حوار مع الشاعر والناقد عبد الغني فنان
◆ محمد معطسيم
1 – المتتبع للكتابة لديك، يلاحظ أنها تمشي على قدمين: الفوتوغرافيا والشعر. لنبدأ بالفوتوغرافيا وقد أنجزت حولها كتابا ” الفوتوغرافيا في المغرب الكبير” وما أنجزته أيضا حول الفنان الفوتوغرافي والسينمائي داوود أولاد السيد.
يعد كتاب “الفوتوغرافيا في المغرب العربي” الصادر عن Aimance Sud Éditions، سنة 2018، والذي أشرفت عليه، الأول من نوعه في العالم العربي. فهو بالتالي يملأ فراغا في هذا المجال. وقد تطلب إعداده أكثر من ثلاث سنوات. أما موضوعه فيتناول الفن الفوتوغرافي في المغرب الكبير من الفوتوغرافيا القديمة ( جوزيف بيدرا، غابرييل فييري، غايتان دو كليرامبو، السلطان مولاي عبد العزيز…) إلى الفوتوغرافيا الناشئة المعاصرة ( عطيف برجديم، هشام غرداف، لولا خلفة، زهرين كالو، …) فالمسعى هو تأسيس إطار للتفكير، وتبريز الفن الفوتوغرافي في بلدان المغرب الكبير، وهو ما يتحقق تدريجيا. واعتقد أن هذا الكتاب يساهم في ذلك، ويسعى إلى إبراز ما اسميه” La photo-sensibilité maghrebine” والقول بأن الوقت حان، لتجاوز التحديات المعيقة للاعتراف بهذه التقنية وبها الفن ، من أجل إحداث تغييرات في حساسيتنا الفنية وفي الإنتاجات الرمزية.
2 – لماذا الفنان داوود أولاد السيد؟
داوود أولاد السيد، صاحب فوتوغرافيا قوية، لم يتم الانتباه إليها إلى حد الآن، مثلما لم يعترف للفوتوغرافيا بدورها السياسي والاجتماعي، وقيمتها الفنية والوثائقية، في المغرب، والمغرب الكبير، والعالم العربي.
حينما رأيت الأهمية التي حظي بها فوتوغرافيون من قبيل: مالك سيديبي، وسيدو كايتا أو أيضا، جيمس بارنور في الآونة الأخيرةٌ، قلت في نفسي ولم لا داوود أولاد السيد؟
تكلمت عن القوة، لأن داوود يملك عينا برية متوحشة، نحس أن هناك شيئا جموحا وحرونا في نظرته، بعض الشيء، لصورة المغرب، الذي يحمله في ذاكرته لما كان طفلا وشابا، وهو عمد الى تصويره دائما بنفس الاختيارات؛ في التأطير، والتركيب، والتصاميم، والتيمات (الجنوب، الصحراء البادية، الشعب، الهامش…) لكن دون السقوط في التبئيس والشعبوية.
وبخلاف المثقف، فإن الفنان يكتفي بالوقوف على الجمال، حيث اختلال الأشياء، دون أن يتعدى الأمر ذلك.
لن نفلح في التعامل بجدية مع هذه الفوتوغرافيا، ما لم نضعها في سياقها العام؛ التحرر من الاستعمار والحركة العالم -ثالثية، كما تم التعبير عنها مثلا، في نصوص محمد خير الدين- وما لم نربطها بحياة داوود أولاد السيد، بيتمه، وتكوين حساسيته الفنية، التي تأثرت ببعض الأسماء الكبيرة مثل “هنري كارتيي-بريسون” وباولو بازوليني”
3 – سبق أن تناولتم موضوع الفوتوغرافيا في مقال:” عودة الميت” نشرتموه في مجلة” Expressions maghrébines ” (صيف 2012) تحدثم فيه عن عبد الكبير الخطيبي. ما علاقة هذا الأخير بالفوتوغرافيا؟ وكيف ساهمت هذه الدراسة المخصصة له في ظهور العمل الجماعي الذي أشرفتم عليه:” La photographie au Maghreb, Aimance Sud Éditions, 2018 ” ؟
وأنا أشتغل على منتج عبد الكبير الخطيبي، ساءلني هذه الأمر، وقد يبدو قليل الأهمية، أو على هامش الأسئلة الفلسفية أو الأدبية أو السوسيولوجية أو السياسية التي يطرحها ذلك المنتج. في رواية “صيف في ستوكهولم” الصادرة سنة 1990، أي بعد مرور اثنتين وعشرين سنة على صدور دراسته الأولى:” Le roman maghrébin (l’Harmattan)”، فلأول مرة، يضع الخطيبي صورته على ظهر غلاف أحد مؤلفاته. يبدو لي أن هذا “التخفي ” أمر منسجم مع مرجعياته، باعتبار أن مفكرنا وكاتبنا كان يتحدث كثيرا عن “الاختفاء”، وهو في ذلك متأثر ب «راينر-ماريا ريلكه” و”موريس بلانشو” وغيرهما.
في هذه الرواية، المشهد هو التيمة الرئيسية، حيث تستخدم الحواس، لا سيما فعل المشاهدة من زوايا مختلفة، بما في ذلك، المسح الجوي. صورة الخطيبي أعيد تأطيرها – يتعلق الأمر إذا باستشهاد – بطريقة تثير الانتباه الى الإطار والعين، والأصبع (التي تكتب وتشغل الالة الفوتوغرافية)…
قادني هذا العمل إلى دراسة مؤلفات كلاسيكية حول الفوتوغرافيا: (الغرفة المضيئة ل «رولان بارث”،
حول الفوتوغرافيا ل «سوزان سونتاغ”، وفوتوغرافيا ومجتمع ل ” جيزيل فروند” والعمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيا ل “والتير بنجامين”… ولاحقا انصب اهتمامي على كتاب ومنظرين آخرين يكتبون حول الصورة والصورة الفوتوغرافية، بصفة خاصة، ولا سيما “باسكال كينيار” و”جورج ديدي-هوبيرمان”.
التقيت بعبد الكبير الخطيبي سنة 2007، بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط، أي سنة قبل صدور «الناسخ وظله” Le scribe et son ombre (Éditions La Différence, 2008 ) . لفت انتباهه إلى هذا الجانب، وحدثته عن قراءتي له. وعندما أتيحت لي قراءة كتابه فاجأني الفصل الأخير من الكتاب” Vœu de réincarnation “ الذي استهله بكلمة “فوتوغرافيا”. يتعلق الأمر ب “رغبة” أو حلم الاشتغال مع فوتوغرافيين ومصورين مختلفين، على صورته الشخصية. تحقق هذا المشروع، في جزء منه، بضع سنوات، قبل رحيله، لكن، في حقيقة الأمر، لم يصل إلى شكله النهائي.
كان عبد الكبير الخطيبي متعددا مثل كثيرين من مثقفي جيله، وكان ضمن الكتاب المغاربيين القلائل الذين انتبهوا إلى الفوتوغرافيا بوصفها تقنية ثورية وماردة، وهو الذي يشتغل على الآخر والسيمولاكر. كتب أيضا مقدمة كتاب داوود أولاد السيد “المغاربة”. لكن الخطيبي عندما يتحدث عن الفوتوغرافيا أو التشكيل، فهو يتحدث عنهما كمتذوق للفن أكثر منه ناقدا لهما. فهو لا يدرسهما انطلاقا من خلفية نظرية. بل يستقطبهما إلى عالمه.
وفي هذا يختلف مؤلف” الفوتوغرافيا في المغرب الكبير”
La photographie au Maghreb, Aimance Sud Éditions, 2018
حيث الفوتوغرافيا موضوع مركزي، يعالج بمقاربات متعددة، ومن مختلف جوانبه التاريخية والاجتماعية، والسياسية والمعاصرة.. وبعدة نظرية. فلأول مرة، الممارسة الفوتوغرافية، في هذه المنطقة من العالم، أي بعد قرنين من الزمن، تقريبا، على وجودها، تكون موضوعا للتفكير بمساهمات مختلفة، مجمعة في هذا المؤلف. لقد بقي هذا الموضوع، إلى يومنا هذا، مهمشا لا تقتحمه الدراسات الاجتماعية والجمالية.
4 – الراصد لأعمالك تستوقفه هذه الالمعية للخطيبي finesse فيها. كيف عرفت الخطيبي؟ واين كان لقاؤكما؟
لا، أنا لا أدعي انني أعرف عبد الكبير الخطيبي معرفة شخصية، التقيت به أربع مرات، مرتين بمكتبه بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط، ومرتين بمراكش. أحيانا تكون لقاءاتنا بالكتاب والمفكرين الذين نكن لهم تقديرا كبيرا دون انتظاراتنا. حينما نقترب من عبد الكبير الخطيبي ندرك بسرعة أنه مزيج من الرقة والعذوبة، الكآبة والصرامة. يبدو عليه شيء من لإهمال، ونوع من الغندرة dandysme. تحس أمامه بحضور ممزوج بالشرود، غير أننا نخمن سريعا أنه يلاحظ ويلتقط كل شيء. التقيت بالخطيبي الأخير، مضيافا كعادته، لكنه أقل جاهزية من ذي قبل، حسب ما أخبرني به اصدقاء له، ربما لعامل السن ولصداقات مخيبة للآمال.
5 – هل قرانا الخطيبي فعلا؟ وما راهنيته؟ واي إرث ترك لنا؟
جزء كبير من منتج عبد الكبير الخطيبي، غير مقروء. فليس بإمكان القارئ العربي سوى الاطلاع على جانب مترجم من اعماله، أو من خلال مقالات في الجرائد والمجلات. بالنسبة لراهنيته، فهي جلية عبر أسئلة العلاقة بالمقدس وبالذات في المجتمعات العربية الإسلامية، وسؤال الغيرية، والعلاقة مع الآخر، خاصة في السياق الحالي للهجرات وأشكال التطرف الديني أو العلماني، ومسار التحرر من الاستعمار الذي يتعزز اليوم في إفريقيا، عبر روابط تحتية مع “الكريولية”، وسؤال “النسوية” الحاضر لماما في أعماله…دون أن ننسى كتابته الطلائعية، الكتابة بوصفها قيمة في ذاتها.
6 – تؤطرون أسيا جبار فيما سميتموه” بياض الجزائر، بياض الكتابة” كيف ذلك؟
أسيا جبار صاحبة أعمال طلائعية، في السرد والسينما. ابتدعت لنفسها لغة خاصة، تتموقع بين الشفاهي والمكتوب، والصورة، والتفكير… أعمالها مزعجة للدوكسا، في الجزائر، والعالم العربي الإسلامي، كما هو الشأن بالنسبة للغربيين، وفرنسا تحديدا في هذه الحالة. عملها نبش في التاريخ وإعادة لكتابته عبر حكايات وأصوات صغرى، تاريخ غير متمركز ومتعدد. في كتابها:” بياض الجزائر” (Albin Michel, 2002) تتحدث عن الجزائر بوصفها تراجيديا. تحتفي بالمثقفين الذين تم اغتيالهم خلال العشرية السوداء. كتاب يرن مثل قداس. لكن، بالموازاة مع ذلك، فإنها تقدم صيغة اخرى لكتابة تاريخ الأدب الجزائري(والمغاربي). ومن هنا فان كتابها يمكن ان يقرا كرجع صدى لمؤلف الخطيبي”صور الأجنبي في الأدب الفرنسي” (Denoël,1987)، هنا ستنضم إلى ما أسميه «L’utopie de l’internation littéraire» إذا سلمنا أن هذا الأدب، ونعني بذلك الادب الجزائري والمغاربي) عرف بدايته، منذ فترات بعيدة جدا، بنصوص مكتوبة باللاتينية، وأن هناك أدبا قبائليا، وكتابات نسائية تسلك طرقا مختلفة في التعبير، وإذا سلمنا أن كامو، وسناك… هم أيضا بشكل من الاشكال كتاب جزائريون، فسيكون بالإمكان كتابة تاريخ آخر للأدب الجزائري، مغاير لذلك الذي تشيعه الدوكسا. والحال أن نفس العرض تحمله الثقافة، سواء كانت جزائرية أو مغاربية، الذي جعل من هذا الأدب “دخيلا” و”غريبا” مما يفرض الصمت أو المنفى. إنها نفس الأرثوذوكسية الكاتمة لكل الأصوات المنشقة، كيفما كانت جهتها ولغتها في التعبير.
7 – الشعر عندك حاضر في برنامجك اليومي، فلا يوم يمر دون قصيدة، الشعر منغرس في حياتك وكتابتك، فإذا كان الخطيبي مفكرا – شاعرا كما تقول عنه فانت شاعر- شاعر، أي سر فيك؟
الشعر عنصر أساسي في كتابتي. سواء فيما أكتبه حول الفوتوغرافيا، أو حول أعمال كاتب ما، أو فيما أنظمه من شعر. الايقاع، الموسيقى، التعبير بالصور، إيروسية اللغة… كل هذه الأشياء تلازمني كيفما كان الموضوع الذي أتناوله. الكتاب الذين تأترت بهم (بارث، موريس بلانشو، الخطيبي، ملارمي، رامبو، كافكا..) يضعون الشعر في صميم كتابتهم وفكرهم « Poèmes en seul majeur » (L’Harmattan, 2015) ديواني الشعري هو تتويج لتجربة في الحياة، ولمسار في الكتابة. في البداية، ينبغي قراءة هذا الديوان من عنوانه، عنوان بذيء (أترككم لتخمنوا لماذا) وأعتقد أنه غير قابل للترجمة. كتبته بروح من الوقاحة الشعرية، مع المغامرة أن قراءته لن تستهوي إلا قلة من القراء، غير أنني أتحمل مسؤولية اختياري.