اليسار المغربي ومتطلبات العمل في الوسط القروي
عبد الصمد العقاني
اعتبارات كثيرة أدت في السابق إلى انحصار التواجد اليساري في المدن والحواضر، حتى أن العديد من المهتمين والباحثين في مجال العلوم السياسية والاجتماعية قد جعل من هذا اليسار تيارا أو «ظاهرة» حضرية بامتياز، وذلك بسبب محدودية الحضور اليساري في البوادي والقرى وندرة تنظيماته الحزبية والنقابية والجمعوية المتواجدة هناك، وتعود أسباب هذا الانحصار كما هو معلوم إلى سنوات الرصاص والقمع الشديد الذي سلط على القوى والأحزاب اليسارية بسبب رفضها للنهج التحكمي الذي مارسته المؤسسة الملكية آنذاك بكثير من الشطط والتعسف، ورغبة هذه القوى بالتالي في بناء أسس نظام ديمقراطي يحقق الكرامة والعدالة الاجتماعية، لتستمر بذلك معاناة القوى اليسارية عبر أشكال متعددة من المنع والمضايقات التي استهدفت مناضليه وتنظيماته في الأوساط القروية، كما استعملت مختلف أساليب الضغط والترهيب لمنع الساكنة من الانخراط في صفوف هذه التنظيمات أو الترشح باسمها خلال الاستحقاقات الانتخابية، والغاية كما يعلم الجميع هي رغبة السلطات المخزنية في تثبيت مشروعيتها وتركيز سلطتها على مستوى المناطق القروية، واستعمالها بالتالي كخزان انتخابي واحتياطي سياسي لمواجهة ومحاصرة القوى الديمقراطية واليسارية المتمركز أساسا في المدن والحواضر، وهكذا ستعمد السلطات المخزنية أو بالأحرى المؤسسة الملكية إلى التحالف مع الأعيان وكبار الإقطاعيين وتدفع بهم إلى واجهة العمل السياسي والحزبي من خلال تأسيس عدد من الأحزاب الإدارية والتي ستمنح لها فيما بعد مقاليد المجالس القروية والغرف الفلاحية وحصة مهمة من المقاعد البرلمانية، كما سيتجند هذا التحالف المخزني الإقطاعي لإجهاض كل البرامج والمشاريع التي جاءت بها الحكومة التقدمية لعبدالله إبراهيم والتي كانت تستهدف القيام بإصلاح زراعي حقيقي يستفيد منه بالأساس صغار الفلاحين وعموم الساكنة القروية التي ظلت ترزح تحت نير الفقر والهشاشة قبل وبعد الاستقلال، حيث سيتم التخلي عن تنفيذ المخطط الخماسي 60ـ64 في صيغته الأصلية ويتم التراجع عن الإصلاح الزراعي واستبداله بما سمي آنذاك ب»الإصلاح الفلاحي» مع ما حمله هذا الاستبدال من تراجعات استفاد منها كبار الملاكين وعدد من الشخصيات النافذة، الذين استولوا على الكثير من الضيعات والأراضي المسترجعة.
اليســـار أمــام واقــع التحـــولات الجـــديـــدة
أكيد أن مياها كثيرة قد جرت تحت الجسور خلال العقدين الأخيرين وتغيرت بالتالي الكثير من المعطيات الإدارية والسياسية والاجتماعية والثقافية داخل المناطق القروية، فلم يعد القمع والتضييق بنفس الحدة التي كان عليها خلال سنوات الرصاص، كما أن منسوب الوعي لدى ساكنة القرى والبوادي قد عرف بدوره تقدما ملحوظا بفعل الانتشار النسبي لمؤسسات التعليم ووسائل الإعلام والتواصل، ولم تعد تجدي أساليب التخويف و الترهيب في إبعادهم عن الاهتمام بالشأن العام والمطالبة بتحسين أحوالهم وخوض مختلف الأشكال النضالية لأجل ذلك، وهكذا فقد تتبعنا في السنوات الأخيرة العديد من الاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية التي نظمها السكان في اتجاه العمالات والولايات وأحيانا في اتجاه العاصمة الرباط، وقد واكب هذا الحس النضالي المتصاعد بروز دينامية مهمة في المجالين الجمعوي والتعاوني بمختلف المناطق القروية، دينامية تقودها فعاليات محلية من الشباب المتنور والأطر المنحدرة من هذه المناطق، بل الأكثر من ذلك تتبعنا خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة كيف استطاع حزب أصولي تحقيق اختراقات مهمة على صعيد العالم القروي، وحصد بالتالي عددا لا يستهان به من الأصوات والمقاعد (حوالي ثلاثة آلاف مقعد).
خلاصة القول من كل ما سبق هي أن اليسار لم يعد له من مبرر موضوعي يحول دون تقوية وتعزيز تواجده في المجال القروي، لأنه من الصعب إن لم نقل من المستحيل إحداث تغيير في ميزان القوى لصالح البناء الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، مالم تتمكن القوى اليسارية من تقوية حضورها في هذا المجال الذي يضم قرابة نصف سكان المغرب ( 49%) و يستأثر بأكثر من 43% من الثروات الاقتصادية للبلاد، علما أن ساكنته مازالت ترزح تحت براثن الفقر والهشاشة الذي بلغت نسبته أكثر من 80 %.
المطلوب إذن من اليسار وفيدرالية اليسار بالتحديد أن تستحضر هذه المعطيات والوقائع وهي تصوغ الخطوات العملية لمشروعها الاندماجي، وتضع البرامج والخطط المبتكرة لتجاوز مكامن الضعف والخلل التي تحول دون انتشار فكرها وتنظيماتها في الوسط القروي.
خلاصة القول من كل ما سبق هي أن اليسار لم يعد له من مبرر موضوعي يحول دون تقوية وتعزيز تواجده في المجال القروي، لأنه من الصعب إن لم نقل من المستحيل إحداث تغيير في ميزان القوى لصالح البناء الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، مالم تتمكن القوى اليسارية من تقوية حضورها في هذا المجال الذي يضم قرابة نصف سكان المغرب ( 49%) و يستأثر بأكثر من 43% من الثروات الاقتصادية للبلاد، علما أن ساكنته مازالت ترزح تحت براثن الفقر والهشاشة الذي بلغت نسبته أكثر من 80 %.
المطلوب إذن من اليسار وفيدرالية اليسار بالتحديد أن تستحضر هذه المعطيات والوقائع وهي تصوغ الخطوات العملية لمشروعها الاندماجي، وتضع البرامج والخطط المبتكرة لتجاوز مكامن الضعف والخلل التي تحول دون انتشار فكرها وتنظيماتها في الوسط القروي.
مــداخــــل الحـضــور والانـتـشــار
تعزيز التواجد اليساري في الأوساط القروية يمر عبر عدد من المداخل والمجالات التي دأبت أحزاب فيدرالية اليسار على الاشتغال ضمن إطارها، بل واكتسبت من خلالها خبرات وتجارب مهمة على هذا الصعيد، لكن وبالنظر إلى التحولات السوسيوـ ثقافية والاقتصادية والسياسية الكبيرة التي عرفها المجال القروي في العقدين الأخيرين، صار من الضروري العمل على تطوير هذه التجارب والخبرات بكثير من الإبداع والابتكار، وذلك حتى تؤمن أحزاب الفيدرالية لنفسها مزيدا من الفعالية والنجاعة في تحقيق ما تصبو إليه من أهداف وبرامج، سواء على مستوى العمل في الواجهة الحزبية أو على مستوى النضال في باقي الواجهات النقابية، الجمعوية والانتخابية، و كذا على صعيد الحركات الاحتجاجية والترافعية.
المستـــوى الحــزبـــي:
حزبيـا، المسألة القروية ينبغي أن تكون على رأس الاهتمامات وتتجاوز تلك الفقرات المختصرة التي تخصص لها عادة في أوراق المؤتمرات الوطنية وبياناتها الختامية، فإذا ما استثنينا فترة الستينات التي عرفت نوعا من الاجتهاد في هذا المجال، وذلك من خلال اقتراح مشروع الإصلاح الزراعي و توزيع الأراضي على الفلاحين الصغار والمعدمين و خوض العديد من المعارك النضالية من أجل هذا المطلب، إلى درجة أن أحد المناضلين اليساريين آنذاك قد بادر إلى توزيع حوالي 10 آلاف هكتار على جماهير الفلاحين الفقراء بمنطقة بني ملال/أزيلال، وذلك بإيعاز وتشجيع من الشهيد المهدي بن بركة، ويتعلق الأمر هنا بالمقاوم والعضو السابق بالمكتب السياسي لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي المرحوم البشير لحمر(القايد البشير) الذي كان حينها يشغل منصب قائد بتلك المنطقة، فباستثناء هذه الفترة لم تأخذ المسألة القروية ومن ضمنها أوضاع الفلاحين مكانتها المستحقة في برامج ومطالب أحزاب اليسار واجتهاداته في المجال التنظيمي.
الوضع اليوم صار يستدعي من أحزاب اليسار تقديم مقترحات و أفكار جديدة ومبتكرة تستجيب لانتظارات الساكنة القروية عىل كافة المستويات، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، بيئيا، حقوقيا….الخ، أفكار ومقترحات لها القدرة على التعبئة وتحقيق الالتفاف حول اليسار.
نفس التجديد والابتكار أيضا ينبغي أن يطال رؤية اليسار لمسألة التنظيم، فلقد دأبت مختلف التقارير والأنظمة الداخلية لأحزاب اليسار على التعامل مع المجال القروي بنفس المعايير التي تتعامل بها مع المدن والحواضر، وذلك دون أن تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية والثقافية للمجال القروي.
لابد إذن من وضع تصور تنظيمي جديد يتلاءم وهذه الخصوصيات ويمنح بالتالي لأحزاب اليسار تنظيمات محلية مندمجة ومؤثرة في محيطها العام، وذلك من خلال استنبات هياكل جديدة داخل البناء التنظيمي لهذه الأحزاب، تكون مهمتها تطوير التنظيم الحزبي على صعيد القرى والبوادي، كإحداث مجالس وطنية وجهوية وإقليمية ذات طبيعة استشارية وتنفيذية، وكذا تنظيم مؤتمرات وملتقيات بنفس الصيغة لفائدة مناضلي ومناضلات المناطق القروية، وإنشاء منظمات موازية تهتم بالمجال القروي على غرار التنظيمات الشبيبة والنسائية.
أما على صعيد الفروع المحلية فالضرورة تستدعي اجتهادا أوسع في هذا الباب، لأن الفروع هي أكثر الوحدات التنظيمية قربا والتصاقا بانشغالات الساكنة القروية، والاجتهاد ينبغي أن يطال العديد من المقتضيات ذات الصلة بطرق تنظيمها وتدبيرها، سواء تعلق الأمر بشروط العضوية ومستوياتها، أو تعلق الأمر بتحديد مساطر وكيفيات تصعيد الأجهزة المسيرة ومنظومة اتخاذ القرار، و إنشاء وحدات تنظيمية صغيرة على مستوى الدواوير والمداشر.
التصور الجديد للفروع الحزبية في العالم القروي ينبغي أن لايحصر هذه الفروع في مهامها التقليدية، بل ينبغي أن يعزز دورها التنويري والتحديثي داخل محيطها الاجتماعي، ويمنحها المحفزات الضرورية لتحسين أدائها في المجالات ذات الطابع الخدماتي والتضامني بشكل عام.
وإذا كانت الهياكل والبنيات التنظيمية لاتكفي للحصول على فروع فاعلة ومؤثرة، فالتصور التنظيمي الجديد ينبغي أيضا أن يواكب هذه الفروع المحلية بترسانة من المبادرات على صعيد التدبير والتسيير، خاصة في مجالات الاستقطاب، التواصل، التنشيط، التشغيل السياسي، وكذا التكوين وآليات المواكبة والتقويم، وذلك على أساس أن تستلهم هذه المبادرات أسسها وبرامجها من التجارب والممارسات الحديثة والعصرية في هذا المجال، وتأخذ بعين الاعتبار ـ كما أسلفن اـ خصوصيات الوسط القروي، سواء تعلق الأمر بالاختلافات المجالية والجغرافية (سهول، جبال، صحاري، مناطق رعوية، واحات، الرحل…الخ)، أو تعلق الأمر بالأوضاع الاجتماعية والثقافية لكل منطقة من هذه المناطق (طبيعة العلاقات الأسرية والقبلية، درجة المحافظة، وضعية المرأة، التقاليد والعادات، مستويات التدين والمعتقدات…الخ)، هذا بالإضافة إلى حجم الإمكانات الاقتصادية التي ينبغي أن تؤخذ هي الأخرى بعين الاعتبار، وذلك إلى جانب مستويات الدخل في كل منطقة على حدة.
المستـــوى الحــزبـــي:
حزبيـا، المسألة القروية ينبغي أن تكون على رأس الاهتمامات وتتجاوز تلك الفقرات المختصرة التي تخصص لها عادة في أوراق المؤتمرات الوطنية وبياناتها الختامية، فإذا ما استثنينا فترة الستينات التي عرفت نوعا من الاجتهاد في هذا المجال، وذلك من خلال اقتراح مشروع الإصلاح الزراعي و توزيع الأراضي على الفلاحين الصغار والمعدمين و خوض العديد من المعارك النضالية من أجل هذا المطلب، إلى درجة أن أحد المناضلين اليساريين آنذاك قد بادر إلى توزيع حوالي 10 آلاف هكتار على جماهير الفلاحين الفقراء بمنطقة بني ملال/أزيلال، وذلك بإيعاز وتشجيع من الشهيد المهدي بن بركة، ويتعلق الأمر هنا بالمقاوم والعضو السابق بالمكتب السياسي لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي المرحوم البشير لحمر(القايد البشير) الذي كان حينها يشغل منصب قائد بتلك المنطقة، فباستثناء هذه الفترة لم تأخذ المسألة القروية ومن ضمنها أوضاع الفلاحين مكانتها المستحقة في برامج ومطالب أحزاب اليسار واجتهاداته في المجال التنظيمي.
الوضع اليوم صار يستدعي من أحزاب اليسار تقديم مقترحات و أفكار جديدة ومبتكرة تستجيب لانتظارات الساكنة القروية عىل كافة المستويات، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، بيئيا، حقوقيا….الخ، أفكار ومقترحات لها القدرة على التعبئة وتحقيق الالتفاف حول اليسار.
نفس التجديد والابتكار أيضا ينبغي أن يطال رؤية اليسار لمسألة التنظيم، فلقد دأبت مختلف التقارير والأنظمة الداخلية لأحزاب اليسار على التعامل مع المجال القروي بنفس المعايير التي تتعامل بها مع المدن والحواضر، وذلك دون أن تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية والثقافية للمجال القروي.
لابد إذن من وضع تصور تنظيمي جديد يتلاءم وهذه الخصوصيات ويمنح بالتالي لأحزاب اليسار تنظيمات محلية مندمجة ومؤثرة في محيطها العام، وذلك من خلال استنبات هياكل جديدة داخل البناء التنظيمي لهذه الأحزاب، تكون مهمتها تطوير التنظيم الحزبي على صعيد القرى والبوادي، كإحداث مجالس وطنية وجهوية وإقليمية ذات طبيعة استشارية وتنفيذية، وكذا تنظيم مؤتمرات وملتقيات بنفس الصيغة لفائدة مناضلي ومناضلات المناطق القروية، وإنشاء منظمات موازية تهتم بالمجال القروي على غرار التنظيمات الشبيبة والنسائية.
أما على صعيد الفروع المحلية فالضرورة تستدعي اجتهادا أوسع في هذا الباب، لأن الفروع هي أكثر الوحدات التنظيمية قربا والتصاقا بانشغالات الساكنة القروية، والاجتهاد ينبغي أن يطال العديد من المقتضيات ذات الصلة بطرق تنظيمها وتدبيرها، سواء تعلق الأمر بشروط العضوية ومستوياتها، أو تعلق الأمر بتحديد مساطر وكيفيات تصعيد الأجهزة المسيرة ومنظومة اتخاذ القرار، و إنشاء وحدات تنظيمية صغيرة على مستوى الدواوير والمداشر.
التصور الجديد للفروع الحزبية في العالم القروي ينبغي أن لايحصر هذه الفروع في مهامها التقليدية، بل ينبغي أن يعزز دورها التنويري والتحديثي داخل محيطها الاجتماعي، ويمنحها المحفزات الضرورية لتحسين أدائها في المجالات ذات الطابع الخدماتي والتضامني بشكل عام.
وإذا كانت الهياكل والبنيات التنظيمية لاتكفي للحصول على فروع فاعلة ومؤثرة، فالتصور التنظيمي الجديد ينبغي أيضا أن يواكب هذه الفروع المحلية بترسانة من المبادرات على صعيد التدبير والتسيير، خاصة في مجالات الاستقطاب، التواصل، التنشيط، التشغيل السياسي، وكذا التكوين وآليات المواكبة والتقويم، وذلك على أساس أن تستلهم هذه المبادرات أسسها وبرامجها من التجارب والممارسات الحديثة والعصرية في هذا المجال، وتأخذ بعين الاعتبار ـ كما أسلفن اـ خصوصيات الوسط القروي، سواء تعلق الأمر بالاختلافات المجالية والجغرافية (سهول، جبال، صحاري، مناطق رعوية، واحات، الرحل…الخ)، أو تعلق الأمر بالأوضاع الاجتماعية والثقافية لكل منطقة من هذه المناطق (طبيعة العلاقات الأسرية والقبلية، درجة المحافظة، وضعية المرأة، التقاليد والعادات، مستويات التدين والمعتقدات…الخ)، هذا بالإضافة إلى حجم الإمكانات الاقتصادية التي ينبغي أن تؤخذ هي الأخرى بعين الاعتبار، وذلك إلى جانب مستويات الدخل في كل منطقة على حدة.