تونس عشر سنوات من الأزمة.. ما الأسباب وما العمل؟
◆ محمد زهير حمدي - الأمين العام للتيار الشعبي بتونس
تمر تونس بمرحلة من أدق مراحل تاريخها حيث تعمل القوى الرجعية على دفع الشعب إلى حالة من اليأس والإحباط من كل أمل في التغيير، فقد تمكنت قيادة التحالف الليبرالي الحداثوي / (تكفيري/إخواني-وهابي) من هدر مجهودات الشعب التونسي، وخانت كل الشعارات التي رفعها في ديسمبر 2010 وما قبلها طيلة عقود طويلة من النضال، وتحالفت مع الطبقة الرأسمالية الطفيلية التابعة لدوائر الهيمنة بعد أن قبلت هذه الفئة الاحتكارية إشراك قيادات التحالف الليبرالي الحداثوى/(تكفيري/اخواني-وهابي) في عملية تقسيم الغنائم.
لقد تمكنت المافيا الوكيلة والفئة الاحتكارية بالتعاون مع القوى الرأسمالية الدولية والقوى الاقليمية الرجعية من تحويل مسار الثورة الى مجرد واجهة ديمقراطية مضللة، حيث تحول ما سمي بالانتقال الديمقراطي إلى ما يشبه الملهاة طيلة السنوات الفارطة وتحول الشعب إلى أداة في يد هذه الفئات الاحتكارية التابعة وأحزابها للحفاظ على مصالحها ومن ورائها مصالح قوى الهيمنة، فبعد كل انتخابات يتلقى الأمل في التغيير ضربة قاسمة، ويكاد الوضع يصل الى نقطة الانهيار النهائي نتيجة تبدد الوهم الذي تعيشه البلاد طيلة السنوات الفارطة، وهو أن أهداف النضال الوطني في الديمقراطية التي هي بالأساس سيادة الشعب ووضع السلطة بيده وفي إقامة مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص ستتحقق بمجرد الذهاب إلى صناديق الاقتراع، وقد نسينا أن النظام الذي كان جاثما علينا طيلة عقود ليس مجرد واجهة سياسية متمثلة في الرئيس وعائلته وحزبه وإنما شبكة مصالح داخلية مرتبطة بالخارج لا يضيرها في شيء أن تتغير الواجهة الاستبدادية إلى واجهة ديمقراطية أو دستورية شكلية مخادعة مقابل الحفاظ على مصالح مجموعة العائلات ومن ورائها مصالح قوى الهيمنة.
لقد حولت المنظومة الليبرالية مفهوم الديمقراطية إلى هوس بصناديق الاقتراع لذاتها واختزلتها في الحريات الفردية والعامة، في إلغاء تام للاستحقاق الاجتماعي والوطني ودون مضمون حقيقي يعطي لقوى الشعب العامل السلطة والقوة لتحقيق السيادة الوطنية ولتغيير معادلة العلاقات الاجتماعية السائدة لصالحهم.
وقد أدى هذا الوضع إلى :
• فشل الانتقال الديمقراطي وصعود الشعبوية: حيث تم الفشل يوم استولى تنظيم الاخوان المسلمين بتواطؤ مع شبكات مصالح المافيا في الداخل وقوى الهيمنة الخارجية على مقاليد البلاد وأرسى نظاما مافيوزيا دمر كل مقومات الدولة الوطنية وفاقم من هيمنة القوى الأجنبية التي باتت المحدد الرئيسي في نتائج الانتخابات واختيار من يحكم تونس، لتبسط المافيا المحلية الوكيلة نفوذها على الاقتصاد وتحوله الى اقتصاد أسود تحولت من خلاله البلاد الى مصب نفايات وفضاء لتبييض الأموال وترويج السموم، وتعمّقت سيطرة بعض العائلات القليلة على ثروات البلاد والتحقت الشرائح الوُسْطى بصفوف الفُقراء. وبالتالي كان الوضع ملائما لصعود الخطاب الشعبوي والفاشي وانتعاشه. ولقد تفشى هذا الخطاب بمقولات مشبوهة تمجد اللاسياسة وتدعو لحكم التكنوقراط وتهاجم التنظيمات الحزبية والمنظومات السياسية وتحاول فصل الأفكار والعقائد السياسية عن الصراع السياسي، زيادة عن الدور الذي تلعبه بعض المنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب. كما اقترنت موجة الشعبوية باتجاه عام لمحاولة خلق تمثيليات مناطقية كانت نتيجة شعور عام بأن ابن المنطقة فقط هو من يقدر على خدمتها دون أدنى مراعاة للبرامج المقدمة من طرف المترشح أو لكفاءته، وقد سمح ذلك بصعود عدد من النافذين والفاسدين والمهربين في مناطقهم الضيقة، وكان أغلبهم يهدف إما لحماية نفسه أو لخدمة مصالحه.
• الانهيار الاقتصادي والمالي وتفشي الفساد: حيث تغولت لوبيات الفساد واتسع نفوذها صلب جهاز الدولة بسبب تضخم الرأسمالية الطفيلية واقتصاد الريع وتضخم شراهتها للنهب وتزايد شراستها في الاستغلال. فالفساد في تونس مرتبط بشكل عضوي بسيطرة الأثرياء الجدد من البرجوازية الطفيلية والاحتكارية في تونس ونشاطها الاقتصادي ولذلك يتضح زيف دعوات محاربة الفساد دون إعادة النظر في كامل منظومة التبعية الاقتصادية والتنموية المعتمدة.
فقد أجبرت الأولغيرشية الحكومات المتعاقبة على الاستمرار في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المعادية لمصالح الفئات الشعبية، فلم تقم بأية إجراءات إصلاحية تمس الصناديق الاجتماعية أو إعادة الإنتاج في القطاعات المعطلة أو حل أزمات شركات القطاع العام أو تطوير القطاع الفلاحي في البلاد. ونتيجة لهذه السياسات النيوليبرالية المعتمدة والتي كرست في مجلة الاستثمارات والمجلة الجمركية ورسملة البنوك وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وبتعاظم التدخل الخارجي في شؤون البلاد الداخلية وربط البنك المركزي التونسي بالدوائر المالية الغربية، انهار الدينار التونسي وتواصل توقف الانتاج وازدادت المديونية حتى وصلت الى مستويات غير مسبوقة، وارتفعت الأسعار ونسب التضخم وازدادت نسبة البطالة وانهارت كل الخدمات والمرافق العمومية والحيوية من صحة وتعليم ونقل وبيئة وثقافة.
كانت هذه حصيلة عشرة سنوات من حكم تجار الدين والمافيا المالية المتحالفة معهم تم فيها تبديد كل آمال وأحلام شعبنا في الحرية والكرامة الإنسانية والسيادة.
ما العمل؟
إن الحل لن يكون إلا من جنس المشكل وذلك عبر تغيير عميق في الواقع السياسي والوضع الاقتصادي والاجتماعي، وليس هناك من أسلوب ناجح وناجع لتحقيق التغيير إلا اسلوب المقاومة الشعبية السلمية المدنية فهي النهج الوحيد الذي تنتهجه الشعوب الحرة لوضع حد للخيارات الفاشلة والمنظومات السياسية القائمة عليها دون ارتباك ولا تردد. ولكن نهج المقاومة السلمية المدنية والانتفاض الشعبي لن يكون حاسما ما لم يتسلح برؤية سياسية يفرض تحقيقها بإرادته الحرة. وفي وضعية تونس فالرؤية الوطنية السيادية لتصحيح مسار البلاد وإنقاذها واضحة وهي تقوم على:
ـ العمل على تطوير الحراك الاحتجاجي الجهوي والقطاعي المطلبي والمشروع إلى حراك شعبي شامل من شمال البلاد الى جنوبها يهدف الى الحسم مع المنظومة الحالية وخياراتها التي أوصلت البلاد الى مرحلة الإفلاس والوصاية وفرض حل البرلمان بقوة التظاهر السلمي والمنظم فقد تحول الى حلبة تمارس فيها المجاميع التكفيرية والاخوانية والشعبوية المتحالف مع المافيا الوكيلة أبشع أنواع العنف المادي واللفظي وحولته بؤرة للتلاعب بمصالح الشعب.
- تحرير السلطة القضائية والأجهزة الأمنية من سطوة المافيا من جهة ومن اختراقات الجهاز السري للنهضة وعناصره التي تكبل عملها من جهة أخرى لتتمكن من القيام بدورها في محاسبة كل من اجرم في حق تونس وشعبها.
- إسقاط الحكومة الحالية التي استحكمت عليها أغلبية الفساد والإرهاب وفرض حكومة انتقالية وطنية تنفذ اجراءات اقتصادية سيادية تنقذ البلاد من الافلاس والوصاية تتمثل في :
إلغاء قانون استقلالية البنك المركزي، ليتم التحكم الشامل في توجيه الاستثمارات حسب الأولويات الوطنية.
تعليق سداد الديون بقرار سيادي مثلما حصل مع ايسلندا في أعقاب أزمة 2008 تحت ضغط الشارع وكذلك تعليق العمل بكل الاتفاقيات الدولية الثنائية بما في ذلك عقود الطاقة إلى جانب تعليق العمل بكل القوانين التي التي يمكن أن تعيق تنفيذ الخطة الوطنية للإنقاذ ولو أدى الأمر تنظيم استفتاء شعبي في الغرض يشكل تفويضا شعبيا للحكومة الانتقالية.
مطالبة الشركات الأجنبية التي تنشط في السوق المحلية (شركات الاسمنت/الاتصالات/البنوك الأجنبية…) بتأجيل تحويل أرباحها لدول المنشأ و المقدرة بـ 3,5 مليار دينار.
إيقاف العمل بالحوافز المالية والجبائية للشركات ومنح الاستثمار التي تستنزف دافعي الضرائب كل سنة بحوالي 2 مليار دينار دون نتائج تذكر على مستوى الإيرادات الجبائية.
التراجع عن قرار إلغاء سداد الديون الديوانية المتخلدة بذمة عدد كبير من الموردين والمقدرة ب 10 مليار دينار.
وضع برنامج عاجل لإعادة تأهيل المنشآت العمومية خاصة العاملة في القطاعات الإستراتيجية (الطاقة-النقل-الاتصالات-البنوك…)، بما في ذلك تمكين هذه المنشآت من التمويل من البنوك المحلية وليس الأجنبية (علما أن نصيب القطاع العمومي من الاقتراض المحلي لا يتجاوز 5 مليار دينار مقابل 60 مليار دينار للقطاع الخاص ووقف صرف المنح والامتيازات السخية والغير ذات جدوى المسندة للشركات غير المقيمة (3 مليار دينار سنويا).
ترشيد استخدام الموارد وفي هذا السياق ضرورة فرض الضرائب التصاعدية على الثروات الكبرى والحد من الإنفاق غير المنتج وإيقاف عملية الهدر في الإنفاق من أجل توفير مزيد من الموارد.
إجراءات حاسمة لمقاومة التهريب وإدماج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد المنظم وأولها تغيير العملة بمجرد انتهاء مرحلة الحجر لإدخال السيولة الكبيرة الموجودة لدى المهربين للدورة الاقتصادية وتعبئة الموارد البشرية لإدارة الجباية خلال المرحلة القادمة لمقاومة التهرب والغش الضريبي، للتمكن من تعبئة موارد مالية كبيرة.
سياسات حمائية لاسترجاع السوق الداخلية حصر الواردات في الغذاء والدواء والطاقة ومستلزمات الصناعة والفلاحة للخفض في عجز الميزان التجاري، وتوجيه جزء من الإنتاج لتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين كغرض مركزي قبل استهداف انتاج سلع وخدمات كمالية أو ترفيهية، مع اتخاذ تدابير عاجلة لفائدة القطاع الفلاحي منها إلغاء ديون صغار الفلاحين وتقديم مساعدات عينية من الوقود والأسمدة والأعلاف.
إشرلك الجيش الوطني في انجاز هذه الخطة الاقتصادية.
ـ انقاذ البلاد من الافلاس والانهيار وتحرير القضاء والأمن لمحاسبة كل من أجرم في حق تونس سيفتح أمام الشعب أفقا سياسيا جديدا يمكنه من الدخول في مرحلة البناء الاستراتيجي من خلال:
1 – منوال تنموي وطني ينهي للأبد اقتصاد الريع وسيطرة الرأسمالية الطفيلية التي تضخمت شراهتها للنهب وتزايدت شراستها في الاستغلال .منوال يجعل الإنسان في قلب ساحة الفكر والحركة وصانع التنمية وهدفها في آن واحد، فالتنمية تطّرد وتتسارع إذا توفر العمل المنتج لكل مواطن، وبارتفاع إنتاجية العمل يصبح توفير الصحة والتعليم والسكن والنقل أمرا ممكنا بل وضروريا باعتبار أن أهم دوافع استمرار التنمية المستقلة هو شعور الناس بأنهم مستفيدون من جهودهم، وهو ما يحقق الإدماج الاقتصادي والاجتماعي. وهذا لن يتم دون عودة الدولة لدورها التنموي سواء من خلال التخطيط الذي يمكن من استخدام جميع الموارد الوطنية المادية والطبيعية والبشرية بطريقة علمية لتحقيق الرفاه لعموم الشعب، أو من خلال مبدأ التوازن بين تدخل الدولة والسوق الشفاف بحيث يكون لها الدور الاستراتيجي التعديلي الذي يتكامل مع السوق الشفاف والذي يكرس التنافسية إضافة إلى التكامل بين القطاع العام و الخاص والتضامني .
2 – اعتبار أن النظام السياسي قضية أمن قومي جراء العجز الذي أضحى عليه والأزمات التي أفرزها والتنصل المستمر من مسؤولية الحكم، ولذلك بات من الضروري تعديل النظام السياسي باتجاه توحيد السلطة التنفيذية ومراجعة علاقتها بالسلطة التشريعية واستكمال بقية المؤسسات الدستورية.
3 – اعتبار النظام الانتخابي خيارا اقتصاديا واجتماعيا بالأساس، فلا يمكن لنظام انتخابي فاسد يفتح المجال على مصراعيه لتزوير ارادة الناخبين بالمال السياسي والإعلام الموجه والاختراق الخارجي أن يفرز حكما وطنيا يحفظ مصالح البلاد وسيادتها مؤسساتها ويرسي تنمية وطنية شاملة وعادلة بين الفئات والجهات.وعليه يجب تغيير النظام الانتخابي بمايفتح باب المشاركة الواسعة للقوى الشعبية صاحبة المصلحة في التغيير العميق للنظام الاقتصادي والاجتماعي.فهذه الفئات حرمت من المشاركة السياسية ولا بد أن تفتك التمثيل الموسع وهو من أهم أسس الديمقراطية السليمة، لأن قدرة أي نظام اقتراع على ضمان تمثيل مختلف قوى الشعب يعتبر أهم معيار من معايير صحته وعدالته،هذا علاوة على ضمان وجود كتل قادرة على الحكم ووجود كتل قادرة على المعارضة الجدية والفاعلة وكذلك الحد من هدر الأصوات، فضلا عن ضرورة تنقية المناخ الانتخابي بتنظيم تمويل الحملات الانتخابية وتمويل الأحزاب وتنظيم مراكز سبر الآراء وتنظيم الإعلام وإحكام تنظيم السجل الانتخابي. كما يجب أن يكون هذا النظام الانتخابي معززا بآليات مصاحبة على غرار التجارب الديمقراطية الرائدة اليوم، وهي تلك التي مزجت بين السلطة الشعبية المباشرة في شكل تشاركي والديمقراطية التمثيلية بما يعزز المشاركة الشعبية ويوسع قاعدة الديمقراطية.