الغُرباء
عبد الحكيم برنوص
استحياء شديد ومَسكنة ظاهرة، يقترب الشاب «الأسود» من الطاولة، وينبس ببضع كلمات غير مسموعة، وبعربية مكسورة « فِصَبييلِ الله ….» ، جهْر السين وتفخيم اللام، يجعلان للعبارة وقعا خاصّا على الآذان.
«مامادو» الشاب الأسود البشرة، القادم من قلب إفريقيا، قطع آلاف الكيلومترات، ليقفَ على بعد متر واحد منا، باسطا يده في انثناء ، مُستجديا ومواربا اليد الأخرى في جيب السراويلات، دعوناه ليُكمل حلقتنا فاستجاب بعد تردد وتوجس.
مامادو قوي البنية، في بداية العقد الثالث على ما يبدو، بشرة سميكة داكنة، وأسنان صقيلة شديدة البياض مرصوصة رصا، وشفتان منفوختان إلى الأمام. مامادو «نوع» آخر من البشر، عِرق مختلِف، هو العرق الذي درسناه عن إفريقيا السوداء في كتب الجغرافيا القديمة ( غريب، إفريقيا قارة أخرى، لا ننتمي إليها، بعيدة عنا على الأقل، وكأنّ لنا قارتنا التي لا اسم لها، هل نحن أفارقة حقا؟؟)
عند الفجر ـ يحكي مامادو ـ لم يُفرق أهل القرية الصغيرة بين أغصان الأشجار وعناصر ميليشيا، عسكرها جلّه من الأطفال. اقتادوا السكان إلى الساحة الصغيرة تحت الشجرة الكبيرة، حينها شرع زعيم العصابة ، يقيس للناس اللباس الذي يناسبهم، يفصل الأيدي عن معاصمها، الأيدي التي شوهدت تلقي بورقة الانتخاب داخل صندوق الحكومة البلاستكي، يدٌ بكُمًّ وأخرى بنصفه، يُنقي الأجساد من أطرافها ، كما يُنقّى السمك من زعانفه.لتُلقى الأطراف البشرية كأنها أذناب سحالي وعظايا.
يرفض مامادو أن يعبّ من كأس الشاي الصغيرة التي مددناها إليه، ولم يقبل كرمنا المتواضع إلا بعد إلحاح شديد. أخبرنا هذا الإفريقي أنّ كؤوس شاينا شديدة الحلاوة، وأن المغربي «يشرب» من السكر في أسبوع ،ما يعادل سنة من «الشرب» عندهم.
لم يطلب مامادو غير الفلوس، الفلوس التي قد تُسعفه في الهجرة ، إلى حيث يسكن الرجل الأبيض وحيث تنام الفتاة البيضاء.
اليوم جاءت «الهجرة» تسكن بيننا، تسير في شوارعنا، وتمشي في أسواقنا، وتتكلم لغتنا، وتدرس في جامعاتنا.
وقبل أن يصل مامادو إلى وجهته، طال به المقام بيننا، والمرحلة التي حسبها قصيرة، أصبحت طويلة الأمد، وإلى أجل غير مسمى. وفي انتظار اللحاق بفتاته الممدّدة هناك ،فرّخ مامادو صغارا له وصغيرات يشبهونه تماما، أضحينا نجدهم في المساجد، وفي أبواب الأسواق يعرضون حُليهم وهواتفهم غير الأصيلة تماما. ويحدث أن يجلبوا بضاعتهم من بلدهم ، من إفريقيا، «طواطم» وتعويذات وبخور وأعشاب يبيعونها لِعّينة من الناس مخصوصة منا.
وهكذا بدأت مدينتنا تتلون بألوان لم نكن نعرفها أو نلقي لها بالا، ورُفعت بوابة الدخول إلى البلد، فاختلطت الألوان وتمازجت الأعراق، واختلفت اللغات الواقفة عند أضواء مرورنا، تستعطفنا وهي ترفع لافتات صغيرة مكتوب عليها، أن هؤلاء «العوائل» يعتبروننا أشقاءهم الذين يتوسمون فيهم خيرا.
إن الهجرة التي كنا نبعث بها، أصبحت تقع بين ظهرانينا. ومدينتنا التي طالما اعتبرناها قاعة انتظار، ريثما تُفرغ القوارب حمولتها هناك ، حيث سبقنا مامادو، لنظفر بحلمه المتّكئ، غصت هذه المدينة بالغرباء، وأضحينا نراهم في أماكن كنا نعدّها حصرا لنا.
كنا أصحاب الهجرة بلا منازع، إذا استطاع الواحد منا أن يظفر «بالأوراق»، فلا محالة أن يتبعه أبناء الدار والدوّار أجمعين، فننتظر عودتهم مدججين بالأوروهات والسيارات والأثقال التي تنوء بها العربات ، يأتون فيحكون لنا عن بلاد العجائب هناك، ومزاحمتهم للرجل الأبيض الغر الساذج، ويهزؤون من «نيّته» الزائدة عن الحد. كنا نغبطهم ( لم نكن نحسدهم، وكنا ننتظر دورنا في العبور بكل ثقة) وننتشي بانتصاراتهم، وهم يستولون على أحياء بكاملها بعد أن طردوا سكانها الأصليين، وكنا نضحك ملء أذقاننا، ونعجب لهؤلاء الغزاة كيف يبطلون تكنولوجيا الناس هناك، وبقليل من الذكاء يحصلون على رزم من المال كبيرة. وكان عجبنا كبيرا عندما يكتفي أولئك القوم بالابتسام ، أمام نزق أبنائنا وهم يمارسون هواياتهم الجميلة في الغش والتحايل واختصار المسافات الطبيعية.
كنا نعقد حواجبنا غضبا وتنتفخ أوداجنا، ضد كل سلوك يُحقَّر فيه أبناؤنا الطيبون، ويَحطّ من كرامتنا التي أرسلنا قليلا منها مع هؤلاء الأبناء، ونعتبر تلك السلوكات عنصرية مقيتة وشوفينية وإقصاء وفهما قاصرا للعالم الكوني الذي نريد أن يبنيه غيرنا من دون مساهمة منا.
كنا نعدُّ «حليقي الرؤوس» شياطين خرجت من جهنم، و وَدِدْنا لو ردموهم وسكبوا عليهم من المهل الذي يشوي الوجوه. وتنفرج أساريرنا، كلما عرفنا أن مركبا من مراكب «طارق» ألقى حِمله هناك، حيث توجد مغارات علي بابا ، حيث يوجد الذهب والسيارات واللحم البضّ، والهوى والفستق وأنواع العطور، لِنَهُبّ في بداية موسم العودة من الشمال، لنستقبل هؤلاء الفاتحين الجدد، مطمئنّين أن التاريخ يُعيد نفسه كل مرة، فلا داعي للجزع أو العمل.
قريبا سنعود إلى إعادة كتابة أطمارنا، فنوسّع فيها، ونقسم خاناتها بحسب ألواننا الجديدة، مسلمين وإسرائليين وأفارقة وأكراد وصينيين… لم نعد وحيدين، فقد ارتدت إلينا هجرتنا من حيث لم نحتسب،و أصبح الناس يقصدون ديارنا، وأضحى هذا الآخر الذي كنا نسافر إليه، أضحى مقيما بيننا إقامة دائمة وأصبح مواطنا لنا ، له أوراقه التعريفية كما لنا أوراقنا، وولج مساجدنا وأسواقنا وحاناتنا، وتكلم بلسان غير لساننا، يزاحمنا كما كنا نزاحمه، ويأكل من رغيفنا الذي لطالما اعتبرنا أنفسنا أصحابه الوحيدين.
إن القبول بالآخر الغريب، وقبول التعايش معه، والتساكن مع لونه الغريب ولغته الغريبة، مرحلة متقدمة من الوعي، واستئصال لبقايا العنصرية، التي خلقها الذّهن البشري عبر التاريخ، حيث تنتفي الفروق بين الأبيض والأسود الأصفر (ألوان صنعها التمييزُ، والتمييز عنصرية)، ويكون التفاضل بالتقوى ، تقوى الله وسلطة القانون.