اليسار المغربي ومتطلبات العمل في الوسط القروي
عبد الصمد العقاني
المستـــوى النقــابـــــي:
الملاحظ أن الحضور اليساري في هذا المجال يقتصر فقط على بعض المناطق القروية المحدودة، حيث لم يعرف بعد ذلك الانتشار الذي يفترض أن يكون عليه، إذا ما قارناه بالعمل النقابي في الأوساط الحضرية، فالتواجد اليساري بهذه المناطق يكاد لا يتجاوز فئة العمال الزراعيين في الضيعات الفلاحية الكبرى وكذا فئة عمال المناجم والمقالع، هذا بالإضافة إلى الامتدادات النقابية الأخرى المنتشرة عادة في أوساط موظفي وأجراء القطاع العام العاملين بالوسط القروي(تعليم، صحة، جماعات محلية…الخ)، وترجع أسباب هذا الوضع إلى أن التأطير النقابي لم ينتشر بالشكل المطلوب، ليشمل أهم وأكبر فئة من الساكنة النشيطة بالمجال القروي، ونقصد هنا فئة الفلاحين الصغار والمتوسطين التي تضم أكثر من 4 ملايين فلاح، وتنشط أهم قطاع اقتصادي على صعيد هذه المناطق ، حيث تعد الفلاحة مصدر دخل لأكثر من 80 % من الساكنة القروية.
وهكذا نجد أن العمل النقابي في أوساط هذه الفئة لم يتجاوز بضع فروع متناثرة هنا وهناك، وذلك بالرغم من المجهودات والمحاولات التي بذلت في هذا الصدد منذ نهاية السبعينات وبداية التسعينات وأقبرت في المهد بفعل عوامل التضييق والترهيب التي مورست من طرف السلطات، لكن وخلال السنوات الأخيرة بدأنا نشهد عودة تدريجية للعمل النقابي في بعض القرى والبوادي، لكنه ما يزال يراوح مكانه بسبب هشاشته وضعف انتشاره وعدم إيلائه الاهتمام الذي يستحقه من طرف المركزيات.
لهذا فأحزاب اليسار مدعوة اليوم، سواء داخل إطاراتها السياسية أومن داخل المركزيات النقابية حيث يتواجد مناضلوها، إلى وضع تصور جديد للعمل النقابي في هذا المجال، والمساهمة بالتالي في تمكين الفلاحين الصغار والمعدمين من الانتظام داخل إطار نقابي قوي ومتماسك، تمتد فروعه وتنظيماته لتشمل مختلف المناطق القروية، خاصة وأن العمل النقابي يظل باستمرار ذلك العمق الاستراتيجي لقوى اليسار والرافد الأساسي الذي يمنحها إمكانات بشرية ونضالية هائلة، هي في أمس الحاجة إليها في وقتنا الراهن.
المستـــوى الجـمــعــوي والتعــاونــي:
تعزيز وتقوية الحضور اليساري داخل النسيج الجمعوي القروي، يتطلب المزيد من الجهد والمثابرة لتوسيع مداه وتحسين أساليب اشتغاله، فعلى الرغم من أهمية التجارب التي يقودها عدد من مناضلاته ومناضليه في هذا الميدان، إلا أن هذا الحضور قد ظل هو الآخر منحصرا في بعض المناطق دون غيرها، علما أنه قد كان بإمكان اليسار أن يكون في وضعية أفضل داخل المشهد الجمعوي في القرى والبوادي، خاصة وأن هذا الأخير قد عرف خلال العقدين الأخيرين طفرة مهمة، تمثلت في ظهور آلاف الجمعيات التنموية التي اشتغلت على تقديم خدمات اجتماعية متعددة لفائدة الساكنة القروية (تعليم أولي، صحة، تكوين، أنشطة مدرة للدخل، نقل مدرسي ..الخ)، كما رافعت من أجل إنجاز البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية (ماء، كهرباء، مسالك، أنشطة مدرة للدخل…الخ)، مستغلة في ذلك الموارد المالية المهمة التي تدفقت على القرى والبوادي خلال هذه الفترة (تمويلات المبادرة، التعاون الدولي، المغرب الأخضر)، الأمر الذي فتح لها ولنخبها المسيرة آفاقا واسعة للتواصل والتفاعل مع ساكنة هذه المناطق.
لقد صرنا نلاحظ اليوم كيف صارت العديد من الجمعيات المسيرة من طرف الأعيان ومنتخبي الأحزاب الإدارية والحكومية بالوسط القروي تتحكم في مصائر ورقاب الساكنة وتبتز مواقفهم السياسية والانتخابية عبر التحكم في صبيب وحجم الخدمات الاجتماعية المقدمة إليهم، سواء تعلق الأمر بالجمعيات المشرفة على تدبير مياه السقي أو المياه الصالحة للشرب، أو تلك المشرفة على تسير دور الطالب ودور الأمومة وخدمات الإسعاف والنقل المدرسي، أو تعلق الأمر بالجمعيات المهنية التي تقدم بعض الخدمات للفلاحين (بذور، أسمدة، آليات ومعدات فلاحية، تسهيلات مالية….الخ).
المطلوب إذن من قوى اليسار أن تدفع بمناضليها إلى مزيد من العمل والانخراط في هذا المجال، وذلك عبر استثمار الإمكانيات الذاتية التي تتوفر عليها في هذا المجال، ونعني بذلك التجارب والخبرات التي راكمها مناضلوها في المجال الجمعوي، خاصة على مستوى المنظمات التربوية (المواهب، الشعلة، حركة الطفولة، ADEJ…الخ) والجمعيات الحقوقية، النسائية والثقافية، وذلك في أفق تطويرها وتوسيع مجالها التنظيمي والإشعاعي ليشمل مختلف المناطق القروية، ويمتد إلى باقي الميادين والقطاعات.
ولا نحتاج إلى التذكير بأن العمل الجمعوي الذي نتوخاه هنا، هو ذلك العمل الجمعوي الذي يتأسس على مبادئ الديمقراطية واحترام الاختلاف، ويتجه بالتالي نحو تعبئة الساكنة المحلية وتحفيزها على المشاركة في إحداث التغيير المنشود، وذلك باعتباره عنصرا أساسيا في عملية التحديث المجتمعي وبديلا وظيفيا للتشكيلات القبلية والعشائرية السائدة في الوسط القروي.
ارتباطا بنفس الموضوع، هناك مجال آخر ينبغي أن يأخذ من اليسار حقه من الاهتمام والانخراط، ويتعلق الأمر بالعمل التعاوني الذي لا يقل أهمية عن نظيره الجمعوي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار قدرته على استنهاض الطاقات الكامنة والخلاقة في أوساط الساكنة القروية وقدرته أيضا على تحسين أحوالهم المادية والمعيشية، هذا بالإضافة إلى دوره في ترسيخ قيم ومبادئ العمل الجماعي والتضامني فيما بينهم، خاصة وأن اليسار ما فتئ يؤكد منذ الاستقلال على أهمية العمل التعاوني في تحقيق التنمية الفلاحية والقروية وتجاوز العديد من المشاكل والصعوبات التي تعترضها في هذا السياق ، خاصة ما يتعلق بتفتت الملكيات الزراعية وصغر حجمها، ومحدودية الإمكانيات المادية واللوجستية لدى الفلاحين الصغار، وكذا هيمنة الوسطاء والمستغلين على مفاصل وقنوات التسويق والتخزين…الخ.
المستوى الانتخـــابـــي:
لن نختلف مع أي كان إذا قلنا بأن أحزاب اليسار الديمقراطي ينتظرها عمل جبار وكبير على هذا المستوى، خاصة وأنه من الصعب، إن لم نقل من المستحيل إحداث تغيير في ميزان القوى السياسي مالم تتمكن هذه الأحزاب من تعزيز حضورها الانتخابي على صعيد المناطق والجماعات القروية.
فالوسط القروي يضم لوحده أكثر من 85% من الجماعات المحلية على الصعيد الوطني، أي حوالي 1282 جماعة قروية مقابل 221 مدينة ومركز حضري فقط، كما أن هذه الجماعات القروية تضم أكثر من 21 ألف مستشار مقابل 6696 مستشار في الوسط الحضري، من جانب آخر يتوفر الوسط القروي كذلك على 12 غرفة فلاحية تتكون من622 عضو منتخب، يمثلهم 07 أعضاء في مجلس المستشارين.
أيضا تكمن القوة الانتخابية لهذا الوسط القروي في دوره الوازن والحاسم خلال الانتخابات التشريعية، حيث يتحدد مصير العشرات من المقاعد البرلمانية بفضل أصوات الساكنة القروية ومشاركتها المكثفة نسبيا.
أمام هذا الحجم الكبير من المقاعد الانتخابية، كيف يمكن لأحزاب اليسار الديمقراطي أن تهيئ نفسها لإيجاد أكثر من 20 ألف مرشح ومرشحة لخوض غمار الانتخابات تحت لوائها؟ مرشحين ومرشحات لهم بالضرورة حد أدنى من الكفاءة والأخلاق؟
بالتأكيد المهمة ليست باليسيرة، لكنها غير مستحيلة إذا ما استثمرت أحزاب اليسار كل الإمكانيات البشرية والعلائقية المتاحة لها.
ختامــــا نعيد التأكيد بأن تعزيز وتقوية التواجد اليساري في المناطق القروية لابد أن يتم وفق رؤية جديدة ومندمجة تستهدف مختلف الأبعاد والواجهات النضالية، وذلك عبر فتح نقاش موسع يمكن أحزاب فيدرالية اليسار من تشخيص الأوضاع واقتراح الحلول والمقاربات الملائمة، وقبل ذلك لابد لهذه الأحزاب من خوض حملة كبرى ومستمرة للتواصل مع ساكنة العالم القروي والتعرف عن قرب على انشغالاتهم وانتظاراهم.