فلسطين باعتبارها مصدر الإبداع وجوهر الهوية الثقافية العربية
مراد الخطيبي
بداية، لا بد من التذكير بأن فلسطين، بوصفها قلب الصراع بين العرب والصهاينة، شكلت مند مدة طويلة مصدرا أساسيا للكتابة الإبداعية في المغرب. نتذكر بالمناسبة الصدى الإيجابي الذي خلفته مجلة ” أنفاس” “”Souffles حين صدورها خلال مرحلة الستينات . اتخذت هذه المجلة الرائدة ” فلسطين وتخليص الثقافة من النزعة الاستعمارية ” شعارا لها خاصة بعد هزيمة 1967. وقد كانت ملهما أساسيا للكتاب المغاربة من أجل تناول القضية الفلسطينية سواء شعرا أو نثرا. المجلة كما هو معروف كان قد أسسها الشاعر و المناضل السياسي عبد اللطيف اللعبي والناشط السياسي أبراهام سرفاتي واللذان اعتقلا معا خلال حكم الحسن الثاني ملك المغرب وتوقفت عن الصدور بأوامر ملكية. وهناك نص شعري للشاعر عبد اللطيف اللعبي يلخص الخط التحريري للمجلة من حيث ارتباطها بالقضية الفلسطينية وقد صدر في عدد خاص من مجلة “أنفاس” تحت عنوان: “كلنا لا جئون فلسطينيون Nous sommes tous des réfugiés Palestiniens”.
الانزياح الروحي نحو فلسطين شكل لي ولمجموعة من المبدعين المنتمين لمختلف الأجيال مادة خصبة للكتابة. تعلقت بفلسطين الرمز والصورة والإبداع وأنا تلميذ بسلك الثانوي. أغلب القصائد التي كنت أنشرها في الصفحات الثقافية لبعض الجرائد الوطنية حينذاك كانت حول فلسطين. أتذكر أنني فزت بالجائزة الأولى للشعر في مسابقة ثقافية نظمتها ثانوية ابن خلدون بمدينة الجديدة. وكانت قصيدتي الفائزة حول فلسطين. بمعنى أن فلسطين شكلت لي في وقت مبكر جدا مصدرا للإلهام والتحرر من الآلام التي كانت تلفني ونوعا أيضا من التمرن على الكتابة و تقفي أسرارها. فلسطين كانت ولا زالت بالنسبة إلي هي الأرض وهي المسكن وهي غسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وابراهيم طوقان ومريد البرغوتي وجبرا ابراهيم جبرا. كيف لا تعشق فلسطين وتتبنى قضيتها بل وتعتبرها من قضاياك الأساسية نحو التحرر والتخلص من الاستبداد والظلم وأنت تقرأ “عائد إلى حيفا” وتقرأ قصائد محمود درويش التي تشعرك بقوة الانتماء لهذا الوطن العربي الكبير؟
كما قلت سابقا، فلسطين ليست فقط رقعة أرضية ترزح تحت براثن العدو الغاشم ولكنها قوة روحية تجلب لها عشق ليس فقط العرب ولكن عشق الإنسانية جمعاء لأنها قصيدة مكتملة البناء. فلسطين هي مهد الإبداع ومنتهاه. هي الحياة الآن وغدا. هي المستقبل بالمتعدد. كيف لا تنتابك قشعريرة وأنت تسمع محمود درويش يصدح شعرا مزلزلا في الآفاق:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء
ايها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف – ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة اخرى- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز – ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص… وانصرفوا
وعلينا، نحن، ان نحرس ورد الشهداء
وعلينا، نحن، ان نحيا كما نحن نشاء
ايها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر مُرّوا اينما شئتم ولكن
لا تمرّوا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في ارضنا ما نعمل
ولنا قمح نربّيه ونسقيه ندى اجسادنا
ولنا ما ليس يرضيكم هنا
حجر… او خجل
فخذوا الماضي، اذا شئتم الى سوق التحف
وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، ان شئتم
على صحن خزف
لنا ما ليس يرضيكم، لنا المستقبل ولنا في ارضنا ما نعمل
ايها المارون بين الكلمات العابرة
كدِّسوا اوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت الى شرعية العجل المقدس
او الى توقيت موسيقى المسدس
فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف وشعب ينزف
وطن يصلح للنسيان او للذاكرة
ايها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا اينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا اينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في ارضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الاول
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا… والاخرة
فاخرجوا من ارضنا
من برنا… من بحرنا
من قمحنا… من ملحنا… من جرحنا
من كل شيء، واخرجوا
من مفردات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة!
من جهة أخرى، المثقف الحقيقي لا بد أن يقتنع اقتناعا لا تشوبه شائبة بأن القضية الفلسطينية كانت ويجب أن تظل مصدرا من مصادر اهتماماته لأنها جزء أساسي من هويته الثقافية الموسومة بالتنوع والتعدد والتميز. أن تكون مثقفا يعني أن تصطف إلى جانب المظلومين و إلى جانب القيم الإنسانية النبيلة وأن تناضل من أجل التحرر وأن تنتقد كل أشكال العنصرية والهمجية والتسلط التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد شعب مقهور ومسلوب الأرض والحرية ظلما وعدوانا. باستطاعة المثقف أن يقوم بالكثير من الأشياء لدعم قضية فلسطين من بينها محاربة التطبيع مع هذا الكيان الغاشم من خلال التكثيف من كتابة مقالات الإدانة لهذا الكيان بكل اللغات ومن خلال التوقيع على العرائض المناهضة له والانسحاب من الندوات والمؤتمرات و اللقاءات الفكرية والثقافية والعلمية التي يوجد فيها ممثلون عن هذا الكيان العنصري الظالم. على المثقف كذلك أن يبذل مجهودا لترصد زلاتهم على مستوى الإعلام وأن يترجم بعض كلامهم العنصري حول العرب من أجل فضحهم بالإضافة إلى فضح طبعا ما يمارسونه منذ سنوات طويلة من تقتيل وبطش واغتصاب في حق الشعب الفلسطيني. ألا يلاحظ المثقف العربي عموما كيف استفاد هذا الكيان ولا زال مما يسمى ب “الهولوكوست” حيث اخترع حكاية فيها الكثير من التضليل مفادها على حسب زعمه أن قرابة 6 ملايين يهودي تعرضوا إلى محرقة من النازية تحت إمرة أدولف هتلر. علما أن المصادر التاريخية الحقيقية تقول أن مجمل اليهود الذين كانوا متواجدين في أوروبا حينذاك لم يكونوا يتجاوزون 6.5 مليون يهودي.
وبالتالي، لا بد أن يقوم المثقف العربي من فضح ممارساتهم الشنيعة في حق الشعب الفلسطيني الأعزل من خلال الصور التي توضح اعتداءاتهم وعنفهم وجبروتهم وأيضا من خلال ترجمة وتحليل خطاباتهم العنصرية ونشرها عبر كل المواقع الإلكترونية المتاحة، وفي الجامعات وفي المحافل الثقافية وفي المؤتمرات العلمية كما يفعلوا هم أيضا.
ستبقى فلسطين هي الأفق الثقافي المنشود مادامت أغلب الشعوب العربية والتي، إن نالت بلدانها الاستقلال منذ سنوات إلا أنها مع ذلك لا زالت تعاني من القمع والفقر والتهميش وغياب العدالة وضعف التعليم وضعف الخدمات الصحية والبطالة والفوارق الطبقية والشطط في استعمال السلطة. وبالتالي، ففي نظري فلسطين هي مستقبل كل الطموحات التي تنشدها الشعوب العربية التواقة إلى التحرر والحرية والرخاء والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية. وما الشعارات حول فلسطين التي عمت احتجاجات ما يسمى بالربيع العربي لخير دليل على ذلك. فلسطين هي الماضي وهي الحاضر وهي المستقبل.