ترهات فقهاء عصرنا المتزمتين
◆ ذ. رشيد العلوي
لا يسع كل متتبع لما يجري في عصرنا إلا أن يؤكد ترهات فقهاء عصرنا، فقد انكب ابن رشد على شرح وتفسير الرؤيَّة العلميَّة كما وضعها أرسطو وطورتها شعوب أخرى قبل أن تصل إلى العرب الذين أضافوا إليها اجتهادات ظلَّت راسِخةً في تاريخ العلوم إلى اليوم، رغم أن العديد من تلك الجهود لا تزال في المكتبات الغربيَّة.
صحيح أن العقل العِلمي وجد في أوربا الحديثة أرضيَّةً خِصبة بفضل عصر التنوير وقبله النَّهضة الأوروبيَّة التي دفعت بالطبقة الثالثة إلى تبني أيديولوجيا جديدة كان لها وقعها في الرقي بالعصر الذهبي الأوروبي، ولقد كان لمعظم الاكتشافات العلميَّة منذ القرن الخامس عشر أثرٌ واضِح في الرُّقي بوضع البشريَّة من جميع المناحي قبل أن تظهر نتائِجه السِّلبيَّة على البيئة والاستغلال المتوحش للثروات الطبيعيَّة.
حرص ابن رشد على تقديم مدونة فلكيَّة وطبيَّة وطبيعيَّة متقدمة على ما جاء به المشارِقة، ولقد اختبر الطِّب ممارسةً وتنظيراً واجتهد في فهم الحركات الطبيعيَّة ونِظام الفلك برمته، غير أنه لم يستطع، لربما لظروفه الخاصة، أن ينتج نظريَّة علميَّة قادرة على منحه مكانة مرموقة في مجال العلوم، بالمقارنة مع ما أنتجه في الفقه وفي الفلسفة.
ظهر بين عشيَّةٍ وضحاها في العقود الأخيرة فقهاء ومشايخ مدعومين من طرف التيار الوهابي لتبخيس قيمة العلوم ولضرب جهود ابن رشد والقدماء، وصاروا في اتجاه غلبة العقل الفقهي وأحكام الوحي على العقل الوضعي وأحكام البشر، ودافعوا عن حداثة النص القرآني داعين عُنوةً إلى حداثة إسلاميَّة من طراز خاص، ولأن العلم المعاصر منحهم إمكانيَّة الولوج إلى المعلومة ومواكبة مستجدات العصر بكل شفافيَّة دون عناء بالمقارنة مع مراحل تاريخيَّة ماضيَّة حيث يفرض على المتتبع السفر بحثاً عن الكتب لمواكبة العلوم واجتهادات الغير، فهم لا يبذلون أي مجهود لتغليب الحقيقة العلميَّة على الإيمان، بل ناصروا الإيمان على حساب المعرفة ضاربِين بعرض الحائِط كل التراكمات التي حرص عليها العقل العلمي.
يذهب العقل الفقهي الجديد إلى تبني خرافات تحت مسمى: “الاعجاز العلمي”، فهذا زغلول النجار المصري في زيارته إلى المغرب في أبريل الماضي، واجهه الشباب بأسئلتهم العلميَّة والدقيقة مطالبين إياه بالجواب عنها، غير أنه تهرب كعادته منها وسارع إلى تقديم تصريحه في الفايسبوك قائلا: “لكل أمة حفنة من الأشرار الذين يتبرأون من عروبتهم وينسلخون عن دينهم”، وقد اتهم اليسار المغربي بأنه حرض الطلبة لإحراجه معتبراً أن اليسار مجرد حفنة “تجهل بكل من حقائق العلم وأصول الدين”، في حين أن أسئلة الطلبة كانت حول موضوع المحاضرة وذهب بعضها الى وضع مفارقات تخص مصطلح “الاعجاز القرآني” بما هو مجال يسيء للإسلام أكثر من العلم.
يبدو لي شخصيا أن أمثال زغلول من المشتغلين بما يسمى بالإعجاز القرآني والذين يسعون إلى المطابقة بين حقيقتين مختلفتين ومتناقضتين: حقيقة الوحي المعبر عنها في النص الديني (القرآن تحديداً)؛ وحقيقة العلوم؛ أي بين الحقيقة المطلقة: التي يدعو إليها الشرع والتي يصدقها المؤمن والمتدين كل الصدق دون الاعتراض عليها أو التشكيك فيها، وبين الحقيقة النسبيَّة التي تدعو إليها العلوم من خلال توصلها إلى نتائج عقليَّة أو تجريبية بفضل البحث الشائِك لإيجاد أجوبة شافية لقضايا وموضوعات تؤرق البشر.
تنتمي الحقيقة الشرعيَّة أو الدينيَّة الواردة في القرآن إلى مجال المُقدس بما هي حقيقة إلهيَّة، في حين أن الحقيقة العلميَّة النسبيَّة تندرج ضمن مجال “الدنيوي” بما هي حقيقة بشريَّة صاغها العلماء والمشتغلون بمجال المعرفة العلميَّة بفضل اجتهاداتهم وبحوثهم وتمتلك من الحجج والبراهين ما هو متاح لكل النَّاس لتصدِيقه أو تكذيبه وفق تطورات العلوم.
يذهب العقل الأصولي إلى الزعم أن كل ما توصل إليه العلم اليوم وما يمكن أن يتوصل إليه مستقبل هو شيء مذكور في القرآن وأن البشر لا يمكنه أن يُثبت في مجال العلم شيء آخر غير ما جاء به الوحي، بل والادعاء أن العديد من النظريات العلمية خاطئة لأنها لا تتماشى مع تأويله “أي العقل الأصولي” للنص القرآني، مما يجعل بعض العلماء واجتهاداتهم خارج دائرة الايمان.
حينما صاغ ابن رشد قولته الشهيرة ليفصل بين مجال الشريعة ومجال الفلسفة، فهو كان يهدف إلى لجم العقل الفقهي الذي يبخس من قيمة العلوم الوضعيَّة، غير أن الفرق بين فقهاء عصره وفقهاء اليوم بون شاسع من جهة المنهج ومن جهة التواضع والضلوع في العلوم، فأكثر فقهاء اليوم بعيدون كل البعد عن العقل العلمي، وهم مسخرون للتجوال في مختلف البلدان للتفوه بترهات وخرافات أقل ما يمكن القول عنها إنها تستخف بعقول الشباب والعامة وتستصغر بالناشئة اعتقادا أنها ستجيب عن أسئلة راهنة بالعودة إلى مجال المقدس، في حين أن شباب اليوم وناشئة المستقبل يمتلكون من المعرفة ومصادرها والولوج إلى العلم في مجتمع المعرفة ما لا يظنه زغلول وفلوله.
لا نتعجب كثيرا لهذا العقل الأصولي المتزمت الذي يقلل من شأو الشباب ومن قدوة الجامعات العلمية لأن هناك جماعات مصالح وضعت الأرضية المناسبة لجمهور الضبعة بفضل إمكانات لا تتصور واستثمارات (في فضائيات الترهات والخرافات ومجلات وأقلام مسخرة) تقدر بالملايير خدمة لمصلحة تجار الدين.
صادق جلال العظم أطلق على هذه العمليه التوفيق القسري للنصوص….. الزمن و تقدم العلم و كشوفات المباحث كفيله بإخراج هؤلاء المتوهمه من الاطر المعرفيه التي هم أصلا ضيوف ثقيلي الوطأة عليها.