهر في الأيام الأخير من 2019 وبداية 2020 تحديدا في وهان الصينية، فكان تعاطي العالم مع الخبر كلٌ حسب ثقافته وواقعه، الغرب مثلا تنصل لعلاقته بالصين وفرّ المستثمرون التابعون له منذ البداية، أما في البلدان العربية فقد ظلت تشمت في ما لحق بالصين، بدعوى أن هذه الأخيرة تعمل على قمع مسلمي “الإيغور”. وبالنسبة إلى أمريكا ومهرجها ترامب فقد سخر هو الآخر في البدايات الأولى لظهور الوباء، ولم يتوقع حجم الكارثة لسذاجة تفكيره الفاشي، وبعد أقل من شهر كانت أورويا قد شربت من نفس الكأس، وأصبحت إيطاليا أولى البؤر بعد الصين، وحتى باقي بلدان أوروبا لم تتعاطى مع الأمر بجدية (باستثناء اليونان الجارة الإيطالية)، مما جعل الأرقام تزداد بشكل مرعب، وما كان لأمريكا إلا الانخراط في الأزمة بدون إرادة هذه المرة.