ما أشبه الأمس باليوم…!
يمكن القول إن العقل لا يعيش في يومنا محنة، إذا كنا نقصد بالمحنة ذلك الابتلاء الشديد الذي يواجه فيه العقل امتحان الاضطهاد، إن العقل اليوم يعيش وضعا تراجيديا، لأنه يوجد في سياق معاصر تتقلص فيه عموما مساحة حضور العقل.
كان الهاجس “بالأمس” هو معرفة لماذا لم يتجذر الخطاب العقلاني في تربة الثقافة العربية، مقارنة مع تغلغله داخل ثقافات أخرى، وهذا ما يفسر اهتمام المفكرين (محمد أركون، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي…) بنقد أركيولوجي وجينيالوجي لمفهوم العقل، وللخطابات التي تملأ مجالات فكرنا وقولنا وفعلنا في الحاضر، وربط ذلك بمرجعياتنا التاريخية و المعتقدية و الفكرية، وفي هذا السياق يصح الحديث عن “محنة” العقل داخل الثقافة العربية جراء ما تعرض له من اضطهاد. (محنة العقل مع المعتزلة، و مع ابن رشد…) . كما أن مفهوم “اليوم”، يعني حاضر الثقافة العربية (سؤال النهضة)، و عدم حضورها داخل مشهد إنتاجات العقل في مختلف المجالات، على غرار باقي الثقافات، و استمرار ”محنة” العقل، مع ما تعرض ويتعرض له العقل من اضطهاد (حسين مروة، ناصر حامد أبو زيد، فرج فودة…).
لقد استمر “الأمس” بالنسبة لمجتمعاتنا “أمسا” في جميع الأزمنة: غياب تجذر العقل في الثقافة العربية، بينما كان “الأمس” في ثقافات أخرى هو الانتقال من غياب العقل إلى إرسائه، ثم أصبح للعقل أمسا وحاضرا ومستقبلا، حيث كان الهاجس في أمس العقل هو المزيد من التغلغل وتأسيس نوع من السلطة المطلقة، أما “اليوم” فنحن نعيش نفس اليوم، نحن جميعا أمام الوضع التراجيدي الحالي للعقل وهو وضع مرتبط بالمسار المدمر للعقل، أو بتشكل نمط جديد من العقل، يمكن نعته بالعقل الليبرالي في آخر تجلياته “العقل الإعلامي”. فثقافتنا لم تعرف انتصارا للعقل أصلا، لكنها تعيش مثل باقي الثقافات زمن التشوهات والمسخ الذي يطال العقل.
وعليه يمكن أن نقول تجاوزا، إن محنة العقل في الثقافة العربية، بالأمس واليوم، ترجع إلى كونه كان وما يزال يواجه ثلاثة مسارات تعمق غيابه: الفكر التقليدياني وما يعمل على إرسائه من ممارسات لاعقلانية، في المشهد الاجتماعي؛ والفكر السلفي، وما يغرسه من تمذهب معاد للتفكير ومنمط للأفراد وللجماعات، وتداعيات ذلك على المشهد السياسي؛ والفكر التكنوقراطي الذي يسجن العقل في رؤية عقلانية واحدة ترى في التطور العلمي عقيدة وفي إرادة القوة حلا لكل المشكلات وتجعل التقنية غاية وليست وسيلة، سواء تعلق الأمر بالمشهد الاقتصادي أو بكل ما يتعلق بالحياة.
تبعات محنة العقل “بالأمس”
لقد كان لعدم إرساء العقل داخل الثقافة العربية، انعكاس واضح على المجال السياسي، إذ لم تتجذر الثقافة الديموقراطية في تدبير التعددية والاختلاف والتنوع. فالديموقراطية تفترض تغلغل العقلانية داخل المجتمع واتساع دائرة الجدال العمومي، بينما نلاحظ سوء مآل الجدال العمومي، إن لم نقل غيابه أصلا.
لم يعمل العقل على نقد الجذور والبنيات الثقافية، التي تعمل على ترسيخ رفض الاختلاف، وهو رفض إيديولوجي، لما يثبته واقع الأمر السياسي. وبالتالي لم تعرف منظومتنا الثقافية، هذا الحضور الجدلي “للتصور العقدي والتصور التاريخي”، على اعتبار أن الأول يؤسس للواحد، والثاني يؤسس للمختلف والمتعدد، لذا ” لم يندمج الاختلاف عندنا كمعطى من معطيات الفكر.1 ”
لم يؤسس العقل لثقافات سياسية متنافسة ومتصارعة، على مستوى الأفكار والمفاهيم، لا فقط على مستوى المواقع والأشخاص. إن الثقافة السياسية تعبير عن تشكل فكر يعي معنى التعددية، لا فقط في أبعادها الثقافية (العرق، اللغة، الدين)، بل في تجلياتها السياسية كذلك. لقد ترتب عن عدم إرساء العقل في الثقافة العربية، غياب الأفكار والنظريات السياسية، وغياب المشاريع والتيارات، وبالتالي غياب نخب قادرة على استنطاق الواقع والنظام السياسي القائم، و بالتالي يمكن الحديث عن أزمة جدال عمومي، كأحد تبعات عدم تجذر العقل لدينا، فلا سبيل للحديث عن هكذا جدال دون توطين للفكر النقدي، الذي يمتح معنى معمارية وجوده من قوتين ضاريتين أساسيتين هما: العقلانية والحرية، يتعلق الأمر بتأصيل لبنات الديموقراطية داخل الدولة، وتجذير تربة الاختلاف داخل المجتمع، من أجل خلق تراكم على مستوى الثقافات السياسية، لكن حينما تكون مساحة الفكر ضئيلة، تصبح الحرية مجرد وهم، ويغدو العقل وعاء فارغا، وبالتالي تكون الديموقراطية شعارا قائما على صراعات مجانية، تطغى فيها الحساسيات والانفعالات والمزايدات، بينما تغيب النخبة الفاعلة.
لقد طغى على الثقافة العربية عموما، خطاب الضحية، (الاستعمار واستنزاف الدول القوية للدول المستضعفة)، والذي رغم مشروعيته، فقد تحول إلى خطاب تبريري، حيث لم تخرج الدولة الضحية، من تجربة الأمس بدروس تاريخية، في أفق بناء مشروع عقلاني تحريري، بل عكس ذلك عاينا وقوع “انحراف إيديولوجي مهول فرضته الدول على شعوبها.” 2
بكل تأكيد عانت الدول العربية خصوصا والدول المستضعفة عموما، من تقهقر طال جميع الأصعدة، ووصل إلى حدود الشعور ب”الإهانة”، وما أفرزته من مكر عقلي ضد العدو الخارجي(الإرهاب)، عوض التركيز بما فيه الكفاية على الوضعية الداخلية لهذه الدول وما نتج عنها من انكسارات ناتجة عن الخراب الساسي، وما زرعه من معاناة وأسى، وما ولده من قساوة “تقضي على كرامة الناس…أصبح العالم العربي عرضة لإهانة ذاته بذاته…” 3
تجليات “محنة “العقل اليوم:
يعرف العقل في الحاضر نوعا من الانغلاق المعرفي، يختزل المعرفة في التكنولوجيا، ويفضي إلى الانغلاق الواقعي. فالمعرفة المعاصرة لم تعد منشغلة بصراعها ضد اللامعرفة، تحمل على عاتقها تغيير الأفق الإنساني نحو ما هو أفضل، بل أصبحت المعرفة مهووسة بالصراع من أجل الهيمنة. هكذا يمكن الحديث عن تشكل نزعة اقتصادوية إيديولوجية معقلنة… تفسر كل شيء بالعلاقة مع المصالح الاقتصادية، ومع المردودية والفعالية… كما أنها عقلانية تكنولوجية، تنظر إلى الإنسان كشيء وكقوة عاملة ومستهلكة، يمكن تطويعها عوض النظر إليه كشخص حر يسعى نحو رقيه الإنساني. إنها عقلانية أداتية، تحول فيها العقل إلى سلطة، عوض أن يكون في خدمة الإنسان، أصبح الناس في خدمته والامتثال المطلق لتعاليمه4.
يتعلق الأمر بعقل ينتمي للمرجعية الثقافية السائدة حاليا ” الليبيرالية “، والتي غدت منظومة مرجعية موحدة، وأصبحت بمثابة ديانة للعصر، إنها منظومة تختزل الثقافة في المنظور الاقتصادي والتكنولوجي، تعتبر التقنية كثقافة أحادية تجعل الخبراء هم أسياد العالم. لقد أصبحت الثقافة في مرجعيتها الحالية تدعو إلى عولمة الإنسان والطبيعة، عوض السعي نحو أنسنتهما. إنها ليست رؤية منفتحة على مستقبل البشرية، بل رؤية تخزينية لا تنظر إلى المعرفة كنقد، وتعتبر الحاضر خالدا لا مستقبل أفضل منه. إن المرجعية الثقافية الحالية، هي عبارة عن ثقافة إسكاتولوجية5: ثقافة النهاية، إذ تعلن نهاية الإنسان ككائن تاريخي ثقافي ونهاية الثقافة المتعددة المرجعيات، لكي ترسخ تطابقا بين الثقافة والتقنية. إنها ثقافة تعطي للفردي وللبعدين السيكولوجي والاتصالي الأولوية على الكوني وعلى البعدين الاجتماعي والتواصلي.
سيؤدي إرساء العقل الليبيرالي إلى الانغلاق المعرفي والانغلاق الواقعي، وسيفضي إلى إنتاج نوع معين من العقل يمكن نعته ب”العقل الإعلامي”، الذي يقوم على الخلط الاستراتيجي بين الواقعي والافتراضي، بين الواقعي واللاواقعي. لعل تقلص مساحة الفكر واللوغوس وتراجع اللغة والخطاب، يكشف عن تغلغل الشاشة / الصورة، التي أصبحت تلعب دورا مركزيا في تحديد كينونة الذات، وبالتالي سننتقل من مرحلة المرآة وانعكاس التفكير في الذات على وعيها بذاتها من خلال اللغة، إلى مرحلة السيلفي، حيث ستحل شاشة سمارتفون محل “مرحلة المرآة”، وهذا ما يجعل من السيلفي تساؤلا حول الذات بمعايير مغايرة لما كان عليه الأمر سابقا.
إن العقل الإعلامي يقوم على قلب جذري خطير على مستوى بناء المعرفة والحقيقة، فهو من جهة يعمل على تعويض المعرفة بالمعلومة، وتحويل العالم إلى فرجة للاستهلاك، وليس فرصة للتفكير، وبناء عوالم المعنى. ومن جهة ثانية، يعمل على إرساء شروط جديدة في تحديد الحقيقة، وبالتالي لم تعد هناك معايير موضوعيىة صارمة داخل العالم الافتراضي، لم تعد هناك أهمية للتحليل والبرهان، بل أصبحت المراهنة أكثر على إثارة الأحاسيس، وعلى معيارية الإثباتات والتكرارات. فالحقيقة أصبحت ترتبط بمعيار سرعة الانتشار بين أكبر عدد من الناس، وأهمية خبر وقيمة حدث رهينة بكثافة تداولهما بين القنوات وبين الأشخاص، حيث يقع نوع من التحريض والتهافت والمزايدة من أجل صنع الخبر والحدث الفائق. أن تشاهد يعني أن تفهم، فيكفي أن تكون شاهدا لما وقع لكي تعرف ما وقع.
لقد أصبح الزمن الإعلامي مهيمنا، وتراجع العقل السياسي، ليحتل محله العقل الإعلامي، وأصبح الزمن السياسي تابعا للزمن الإعلامي الذي يقتات من وضعية التأجيج والخطابات الانفعالية، حيث تشكل السرعة عرضا أساسيا من أعراض هيستيريا الافتراضي. لم يعد العقل منشغلا بالتفكير والتحليل والبرهان، بل أصبح مهووسا بالإثارة والفرجة والتسلية، وبالتالي بالمشاهدة والتخزين. لقج تقلصت مساحة التفكير والتحليل، وتراجع العقل السياسي، وهذا ما يبرر طغيان العقل الإعلامي بكل ما يحمله من استئساد الفورية والمباشرية والانخراط في الترديد والتكرار.
كما أن العقل الإعلامي السائد، أغرق الفضاء العمومي بالآراء عوض الأفكار، فتحول الجدال العمومي إلى جدال عامي، وكل ما يصاحب ذلك من تمييع سياسي. إنه رأي مستبد يسعى إلى تأحيد المعلومة والذوق. يتعلق الأمر بجمهور نريد إغراءه ومداهنته أكثر من إخباره، وهو جمهور مستعد دائما للاستهلاك السلبي لما يقع من أحداث، مثلما يفعل الجمهور السلبي مع السينما ومع التلفزيون6.
ولعل تطوير تكنولوجيا الاتصال، جعل حرية التعبير ضرورة، أكثر مما هي اختيار سياسي، فأخذ الحق في الكلام لم يعد يحتاج إلى شروط أو طقوس معينة، وهذا يعني أنه أصبح من الممكن تداول الرأي (وليس التفكير)، في كل ما يتعلق بالشأن العام، لكنه تداول في أغلب الأحيان يأخذ زي الفضائح والسب والشتم، وبالتالي عوض خلق فضاء لجدال عمومي، أصبحنا أمام فضاء خصب للجدال العامي، تملأه الأحاسيس والانفعالات، وليس الأفكار والقناعات. إن هذا الخلط الحاصل الآن بين الرأي (السياسي) والفكر (السياسي)، واختزال الثاني في الأول، يعني أننا أمام مرحلة جديدة أصبحت فيها السياسة طاغية على الكل، وهذا من شأنه أن يجر الكل إلى الحضيض7.
ما أفظع اليوم…
لقد كانت “محنة” العقل بالأمس، تكمن في اضطهاده، وعدم فسح المجال لتغلغله داخل الحياة الخاصة والحياة العامة، ولهذا لم تنغرس داخل الثقافة العربية جذور الفكر النقدي. وبالتالي فإذا كانت الثقافات الأخرى اليوم تشتكي من مآل سلطة العقل، فإننا نحن اليوم نتحسر على غيابه أصلا. كما أن “محنة” العقل اليوم لا تكمن في اضطهاده، بل في إقصائه الممنهج والناعم…
إن الانعكاس السلبي لعدم توطين العقل، يؤدي إلى تعطيل الانتصار لقيم الديموقراطية والحرية والعقلانية والموضوعية، وبالتالي تعطيل سبل تأسيس جدال عمومي، وتشجيع تصاعد نوع من النزعة الانفعالية Emotivisme، حيث أصبح كل حكم أخلاقي قيمي نتاجا فقط لميول تفضيلي، ولاختيارات فردية. هكذا فحتى ثوراتنا المفترضة (الربيع العربي)، ظلت ثورات بدون أمجاد، لأنها كانت تعبيرا عن انفعالات، وليس تجسيدا لنضج العقل وتغلغله داخل المدينة.
لقد فقدت الثقافة العربية اليوم، البريق الذي كان يستقطب دعاة العقل والعقلانية، والمنتصرين لقيم العدالة والديموقراطية، فتقلص حضور المقاومين لغياب العقل، والمدافعين عن ممكنات تجذيره، وبالتالي لم تعد المغامرة العقلانية مغرية مخيفة (بحكم اضطهادها)، بل لم يعد مرغوبا فيها.
يعرف العالم المعاصر تحولا رهيبا، بسبب العقل الإعلامي، وإذا كانت المجتمعات العقلانية تشتكي من تبعات هذا العقل على البنيات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن العقل الإعلامي تغلغل داخل مجتمع غير مسلح بالعقلانية، وهذا ما يجعل تبعاته سلبية أكثر فأكثر، تصل إلى حدود التشوهات والندب التي لا يمكن التكهن بمآل نزيفها…
ما أشبه اليوم بالأمس، حيث ما يزال العقل غائبا في الثقافة العربية، لكن على الأقل بالأمس كان العقل حلم نخبة، و كانت المدينة يوطوبيا الثقافة، كان التغيير أفقا ممكنا، أما اليوم فنحن أمام حاضر يغيب فيه العقل، أمام خلود يؤبد اللحظة، أمام صد لكل أبواب التغيير، وإتلاف الربيع و باقي الفصول، فلغة الهيمنة اليوم استأسدت، ولسان حالها يقول انغمسوا في نعيم الحاضر وجنات الاستهلاك، فالسخط مغامرة و الاحتجاج مراهقة غير محسوبة العواقب، ول تغيير سيكون نحو الأسوأ، حيث الخوف من الفيروسات و الأمراض، فإما قبول الحاضر و إما لعنة الفناء.
حقا ما أفظع اليوم…..!
1عزيز لزرق: “الحب والضيافة: مرايا فلسفية”، دار التوحيدي، 2022 ص. 170
2محمد أركون: من أجل فهم الحركة الإسلامية، من كتاب “الإسلام والعولمة والإرهاب: تداعيات الحاضر” إعداد وترجمة عزيز لزرق، منشورات كلمات بابل، 2007، ص.206
3فتحي بن سلامة، الإسلام بين مفهوم الأمة والشعور بالإهانة، من كتاب “الإسلام والعلومة والإرهاب: تداعيات الحاضر” إعداد وترجمة عزيز لزرق، منشورات كلمات بابل، 2007، ص 200-201
4عزيز لزرق: الدعوة والثورة: الدين والسياسة “، دفاتر وجهات نظر، 2015، ص. 107/114
5عزيز لزرق: “الفليسفة أو العلاقة المبتورة”، إفريقيا الشرق، 2017، (فصل نقد النزعة الإسكاتولوجية، ص.15).
6عزيز لزرق: “الحب والضيافة”، ص.89/.97/153
7عبد الله العروي: “من ديوان السياسة”، المركز الثقافي العربي، 2009ص. 154