الرسالات السماوية.. مَدْخَلٌ للحرية العقائدية

وشعوب العالم – خاصة المعتنقين منهم للرسالة السماوية المسيحية – يستعدون للاحتفال بميلاد يسوع المسيح “عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ”، ومن منطلق أن جوهر الرسالات السماوية الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام) هي في واقع الأمر جوهر واحد و إن اختلفت تجلياته بحسب الزمان و المكان، ارتأيت أن أكتب هذا المقال مراهنا على قراء محتملين سيتجاوبون معه وهذا لا يعني أنني أعتمد الاستفزاز أو الإثارة.

لا‭ ‬جدال‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تواجد‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬الثلاث‭ ‬الكبرى‭ (‬اليهودية،‭ ‬المسيحية‭ ‬و‭ ‬الإسلام‭) ‬قد‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬توطيد‭ ‬التعددية‭ ‬وهي‭ ‬صفة‭ ‬طبيعية‭ ‬للتجمعات‭ ‬البشرية‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬فان‭ ‬التعددية‭ ‬الملتصقة‭ ‬بحرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬بمثابة‭ ‬شرط‭ ‬أولي‭ ‬لكل‭ ‬تعايش‭ ‬بين‭ ‬إثنيات‭ ‬وأجناس‭ ‬متباينة‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬حوربت‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬أصحاب‭ ‬المشاريع‭ ‬الموحدة‭ ‬الرافضة‭ ‬لقبول‭ ‬الغيرية‭ ‬والاعتراف‭ ‬بها،‭ ‬فعندما‭ ‬نستقرئ‭ ‬التاريخ‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بحرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬كلف‭ ‬الإنسانية‭ ‬غاليا‭ ‬فهناك‭ ‬إثنيات‭ ‬عديدة‭ ‬اختفت‭ ‬وتم‭ ‬استئصالها‭ ‬وهذا‭ ‬الثمن‭ ‬الفادح‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أتاح‭ ‬للتعددية‭ ‬أن‭ ‬تستعيد‭ ‬أنفاسها‭ ‬والحياة‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يوضح‭ ‬استحالة‭ ‬نجاح‭ ‬التوحيد‭ ‬القسري‭ ‬كما‭ ‬يبين‭ ‬الدور‭ ‬الإيجابي‭ ‬لحرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬وللتنوع‭ ‬الثقافي‭.‬

لفهم‭ ‬ظاهرة‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬تحت‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ (‬مــا‭ ‬هــو‭ ‬الديـن؟‭):‬

نشرت‭ ‬إحدى‭ ‬المجلات‭ ‬الفرنسية‭ ‬دراسة‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والمفكرين‭ ‬أوروبيين‭ ‬وعرب‭ ‬حاولوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬إعادة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬هذا‭ ‬المنعطف‭ ‬الكبير‭ ‬و‭ ‬الخطير‭ ‬الذي‭ ‬تشهده‭ ‬الإنسانية‭ ‬ولاسيما‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الفهم‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬نزعة‭ ‬متمركزة‭ ‬حول‭ ‬ذاته‭ ‬لأنه‭ ‬مس‭ ‬في‭ ‬صميمه‭ ‬و‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬يحاول‭ ‬تغطية‭ ‬ذلك‭ ‬بصيغ‭ ‬خطابية‭ ‬متنوعة‭ ‬تصب‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الاعتراف‭ ‬بحرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انعدام‭ ‬المعرفة‭ ‬بهذه‭ ‬الحرية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬وظيفة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المجتمع،‭ ‬فبعض‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬أحدثت‭ ‬تغييرات‭ ‬جوهرية‭ ‬مستندة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقادات‭ ‬الدينية‭ ‬و‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تهميشها‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬المجتمعات‭ ‬المحتجة‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬المستبعد‭ ‬لكل‭ ‬اعتبار‭ ‬عقائدي‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬به‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية،‭ ‬فجوهر‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬و‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة‭ ‬بل‭ ‬أساس‭ ‬الثواب‭ ‬و‭ ‬العقاب‭ ‬التي‭ ‬أقرتها‭ ‬تلك‭ ‬الرسائل‭ ‬هي‭ ‬فرصة‭ ‬متكافئة‭ ‬لكل‭ ‬إنسان‭ ‬فهي‭ ‬–‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬–‭ ‬لا‭ ‬ترضى‭ ‬بطبقية‭ ‬تورث‭ ‬عقاب‭ ‬الفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والمرض‭ ‬لغالبية‭ ‬الناس‭ ‬وتحتكر‭ ‬ثواب‭ ‬الخير‭ ‬لقلة‭ ‬منهم‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يجب‭ ‬الإقرار‭ ‬أن‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬التي‭ ‬منحت‭ ‬للإنسان‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬حوافزه‭ ‬للتقدم‭ ‬والعيش‭ ‬الكريم‭ .‬

إن‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬كانت‭ ‬ثورات‭ ‬إنسانية‭ ‬استهدفت‭ ‬حرية‭ ‬معتقد‭ ‬الإنسان‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يتصادم‭ ‬مع‭ ‬حقائق‭ ‬الحياة‭ ‬وإنما‭ ‬ينتج‭ ‬التصادم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الظروف‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬تجار‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬استغلالها‭ ‬للدين‭ ‬ضد‭ ‬طبيعته‭ ‬وروحه‭ ‬لعرقلة‭ ‬أي‭ ‬تقدم‭ ‬و‭ ‬تحرر‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬وذلك‭ ‬بافتعال‭ ‬تفسيرات‭ ‬له‭ ‬تتصادم‭ ‬مع‭ ‬حكمته‭ ‬وعلى‭ ‬المفكرين‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬للدين‭ ‬بجوهر‭ ‬رسالته،‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬جميع‭ ‬الأديان‭ ‬ذات‭ ‬رسالة‭ ‬تقدمية‭ ‬ولكن‭ ‬تجار‭ ‬الدين‭ ‬الذين‭ ‬أرادوا‭ ‬استعباد‭ ‬البشر‭ ‬واحتكار‭ ‬الخيرات‭ ‬اقدموا‭ ‬على‭ ‬جريمة‭ ‬ستر‭ ‬أهدافها‭ ‬بالدين‭ ‬وراحوا‭ ‬يلتمسون‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يتعارض‭ ‬وأهدافه‭ ‬فما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬تحولات‭ ‬واهتزازات‭ ‬لا‭ ‬يمس‭ ‬الإختيارات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬أو‭ ‬النماذج‭ ‬الثقافية‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬يهم‭ ‬بالأساس‭ ‬مستويات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭.‬

إن‭ ‬الإقناع‭ ‬الحر‭ ‬هو‭ ‬القاعدة‭ ‬الصلبة‭ ‬للإيمان‭ ‬والإيمان‭ ‬بغير‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬هو‭ ‬التعصب‭ ‬والتعصب‭ ‬هو‭ ‬الحاجز‭ ‬الذي‭ ‬يصد‭ ‬كل‭ ‬فكر‭ ‬جديد‭ ‬ويترك‭ ‬أصحابه‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬تصبو‭ ‬إليه‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬فان‭ ‬العالم‭ ‬و‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬الأكثر‭ ‬سخونة‭ ‬اجتماعيا‭ ‬–‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬خصوصا‭ ‬–‭ ‬يشهد‭ ‬عودة‭ ‬كبيرة‭ ‬للمكبوت،‭ ‬فبعيدا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬فهم‭ ‬فولكلوري‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الاعتقادات‭ ‬فان‭ ‬الدراسة‭ ‬العقلانية‭ ‬والهادئة‭ ‬مطلوبة‭ ‬لفهم‭ ‬الأسباب‭ ‬العميقة‭ ‬والأبعاد‭ ‬الحقيقية‭ ‬لظاهرة‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬فبعض‭ ‬البلدان‭ ‬قد‭ ‬أحدثت‭ ‬تغييرات‭ ‬مستندة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقادات‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تهميشها‭ ‬وذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬المجتمع‭ ‬محتجا‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬المستبعد‭ ‬لكل‭ ‬اعتبار‭ ‬لحرية‭ ‬الاعتقاد،‭ ‬إن‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬وحدها‭ ‬هي‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬تحريك‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬ملاحقة‭ ‬التقدم‭ ‬فحرية‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬مستقبله‭ ‬وفي‭ ‬تحديد‭ ‬مكانه‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬وفي‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يستقر‭ ‬في‭ ‬ادراكنا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬حرية‭ ‬لاعتقاد‭ ‬الفرد‭ ‬بغير‭ ‬تحريره‭ ‬من‭ ‬براثين‭ ‬الاستغلال‭ ‬وذلك‭ ‬هو‭ ‬الأساس‭ ‬وجوهر‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية،‭ ‬وكل‭ ‬عام‭ ‬وشعوب‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬محبة‭ ‬وسلام‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

بلعربي العلوي.. عقلانية الإسلام المغربي

فلنتعرف‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬عجيبة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب‭ ‬الحديث‭.. ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬الشيخ‭ ‬بلعربي‭ ‬العلوي،‭ ‬ابن‭ ‬مدغرة‭ ‬

هاذ‭ ‬الشيخ‭ ‬الذي‭ ‬لقبه‭ ‬المغاربة‭ ‬بشيخ‭ ‬الإسلام،‭ ‬نظرا‭ ‬لمستواه‭ ‬المعرفي‭ ‬بالشريعة،‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬زعماء‭ ‬السلفية‭ ‬بمفهومها‭ ‬المغربي‭ ‬العقلاني،‭ ‬السلفية‭ ‬بمعنى‭ ‬العودة‭ ‬للسلف‭ ‬الصالح‭ ‬حقيقة‭ ‬دون‭ ‬بذور‭ ‬التطرف،‭ ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬أنه‭ ‬الشخصية‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التيار،‭ ‬ويتجاوز‭ ‬حتى‭ ‬أستاذه‭ ‬أبو‭ ‬شعيب‭ ‬الدكالي،‭ ‬وله‭ ‬تلاميذ‭ ‬كثر‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بالتيجانية‭.‬

ولكين‭ ‬نمحص‭ ‬شخصية‭ ‬العلامة‭ ‬شيخنا‭ ‬بلعربي‭ ‬العلوي،‭ ‬فإليكم‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

‭- ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬المدافعين‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة،‭ ‬وخصوصا‭ ‬خروجها‭ ‬إلى‭ ‬التعليم‭ ‬وواجه‭ ‬كل‭ ‬حملات‭ ‬التقليديين‭ ‬وأصوليي‭ ‬البادية،‭ ‬حيث‭ ‬توجه‭ ‬هؤلاء‭ ‬عند‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭ ‬احتجاجا‭ ‬على‭ ‬خروج‭ ‬البنات‭ ‬للمدرسة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬شيخ‭ ‬الإسلام‭ ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬سندا‭ ‬للمرأة‭ ‬المغربية‭ ‬في‭ ‬دخولها‭ ‬لمجال‭ ‬التعليم‭ ‬والشغل‭. ‬

‭- ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬كان‭ ‬ضد‭ ‬فكرة‭ ‬الحجاب‭ ‬ويعتبرها‭ ‬بدعة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالدين،‭ ‬لدرجة‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬دعاة‭ ‬الزي‭ ‬المغربي‭ ‬التقليدي‭ ‬أو‭ ‬العصري‭ ‬بدون‭ ‬غلو،‭ ‬ولا‭ ‬فرض‭ ‬لعزل‭ ‬المرأة‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬المجتمع‭.‬

‭- ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬بناته‭ ‬غير‭ ‬محجبات‭ ‬ومن‭ ‬أبرزهم‭: ‬عائشة‭ ‬بلعربي،‭ ‬وكان‭ ‬يدفع‭ ‬لتقلد‭ ‬النساء‭ ‬مناصب‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬دواليب‭ ‬الدولة‭ ‬كأطر‭ ‬مجتمعية‭. ‬

‭- ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬كان‭ ‬ضد‭ ‬اعتبار‭ ‬الفوائد‭ ‬البنكية‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الربا،‭ ‬كتصور‭ ‬منفتح‭ ‬وعصري‭ ‬لإدارة‭ ‬الدولة‭. ‬

‭- ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬كان‭ ‬ينتقد‭ ‬علنا‭ ‬أحاديث‭ ‬من‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭: “‬امرأتي‭ ‬طالق‭ ‬بالثلاث‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأحاديث‭ ‬صحيحة‭.‬

‭- ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬وهو‭ ‬شيخ‭ ‬الإسلام‭ ‬كان‭ ‬مقربا‭ ‬من‭ ‬زعماء‭ ‬اليسار‭ ‬خصوصا‭ ‬بوعبيد‭ ‬والمهدي‭ ‬بنبركة‭ ‬بل‭ ‬مُنِحَ‭ ‬رئاسة‭ ‬أحد‭ ‬مؤتمرات‭ ‬الاتحاد‭ ‬الوطني‭ ‬للقوات‭ ‬الشعبية‭.‬

‭- ‬وأخيرا‭ ‬شيخنا‭ ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬كان‭ ‬مدخنا‭ ‬شرها‭ ‬وكان‭ ‬بجلبابه‭ ‬ولحيته‭ ‬يمسك‭ ‬السيجارة‭ ‬أمام‭ ‬الملأ،‭ ‬هذه‮ ‬‭ ‬هي‭ ‬السلفية‭ ‬المغربية‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬يمثلها‭ ‬شيخنا‭ ‬بلعربي‭ ‬العلوي‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬بالمناسبة‭ ‬أيضا‭ ‬عضوا‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬التاج‭ ‬بمرتبة‭ ‬وزير‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتوتر‭ ‬علاقته‭ ‬مع‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭ ‬ويستقيل‭ ‬بعد‭ ‬انغلاق‭ ‬حقل‭ ‬الحريات‭ ‬بالمغرب،‭ ‬ليعتزل‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬له‭ ‬خارج‭ ‬فاس،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتوفاه‭ ‬المنية،‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

حين يقولون الله أكبر !

أمي‭ ‬تقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

داعش‭ ‬تقول‭ ‬الله‭ ‬كبر‭ !‬

الملك‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

الشيعة‭ ‬الإمامية‭ ‬تقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

مُفتي‭ ‬السعودية‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

مفتي‭ ‬سوريا‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

14‭ ‬آذار‭ ‬تقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

08‭ ‬آذار‭ ‬تقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

الوهابية‭ ‬تقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

تُقْطَعُ‭ ‬الرؤوس‭ ‬بقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ ! ‬و‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬شِياهاً‭.‬

نُخَتَّنُ‭ ‬بقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ ! ‬ولو‭ ‬كُنَّ‭ ‬نساءً‭.‬

كُل‭ ‬صلوات‭ ‬الطوائف‭ ‬الإسلامية‭ ‬تبدأ‭ ‬بقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

قُتِلَ‭ ‬الخلفاء‭ ‬بالسيوف‭ ‬تحت‭ ‬قول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

خُطَبُ‭ ‬الجُمُعة‭ ‬المُدَبَّجَةِ‭ ‬مَخزنيا‭ ‬سَلَفا‭ ‬تُمْضَى‭ ‬بقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

تُبْنَى‭ ‬الجوامِعٌ‭ ‬و‭ ‬تٌهْدَمُ‭ ‬بِقولِ‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

يُأذَّنُ‭ ‬في‭ ‬آذانِ‭ ‬الرُّضَّعِ‭ ‬بقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

نُوَارَى‭ ‬التراب‭ ‬بقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

يَفْتَتِحُ‭ ‬القُضاةُ‭ ‬بقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ ! ‬ولو‭ ‬جُورا‭ ‬مُوَجَّها‭.‬

تُسْبَى‭ ‬النساء‭ ‬تحت‭ ‬قَوْلِ‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

حقيقةً‭ ‬كمْ‭ ‬من‭ ‬الفظاعات‭ ‬ارْتُكِبَتْ‭ ‬تحت‭ ‬قَوْلِ‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

و‭ ‬لا‭ ‬تَصِحُّ‭ ‬إلَّا‭ ‬فِطْرَةُ‭ ‬أُمِّي،‭ ‬الَّتِي‭ ‬لا‭ ‬تُتْقنُ‭ ‬العربية،‭ ‬وهي‭ ‬تُصلِّي‭ ‬في‭ ‬مِحْرابها‭ ‬الخاص،‭ ‬و‭ ‬تقول‭ ‬بِلَكْنَةٍ‭ ‬أمازيغية‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭!‬

إنِّي‭ ‬بريءُ‭ ‬من‭ ‬جرائِمهم‭ ‬باسم‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ !‬

إنِّي‭ ‬على‭ ‬فِطْرَةِ‭ ‬أُمِّي،‭ ‬و‭ “‬آية‭ ‬الله‭ ‬العُظمى‭ : ‬العقل‭” !‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثقف المغربي وسؤال “الهوية المفقودة” قراءة سوسيولوجية

الاحتجاج‭ ‬كمدخل‭ ‬لاستعادة‭ “‬الهوية‭ ‬المفقودة‭”‬‭ ‬

إن‭ ‬مناسبة‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬هو‭ ‬الدعوة‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬والقاضية‭ ‬بجعل‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬26‭ ‬مارس‭ ‬2022‭ ‬يوما‭ ‬وطنيا‭ ‬لاحتجاج‭ ‬المثقفين‭ ‬المغاربة،‭ ‬وذلك‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬المادية‭ ‬والرمزية‭ ‬والحقوقية‭ ‬التي‭ ‬تعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الإنسان‭ ‬وتؤسس‭ ‬لمغرب‭ ‬جديد‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الانطلاق‭ ‬بشكل‭ ‬جماعي‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭ ‬بأمل‭ ‬حقيقي‭ ‬ومسؤولية‭ ‬ثابتة،‭ ‬وكذلك‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬نداء‭ ‬الوقفة‭ ‬–‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬والإنسان‭ ‬والقيم‭ ‬وكل‭ ‬الجمال‭ ‬الذي‭ ‬يؤسس‭ ‬للحياة‭ ‬ويصارع‭ ‬القبح‭ ‬بكل‭ ‬تلويناته‭ .‬

فماهي‭ ‬دلالات‭ ‬هذه‭ ‬الدعوة‭ ‬؟

لما‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬المثقف‭ ‬المغربي،‭ ‬فحديثنا‭ ‬يستحضر‭ ‬مفهوم‭ ‬المثقف‭ ‬باعتباره‭ ‬فاعلا‭ ‬سوسيوثقافيا‭ ‬يتشابك‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬بمفهومها‭ ‬الواسع‭ ‬وفي‭ ‬أبعادها‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والقيمية،‭ ‬وكذلك‭ ‬مع‭ ‬قضايا‭ ‬المجتمع،‭ ‬مع‭ ‬أسئلته‭ ‬وتطلعاته‭ ‬وانتظاراته،‭ ‬أما‭ ‬المقصود‭ ‬بسوسيولوجيا‭ ‬المثقف‭ ‬فهو‭ ‬محاولة‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬خصائص‭ ‬وتحولات‭ ‬الحقل‭ ‬الثقافي‭ ‬الراهن‭ ‬ومسائلة‭ ‬بعض‭ ‬آليات‭ ‬حضور‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العام‭ . ‬

فلماذا‭ ‬سوسيولوجيا‭ ‬المثقف‭ ‬المغربي؟

من‭ ‬الراجح‭ ‬أن‭ ‬خروج‭ ‬دعوة‭ ‬من‭ ‬أوساط‭ ‬مثقفة‭ ‬تدعو‭ ‬الى‭ ‬جعل‭ ‬26‭ ‬مارس‭ ‬2022‭ ‬يوما‭ ‬وطنيا‭ ‬احتجاجيا‭ ‬للمثقفين‭ ‬المغاربة،‭ ‬له‭ ‬دلالات‭ ‬متعددة‭ ‬تعكس‭ ‬التمزق‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬المثقف‭ ‬كامتداد‭ ‬لتمزق‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬بين‭ ‬مشاريع‭ ‬متعددة‭ ‬ومتنافرة‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬متداخلة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حقل‭ ‬اقتصادي‭ ‬وسياسي‭ ‬واجتماعي‭ ‬وثقافي‭ ‬حابل‭ ‬بفرامل‭ ‬الدمقرطة‭  ‬وعوائق‭ ‬التحول‭ ‬المنشود‭ ‬وهدر‭ ‬فرص‭ ‬الانتقالات‭ ‬المنتظرة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمة‭ ‬فهو‭ ‬حقل‭ ‬مؤهل‭ ‬لاستدعاء‭ ‬حضور‭ ‬المثقف‭ ‬النقدي‭ ‬الذي‭ ‬يمتلك‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬الرأسمال‭ ‬الثقافي‭ ‬والرمزي،‭ ‬شجاعة‭ ‬تفكيك‭ ‬جميع‭ ‬السلط‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬الآليات‭ ‬الخفية‭ ‬والصريحة‭  ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬تلك‭ ‬السلط‭ ‬ومصادر‭ ‬شرعيتها‭ ‬ومشروعيتها‭ ‬المادية‭ ‬والرمزية‭.‬

إن‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬هذه‭ ‬الدعوة‭  ‬أن‭ ‬تمنح‭ ‬مشروعية‭ ‬السؤال‭ ‬السوسيولوجي‭ ‬حول‭ ‬المثقف‭ ‬المغربي‭ ‬كذات‭ ‬جمعية‭ ‬وفردية‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬حقول‭ ‬مختلفة‭ ‬للإنتاج‭ ‬الرمزي،‭ ‬وهو‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬ربما‭ ‬المفقودة‭ ‬أو‭ ‬التائهة‭ ‬أوالهشة‭ ‬أو‭ ‬المتداخلة‭ ‬مع‭ ‬هويات‭ ‬أخرى‭ ‬قد‭ ‬تفصلها‭ ‬مسافات‭ ‬نظرية‭ ‬ومعيارية‭ ‬شاسعة‭ ‬مع‭ ‬الثقافة‭ ‬والمثقف‭ …‬فهل‭ ‬فقد‭ ‬المثقف‭ ‬المغربي‭ ‬هويته؟‭ ‬

المثقف‭ ‬بين‭ ‬المجتمع‭ ‬والسلطة

من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬نعبر‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬المركزي‭ ‬المطروح‭ ‬أعلاه،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬الفرعية‭ : ‬من‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬المثقف‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الهوية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬الشروط‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لممارسة‭ ‬الثقافة؟‭ ‬اي‭ ‬نموذج‭ ‬مثالي‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬نشيده‭ ‬للمثقف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬؟،‭ ‬أية‭ ‬روابط‭ ‬تجعله‭ ‬في‭ ‬تماس‭ ‬واحتكاك‭ ‬مع‭ ‬بنيات‭ ‬المجتمع‭ ‬وسلطاته‭ ‬المختلفة‭ ‬و‭”‬المغرية‭” ‬ودينامياته‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬الصاعدة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬استراتيجية‭ ‬التفقير‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي‭ ‬و‭”‬الانحدار‭ ‬الأخلاقي‭ ‬والقيمي‭ ” ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بأخلاق‭ ‬الالتزام‭ ‬والتطوع‭ ‬وسلطة‭ ‬النقد‭ ‬والتفكيك‭  ‬؟‭.  ‬ببساطة‭ ‬ماهي‭ ‬علاقة‭ ‬المثقف‭ ‬بالمجتمع؟‭ ‬أو‭ ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬ماهي‭ ‬طبيعة‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬راهنا؟،‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬تراكمات‭ ‬نظرية‭ ‬وأدبيات‭ ‬ومتن‭ ‬فكري‭ ‬وثقافي‭ ‬يقربنا‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬تحولات‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع؟،‭ ‬وهو‭ ‬متن‭ ‬فكري‭ ‬يعكس‭ ‬مستوى‭  ‬تطوير‭ ‬وتجاوز‭ ‬الإنتاج‭ ‬الكولونيالي‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالي‭ ‬حول‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬من‭ ‬مقاربات‭ ‬متعددة‭/ ‬تاريخية،‭ ‬انتروبولوجية،‭ ‬سوسيولوجية‭/ ‬ديمغرافية،‭ ‬اقتصادية‭…‬الخ؟،‭ ‬ماهي‭ ‬اتجاهات‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بالتقدم‭ ‬والحداثة‭  ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبالمحافظة‭ ‬والتقليد‭ ‬وإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬الاديولوجية‭ ‬الماضوية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية؟،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬المجادلات‭ ‬الحادة‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬كلما‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بقضايا‭ ‬التحديث‭ ‬التي‭ ‬تمس‭ ‬البنية‭ ‬الذهنية‭ ‬والهوية‭ ‬العقائدية‭ ‬كما‭ ‬تمت‭ ‬صياغتهما‭ ‬تاريخيا‭ ‬وعلى‭ ‬امتداد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن؟،‭  ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬لحضور‭ ‬المثقف‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬المجادلات‭ ‬مكانة‭ ‬ملفتة‭ ‬ولائقة‭ ‬اللهم‭ ‬استثناءات‭ ‬قليلة‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬الشائكة‭  ‬برؤية‭ ‬علمية‭ ‬رصينة‭ ‬وجرأة‭ ‬الموقف‭ ‬والقول‭ ‬مما‭ ‬يعرضها‭ ‬لاستهداف‭ ‬تيارات‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬التي‭ ‬نمت‭ ‬وترعرعت‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬السائدة‭ ‬كثقافة‭ ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬واقع‭ ‬التخلف‭ ‬الثقافي‭ ‬ومقاومة‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الحداثة‭ ‬والتقدم‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬الأخير‭ ‬حول‭ ‬علاقة‭ ‬المثقف‭ ‬بالمجتمع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬بالذات‭ ‬يكتسي‭ ‬الوجاهة‭ ‬والأهمية‭ ‬اللازمتين‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬السؤال‭ ‬التقليدي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مزعجا‭: ‬ماهي‭ ‬علاقة‭ ‬المثقف‭ ‬بالسلطة‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬المسألتين‭ ‬غير‭ ‬قابلتين‭ ‬للفصل؟،‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬الطابع‭ ‬غير‭ ‬المزعج‭ ‬لسؤال‭ ‬المثقف‭ ‬والسلطة‭  ‬هو‭ ‬تماهي‭ ‬معظم‭ ‬النخب‭ ‬المثقفة‭ ‬مع‭ ‬شعار‭ ‬السلطة‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ “‬المشروع‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الحداثي‭ ” ‬خلال‭ ‬نهاية‭ ‬التسعينات‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬شهدت‭ ‬ميلاد‭ ‬حكومة‭ ‬التناوب‭ ‬التوافقي‭ ” ‬وتبوء‭ ‬مثقفين‭ ‬بارزين‭ ‬لمراكز‭” ‬السلطة‭  ‬الحكومية‭ … ‬فالسؤال‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مصدرا‭ ‬للإزعاج‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬النقاشات‭ ‬الابستيمولوجية‭ ‬والأديوسياسية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحيط‭ ‬بسرديات‭ ‬كبرى‭ ‬وتعلق‭ ‬نظري‭ ‬وممارساتي‭  ‬بالخطاطة‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ” ‬كرامشي‭ ‬لنموذج‭  ” ‬المثقف‭ ‬العضوي‭” ‬والمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬منظور‭ ‬يعتبر‭ ‬سلطة‭ ‬المثقف‭ ‬والهيمنة‭ ‬الفكرية‭ ‬كجزء‭  ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬المضادة‭ ‬للمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬دلالاته‭ ‬الواسعة‭ ( ‬الأسرة،‭ ‬المدرسة،‭ ‬الإعلام،‭ ‬الحزب،‭ ‬الجمعية‭…)‬،‭ ‬وهنا‭ ‬تبدو‭ ‬المساهمة‭ ‬الضرورية‭ ‬للمثقف‭ ‬في‭ ‬التحديد‭ ‬المقبول‭ ‬للمفاهيم‭ ‬والتصنيفات،‭ ‬والجواب‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬حيوية‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ : ‬هل‭ ‬المجتمع‭ ‬رأسمالي،‭ ‬ليبرالي،‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬صناعي،‭ ‬مجتمع‭ ‬استهلاكي،‭ ‬وكذلك‭ ‬للمشاكل‭ ‬الاجتماعية‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الفقر،‭ ‬الانحراف،‭ ‬المعاناة‭ ‬في‭ ‬الشغل؟،‭ ‬وتستهدف‭ ‬مساهمة‭ ‬المثقف‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬ترسيخ‭ ‬رؤية‭ ‬معينة‭ ‬بل‭ ‬إبعاد‭ ‬الرؤى‭ ‬الوهمية‭ ‬واللامفكر‭ ‬فيها‭ ‬1‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يحاول‭ ” ‬غرامشي‭” ‬توضيحه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مفهوم‭ ‬الهيمنة‭  ‬هو‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الوظائف‭ ‬السياسية‭ ‬للإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬والأسس‭ ‬الفكرية‭ ‬للهيمنة‭ ‬الاجتماعية‭.‬2

لن‭ ‬نجانب‭ ‬الصواب‭ ‬إذا‭ ‬صرحنا‭ ‬أن‭  ‬العناوين‭ ‬الرمزية‭ ‬لمرحلة‭  ‬المد‭ ‬الثقافي‭ ‬والحيوية‭ ‬السياسية‭ (‬من‭ ‬بداية‭ ‬الستينات‭ ‬الى‭ ‬نهاية‭ ‬الثمانينات‭) ‬كانت‭ ‬ترجمة‭ ‬لشعاراتها‭ ‬السياسية‭ ‬وتطلعاتها‭ ‬نحو‭ ‬مغرب‭ ‬آخر‭ ‬اكثر‭ ‬عدلا‭ ‬وكرامة‭ ‬وحرية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تجسدت‭ ‬تلك‭ ‬العناوين‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬منابر‭ ‬ومجلات‭ ‬فكرية‭ ‬وممارسات‭ ‬وفضاءات‭ ‬جمعوية،‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬منارات‭ ‬ثقافية‭ ‬ممانعة‭ ‬وعالية‭ ‬تعتبر‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬ماركس‭ ‬في‭ ‬تعريفه‭ ‬للفلسفة‭ ‬باعتبارها‭ ” ‬الخلاصة‭ ‬الروحية‭ ‬لعصرها‭ ” ( ‬لاماليف،‭ ‬الأساس،‭ ‬أقلام،‭ ‬الثقافة‭ ‬الجديدة،‭ ‬البديل،‭ ‬المقدمة،‭ ‬جسور‭..)‬،‭. ‬ثم‭ ‬حيوية‭ ‬وعطاءات‭ ‬النسيج‭ ‬الجمعوي‭ ‬مسرحيا،‭ ‬سينمائيا،‭ ‬غنائيا،‭ …‬الخ‭)‬،‭  ‬وهي‭ ‬بالنتيجة‭ ‬خلاصة‭ ‬روحية‭ ‬لانشغال‭ ‬المثقفين‭ ‬المغاربة‭ ‬خلال‭ ‬مرحلة‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أنتجت‭ ‬نخبا‭ ‬نقدية‭ ‬وأعلاما‭ ‬فكرية‭  ‬ظلت‭ ‬بصماتها‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للمحو،‭  ‬بل‭ ‬وكسرت‭ ‬هيمنة‭ ‬فكر‭ ‬وثقافة‭ ‬المشرق‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ” ‬الجابري،‭ ‬العروي،‭ ‬باسكون،‭ ‬جسوس،‭ ‬الخطيبي،‭ ‬الللعبي،‭ ‬بلقزيز،‭ ‬فاطمة‭ ‬المرنيسي،‭ ‬الديالمي،‭ ‬والائحة‭ ‬طويلة‭.‬

إن‭  ‬انشغال‭ ‬الاجتهادات‭ ‬والإنتاجات‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬الحقول‭ ‬المعرفية‭ ‬المختلفة،‭ ‬بقضايا‭ ‬السلطة‭ ‬واستراتيجيات‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬ذاتها‭ ‬وتحالفاتها‭ ‬وشرعياتها‭ ‬ومواردها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والدينية‭ ‬والقبلية‭ ‬والسوسيوتاريخية،‭ ‬وبالتالي‭  ‬بلورة‭ ‬أدبيات‭ ‬غنية‭ ‬ومتعددة‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬الحريات‭ ‬والمساواة‭ ‬وقيم‭ ‬التحرر‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬صاغ‭ ‬ملامح‭ ‬النموذج‭ ‬المثالي‭ ‬للمثقف‭ ‬النقدي‭ ‬الذي‭ ‬ينخرط‭ ‬في‭ ‬أسئلة‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬التشخيص‭ ‬والتفكيك‭ ‬وإنتاج‭ ‬الخطاب‭ ‬المزعج‭  ‬والسعي‭ ‬الى‭ ‬تبيئة‭ “‬اليتوبيات‭” ‬الكبرى‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬تغذية‭ ‬القطائع‭ ‬الممكنة‭ ‬مع‭ ‬واقع‭ ‬التخلف‭ ‬والانحطاط‭ ‬والاستبداد‭ ‬وخنق‭ ‬الحريات‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬مرحلة‭ ‬طبيعتها‭ ‬وخصوصياتها،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬من‭ ‬الإقرار‭ ‬بأن‭ ‬جودة‭ ‬المنتوج‭ ‬الثقافي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ارتباطه‭ ‬بالقلق‭ ‬المجتمعي‭ ‬وتمزقات‭ ‬الهوية‭ ‬ومعيقات‭ ‬التحول‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬اعتراها‭ ‬التراجع‭ ‬والانحدار‭ ‬و‭”‬الحط‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ” ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التنامي‭ ‬المضطرد‭ ‬للوسائط‭ ‬الرقمية‭ ‬وتحولات‭ ‬الجامعة‭ ‬والحقل‭ ‬الأكاديمي‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬التسويق‭ ‬للمثقف‭ ” ‬المرئي‭ ” ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬السمعي‭ ‬البصري،‭ ‬والجاهز‭ ‬لتلبية‭ ‬طلب‭ ‬السلطة‭ ‬أو‭ ‬المقاولة‭  ‬سواء‭ ‬كخبرة،‭ ‬استشارة‭ ‬أو‭ ‬موقف،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تخمة‭ ‬الخطاب‭ ‬حول‭ ‬ربط‭ ‬الجامعة‭ ‬بمحيطها‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وبمستلزمات‭ ‬النسيج‭ ” ‬المقاولاتي‭”.‬

إن‭ ‬الإحاطة‭ ‬بهذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬الشائكة‭ ‬والصعبة‭ ‬تستوجب‭ ‬رؤية‭ ‬شاملة‭  ‬وسوسيوتاريخية‭ ‬تستند‭ ‬على‭ ‬أبحاث‭ ‬أمبيريقة‭ ‬ومداخل‭ ‬نظرية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تشييد‭ “‬براديغمات‭” ‬تسعف‭ ‬على‭  ‬تفسير‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬مست‭ ‬المثقف‭ ‬وواقع‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬حقولها‭ ‬في‭ ‬ارتباط‭ ‬وثيق‭ ‬بتحولات‭ ‬المجتمع‭ ‬المركبة‭ ‬والمتناقضة‭ ‬والمتسارعة‭  ‬والبعيدة‭ ‬عن‭ ‬ممكنات‭ ‬إحداث‭ ‬القطائع‭ ‬الضرورية،‭ ‬فالمرجعية‭ ‬المهيكلة‭  ‬لوعي‭ ‬المجتمع‭ ‬تكاد‭ ‬تماثل‭ ‬المرجعية‭ ‬المهيكلة‭  ‬لاديولوجية‭ ‬السلطة‭ ‬أي‭ ” ‬التغيير‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الاستمرارية‭ ” ‬أو‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الثبات‭ ” ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مشروع‭ ‬أيديولوجي‭ ‬تلفيقي‭ ‬يحاول‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬التقليد‭ ‬والحداثة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رؤية‭ ‬محافظة‭ ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر،‭ ‬هندسة‭ ‬تصور‭ ‬محافظ‭ ‬للحداثة‭ ‬يستجيب‭ ‬لمستلزمات‭ ‬اللحظة‭ ‬السياسية‭ ‬والسوسيوثقافية‭ ‬والتي‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬استدعاء‭ ‬التقليد‭ ‬تارة‭ ‬والحداثة‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والثقافة‭ ‬والاجتماع،‭ ‬ويعبر‭ ‬هذا‭ ‬التمزق‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬متعطش‭ ‬جدا‭ ‬الى‭ ‬الحداثة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نمط‭ ‬العيش‭ ‬والاستهلاك‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬مكتسبات‭ ‬الحداثة‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المادية‭ ‬والتقنية،‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬معاداتها‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الرمزي‭ ‬ورفض‭ ‬قيمها‭ ‬الثقافية‭ ‬والحقوقية‭  ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية‭ ‬وعلاقة‭ ‬المرأة‭ ‬بالرجل،‭ ‬وهو‭ ‬تمزق‭ ‬يحيل‭ ‬على‭ ‬البنية‭ ‬السوسيونفسية‭ ‬للإنسان‭ ‬المقهور‭ ‬ولسلطة‭  “‬باتريمونيالية‭ ” ‬تستمد‭ ‬أساب‭ ‬وجودها‭ ‬وسيطرتها‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البنية‭ ‬المشوهة‭  ‬ذاتها‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الوقائع‭ ‬والمؤشرات‭ ‬تترجم‭ ‬تحولات‭ ‬جارية‭ ‬بشكل‭ ‬موضوعي‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التطلع‭ ‬الى‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وكرامة‭ ‬العيش‭ ‬والحريات‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحضور‭ ‬النسائي‭ ‬المتدحرج‭ ‬بالفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬في‭ ‬بعديه‭ ‬المادي‭ ‬والافتراضي‭.‬

المثقف‭ ‬بين‭ ‬الاستكانة‭ ‬والممانعة

لا‭ ‬مندوحة‭ ‬أن‭ ‬ممارسة‭ ‬نوع‭ ‬مما‭ ‬يسميه‭ ” ‬ميشال‭ ‬فوكو‭ ” ‬بأركيولوجيا‭ ‬المثقف،‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬فهم‭  ‬الصرخة‭ ‬شبه‭ ‬جماعية‭ ‬لجزء‭ ‬من‭  “‬الأنتلجنسيا‭” ‬المغربية‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬الى‭ ‬إخراج‭ ‬المثقف‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬النسيان‭ ‬والتغييب‭ ‬والإدانة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬الكف‭ ‬عن‭ ‬تنصيب‭ ‬محاكمات‭ ‬غير‭ ‬عادلة‭ ‬له‭ ‬كأننا‭ ‬أمام‭ ‬‭”‬بيان‭ ‬للمثقفين‭ ‬المغاربة‭ ” ‬بشكل‭ ‬يجعلنا‭ ‬نستحضر‭ ‬نصا‭ ‬من‭  ‬كتاب‭ ” ‬سوسيولوجيا‭ ‬المثقفين‭ ” ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬صاحبه‭ “  ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬ربط‭ ‬الصورة‭ ‬الجديدة‭ ‬للمثقف‭ ‬ب‭ “‬بيان‭ ‬المثقفين‭ “‬،‭ ‬المنشور‭ ‬سنة‭ ‬1898‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬الكابيتان‭ ” ‬دريفوس‭ ” ‬الذي‭ ‬اتهم‭ ‬ظلما‭ ‬بالخيانة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬القضاء‭ “‬3‭ .‬

لكن‭ ‬الذي‭ ‬يستحق‭ ‬التأمل‭ ‬والدراسة،‭ ‬هو‭  ‬التحولات‭ ‬السلبية‭ ‬التي‭ ‬تتعرض‭ ‬لها‭ ‬مكانة‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬القرب‭ ‬من‭ ‬السلطة‭  ‬ونيل‭ ‬رضاها‭  ‬أصبحا‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬الواجهات‭ ‬المطلوبة‭  ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬هاته‭ ‬السلطة‭  ‬تفوقت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أجهزتها‭ ‬الاديولوجية‭ ‬في‭ ‬تطبيع‭ ‬وتطويع‭ ‬الحقل‭ ‬الثقافي‭ ‬باسم‭ ‬الشراكة‭ ‬والحكامة‭ ‬وصناعة‭ ‬الثقافة‭ ‬وجدلية‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭ ‬والمشروع‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الحداثي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬أصبح‭ ‬الهاجس‭ ‬المركزي‭ ‬الذي‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬منتجي‭ ‬المحتويات‭ ‬الرمزية‭ ‬هو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬منصات‭ ‬استعراض‭ ‬الذات‭ ‬وتسويق‭ ‬المنتوج،‭ ‬ولا‭ ‬يهم‭ ‬طبيعة‭ ‬تلك‭ ‬المنصات‭ ‬ورهاناتها‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬منصات‭ ‬واقعية‭ ‬أو‭ ‬افتراضية،‭.‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬هناك‭ ‬هيمنة‭ ‬نموذج‭ “‬المثقف‭ “‬الخبير‭” ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭ ” ‬ألان‭ ‬باديو‭ ” “‬إن‭ ‬الخبير،‭ ‬الذي‭ ‬يتعرف‭ ‬غالبية‭ ‬أكاديمي‭ ‬الجامعات‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬فيه،‭ ‬يمثل‭ ‬النموذج‭ ‬المركزي‭ ‬للتفاهة‭ ..‬فوظيفة‭ ‬الخبير‭ ‬هي‭ ‬تحويل‭ ‬الاعتبارات‭ ‬الاديولوجية‭ ‬والأفكار‭ ‬الصوفية‭ ‬الى‭ ‬عناصر‭ ‬معرفية‭ ‬ذات‭ ‬مظهر‭ ‬نقي‭. “‬4‭.‬

حقيقة،‭ ‬إن‭ ‬المثقف‭ ‬المغربي‭ ‬باعتباره‭ ‬منتجا‭ ‬للقيم‭ ‬الرمزية‭ ‬وفاعلا‭ ‬سوسيوثقافبا،‭ ‬تعرض‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الهدم‭ ‬المادي‭ ‬والرمزي،‭ ‬وتراوحت‭ ‬معاول‭ ‬الهدم‭ ‬بين‭ ‬مشاريع‭ ‬المحافظة‭ ‬والتقليد‭ ‬والتسليع‭ ‬والانتصار‭ ‬للمثقف‭ “‬الفقيه‭” ‬والمثقف‭ ‬الخبير‭ ‬والمثقف‭ ‬الأكاديمي‭ “‬المحايد‭” ‬في‭ ‬سياق‭ ‬هواجس‭ ‬المشهد‭ ‬الاستعراضي‭ ‬وسيادة‭ ‬التفاهة‭ ‬إذ‭ ” ‬كلما‭ ‬تراجعت‭ ‬الأوليغارشية‭ ‬الى‭ ‬عاداتها‭ ‬السيئة‭ (‬الفساد،‭ ‬التدليس‭ ‬والتفاهة‭) ‬سارع‭ “‬الخبراء‭ ” ‬الذين‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتبهم‭ ‬منها‭ ‬الى‭ ‬إنقاذها‭ “‬5،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لمنتج‭ ‬القيم‭ ‬الرمزية‭ ‬غير‭ ‬المتصالحة‭ ‬مع‭ ‬استراتيجيات‭ ‬الترهيب‭ ‬والترغيب،‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬صامدا‭ ‬أمام‭ ‬خطط‭  ‬تبخيس‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬لصالح‭ ‬إنتاج‭ ‬القيم‭ ‬المادية‭ ‬والمعنوية‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬مصالح‭  ‬أقلية‭ ‬رأسمالية‭ ‬ريعية‭ ‬تحتكر‭ ‬ثروات‭ ‬البلاد‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬سلطة‭ “‬تسليع،‭ ‬رسملة‭ ‬وترييع‭ ” ‬الثقافة‭ ‬كإحدى‭ ‬القلاع‭ ‬الحيوية‭ ‬لمقاومة‭ ‬التخلف‭ ‬والانحطاط‭ ‬والرداءة؟‭…‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬بعض‭ ‬رواد‭ ‬مدرسة‭ ‬فرانكفورت‭ ” ‬النقدية‭ ‬خاصة‭  ‬أدورنو‭ ‬وهوركهايمر‭ ” ‬بهيمنة‭ ‬الصناعة‭ ‬الثقافية‭ ‬أي‭ ‬خضوع‭ ‬صناعة‭ ‬الثقافة‭ ‬للمراكز‭ ‬التجارية‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الجماهيري‭ ‬ومنطق‭ ‬التسليع‭ ‬حيث‭ ” ‬إن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقال،‭ ‬كل‭ ‬معلومة،‭ ‬وكل‭ ‬فكرة،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬إعداده‭ ‬مسبقا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مراكز‭ ‬الصناعة‭ ‬الثقافية‭ ” ‬6‭ .‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬القطع‭ ‬مع‭ ‬شعور‭ ‬يسكن‭ ‬أعماق‭ ‬غالبية‭ ‬المثقفين،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الشعور‭ ‬الداخلي‭ ‬العميق‭ ‬بالهزيمة‭ ‬الذاتية‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬عوامل‭ ‬مركبة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬هشاشة‭ ‬أدوات‭ ‬النقد‭ ‬والمقاومة‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الممانعة‭ ‬كحالة‭ ‬اتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬المغرب‭ ‬التي‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬الأسى‭ ‬والأسف،‭ ‬كساد‭ ‬سوق‭ ‬المقروئية‭ ‬وتسارع‭ ‬الوسائط‭ ‬الرقمية‭ ‬التي‭ ‬وجد‭ ‬المثقف‭ ‬نفسه‭ ‬أمامها‭ ‬حائرا‭ ‬فهجرها‭ ‬إلا‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭ ‬ظلت‭ ‬تبصم‭ ‬حضورها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صفحات‭ ‬مشرقة‭ ‬وشرائط‭ ‬سمعية‭ ‬بصرية‭ ‬غنية،‭ ‬ثم‭ ‬غياب‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬خلق‭ ‬وإغناء‭ ‬منتديات‭ ‬الحوار‭ ‬والنقاش‭ ‬كالحداثة‭ ‬ومناهضة‭ ‬العولمة‭ ‬والمقاومات‭ ‬الثقافية‭ ‬والحقوقية‭ ‬والتحول‭ ‬الرقمي‭ ‬وقضايا‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والتقدم‭ ‬والاشتراكية،ـ‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬تسويق‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬سابقا‭ ‬نموذج‭ “‬المثقف‭ ‬الخبير‭ ” ‬الذي‭ ‬كلما‭ ‬نادت‭ ‬عليه‭ ‬السلطة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مؤسسات‭ “‬الحوكمة‭ ” ‬ولجان‭ “‬التنمية‭ ” ‬تجده‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬الجاهزية‭ ‬والاستعداد‭ ‬للانخراط‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬معرفة‭ “‬تقنوقراطية‭ ” ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬الى‭ ‬الهندسة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬منها‭ ‬الى‭ ‬المشروع‭ ‬الثقافي‭ ‬كمشروع‭ ‬نقدي‭ ‬تحرري،‭ ‬ومستقل‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬السلط‭ ‬إلا‭ ‬سلطة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والحجة،‭ ‬وغير‭ ‬قابل‭ ‬للتطويع‭ ‬والترويض‭. ‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬التشخيص‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬غائب،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬تجليات‭ ‬عدم‭ ‬الاعتراف‭ ‬الرسمي‭ ‬وغير‭ ‬الرسمي‭ ‬بأدوار‭ ‬المثقف‭ ‬والمناداة‭ ‬عليه‭ ‬مناسباتيا‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الحضور‭ ‬غيابا‭ ‬وتغييبا‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭…‬فعدم‭ ‬الاعتراف‭ ‬أو‭ ‬الاعتراف‭ ‬الرسمي‭ “‬الصوري‭ ” ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التفاتات‭ ‬ظرفية‭ ‬للمثقف‭ ‬وأحوال‭ ‬المثقف‭ ‬لحظة‭ ‬العجز‭ ‬الصحي‭ ‬أو‭ ‬الوفاة،‭ ‬أما‭ ‬تجاهل‭ ‬المجتمع‭ ‬فيترجمه‭ ‬السوق‭ ‬القرائية‭ ‬ودرجة‭ ‬حضور‭ ‬المسألة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬وأجندات‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬والمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬نسيجه‭ ‬الجمعوي‭ ‬يعج‭ ‬بصناعة‭ ‬ثقافية‭ “‬تنموية‭ ‬تدبيرية‭ ” ‬تحت‭ ‬الطلب،‭ ‬وقد‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المفارقة‭ ‬الفيلسوف‭ ” ‬سارتر‭ ” ‬بقوله‭ ‬أنه‭ ” ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬الى‭ ‬المثقفين‭ ‬بعين‭ ‬الارتياح‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬عامة،‭ ‬وللأسف‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأوقات‭ ‬من‭ ‬الطبقات‭ ‬الكادحة‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تجل‭ ‬العالم‭ ‬وتحترمه‭ ‬باعتباره‭ ‬رجل‭ ‬علم‭ ‬ومعرفة‭ ‬ولكن‭ ‬ترتاب‭ ‬منه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬مثقفا‭’ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقصده‭ ‬سارتر‭ ‬بالمثقف‭ ‬هو‭ ” ‬الذي‭ ‬يتدخل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يخصه‭ ..”‬7‭… ‬كل‭ ‬هذا‭. ‬في‭ ‬ظل‭ ‬سياق‭ ‬عام‭ ‬تطبعه‭ ‬خوصصة‭ ‬الخدمات‭ ‬العمومية‭  ‬وتبخيس‭ ‬المدرسة‭  ‬والجامعة‭ ‬وهيمنة‭ ‬الإعلام‭ ‬ذي‭ ‬البعد‭ ‬الواحد‭ ‬،‭ ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬شروط‭  ‬تغذ‭ ‬واقع‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬الاصولية‭ ‬والماضوية‭ ‬والانحطاط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والقيمي‭ ‬وضحالة‭ ‬الذوق‭ ‬الفني‭ ‬العام‭ ‬وتفشي‭ ‬قيم‭ ‬الوصولية‭ ‬والزبونية‭ ‬والفردانية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إعدام‭ ‬الاعتقاد‭ ‬في‭ ‬تكافؤ‭ ‬الفرص‭ ‬وثقافة‭ ‬الجهد‭ ‬وروح‭ ‬التطوع‭…‬

من‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الحابل‭ ‬بعوامل‭ ‬الغضب‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وعدم‭ ‬الرضى؟،‭  ‬لماذا‭ ‬تنتهي‭ ‬كل‭ ‬حركية‭ ‬للرفض‭ ‬والاحتجاج‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬متواضعة؟،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬وضعية‭ ‬المثقف‭ ‬والثقافة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬جدلية‭ ‬القمع‭ ‬والتشتت‭ ‬الخطير‭ ‬الذي‭ ‬يميز‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والثقافي؟،‭ ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬التمزق‭ ‬عائقا‭ ‬هيكليا‭ ‬أمام‭ ‬حافز‭ ‬ولادة‭ ‬وتطوير‭ ‬روح‭ ‬التنافس‭ ‬والتدافع‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬القتل‭ ‬المتواصل‭ ‬للحظة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬فكرا،‭ ‬قيما‭ ‬وتدابيرا‭ ‬حيث‭ ‬تستمراستراتيبجية‭ ‬احتكار‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬وإفراغه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مضمون‭ ‬سياسي،‭ ‬ثم‭ ‬صناعة‭ ‬مشهد‭ ‬الانتخابي‭ ‬باعتباره‭ ‬دعامة‭ ‬أساسية‭ ‬لإعادة‭ ‬انتاج‭ ‬هيمنة‭ ‬قوى‭ ‬الرأسمال‭ ‬الريعي‭ ‬التبعي؟‭.  ‬لكن‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى‭ ‬معاكسة‭ ‬وطموحة‭ ‬،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬قراءة‭ ‬حماسة‭ ‬المثقفين‭ ‬لحظة‭ ‬انبثاق‭ ‬وصعود‭ ‬ديناميات‭ ‬سياسية‭ ‬ممانعة‭ ( ‬مثلا‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬20‭ ‬فبراير‭ ‬سنة‭ ‬2011‭ ‬ومواكبة‭ ‬تطوراتها،‭  ‬عريضة‭ ‬مساندة‭ ‬الأستاذة‭  ‬نبيلة‭ ‬منيب‭ ‬كمرشحة‭ ‬لفدرالية‭ ‬اليسار‭ ‬الديمقراطي‭ .‬سنة‭ ‬2016‭ ..)‬،‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬التواري‭ ‬الى‭ ‬الخلف‭ ‬لحظة‭ ‬الجدل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬المؤسس‭ ‬لمجتمع‭ ‬الغد،‭ ‬مجتمع‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والحداثة‭ ‬؟،‭  ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬مشروع‭ ‬القانون‭ ‬الجنائي‭ ‬والقضايا‭ ‬الشائكة‭ ‬حول‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية‭ ‬مثل‭ ‬حرية‭ ‬المعتقد،‭ ‬الإجهاض،‭ ‬عقوبة‭ ‬الإعدام،‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬مصادرة‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬والتعبير‭ ‬واعتقال‭ ‬ومحاكمة‭ ‬صحفيين‭ ‬ومدونين‭ ‬ومراقبة‭ ‬حياتهم‭ ‬الخاصة؟،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬قراءة‭ ” ‬الصمت‭ ‬المتواطئ‭ ” ‬لمعظم‭ ‬مثقفي‭ ‬المرحلة‭ ‬إزاء‭ ‬قضايا‭ ‬التطبيع‭ ‬الشامل‭ ‬وضمنه‭ ‬التطبيع‭ ‬السوسيوثقافي‭ ‬والتربوي‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬شكلت‭ ‬فيه‭ ‬فلسطين‭ ‬قلعة‭ ‬وروح‭ ‬وخريطة‭ ‬الفعل‭ ‬الثقافي‭ ‬الممانع‭ ‬في‭ ‬المغرب؟،‭ ‬ألا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬مع‭ ‬سارتر‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬هو‭ ” ‬محل‭ ‬ارتياب‭ ‬الطبقات‭ ‬الكادحة‭ ‬لأن‭ ‬حالته‭ ‬الموضوعية‭ ‬تجعله‭ ‬مشاركا‭ ‬لأصحاب‭ ‬السلطة،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬فائض‭ ‬القيمة‭ ‬ويعيش‭ ‬عموما‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭ ‬المتوسطة‭ ‬كالبورجوازي‭ ‬الصغير،‭ ‬وهو‭ ‬ليس‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الطبقات‭ ‬الكادحة‭ “‬8‭.‬

من‭ ‬الاحتجاج‭ ‬الى‭ “‬المانيفست‭” : ‬النقلة‭ ‬المستحيلة‭ !‬

ختاما،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬أن‭ ‬اليوم‭ ‬الاحتجاجي‭ ‬لجزء‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬المغاربية‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬46‭ ‬نقطة‭ ‬جغرافية‭ ‬من‭ ‬البلاد،‭ ‬هو‭ ‬نقطة‭ ‬نظام‭ ‬تعكس‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أولى‭  ‬استياء‭ ‬عميقا‭ ‬وخيبة‭ ‬أمل‭ ‬المثقف‭ ‬إزاء‭ ‬الواقع‭ ‬والذات،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭ ‬تترجم‭ ‬طموح‭ ‬المثقف‭ ‬المشروع‭ ‬لتجاوز‭ ‬فردانتيه‭ ‬وكذا‭ ‬تجاوز‭ ‬بنيات‭ ‬جماعية‭ ‬معطوبة‭ ‬تستبعد‭ ‬ممارسة‭ ‬تحليل‭ ‬سوسيسولوجي‭ ‬ذاتي‭ ‬على‭ ‬ذواتها‭ ‬كما‭ ‬قال‭ “‬بيير‭ ‬بورديو‭ ” ‬عن‭ ‬مثقفي‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬الخمسينات‭ ‬والستينات‭ ‬في‭ ‬نقده‭ ‬لأطروحة‭ “‬سارتر‭” ‬حول‭ “‬أسطورة‭ ‬المثقف‭ ‬الحر‭ ” ‬أنه‭ “‬هناك‭ ‬مثقفين‭ ‬يطالبون‭ ‬بمساءلة‭ ‬العالم،‭ ‬لكن‭ ‬قليلون‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يطالبون‭ ‬بمساءلة‭ ‬عالم‭ ‬المثقف‭ ‬نفسه‭” ‬9‭ .‬

إن‭ ‬البنيات‭ ‬الموضوعية‭ ‬للإنتاج‭ ‬الثقافي‭ ‬وواقع‭ ‬الثقافة‭ ‬والمثقفين‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬لهما‭ ‬وزنهما‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬تراجعات‭ ‬الحقل‭ ‬الثقافي‭ ‬باعتباره‭ ‬حقلا‭ ‬صراع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الهيمنة‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬القوى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمشاريع‭ ‬السياسية‭ ‬المتنافسة‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬عدم‭ ‬التكافؤ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الرساميل‭ ‬المادية‭ ‬والرمزية،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعفي‭ ‬مسؤولية‭ ‬المثقف‭ “‬النقدي‭ ” ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬دينامية‭ ‬جماعية‭ ‬بديلة‭ ‬تتوخى‭ ‬الممانعة،‭ ‬التنظيم‭ ‬والتأثير‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬مختلفة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬انتزاع‭ ‬الاعتراف‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والمؤسساتي‭  ‬والتأسيس،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أولى‭ ‬للقطيعة‭ ‬الممكنة‭ ‬مع‭ ‬استراتيجية‭ ‬التبخيس‭ ‬والنسيان‭ ‬المنهجي،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭ ‬المنافحة‭ ‬الصريحة‭ ‬عن‭ ‬الأفق‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الكوني‭ ‬والإنساني،‭ ‬والمساهمة‭  ‬النظرية‭ ‬والعملية‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬مضامين‭ ‬ذلك‭ ‬الأفق‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬صياغة‭ ‬التعبير‭ ‬الثقافي،‭ ‬القيمي‭ ‬والمؤسساتي‭ ‬والهوية‭ ‬المتعددة‭ ‬والمنفتحة‭ ‬في‭ ‬تفاعل‭ ‬جدلي‭ ‬مع‭ ‬كشف‭ ‬الستار‭ ‬عن‭ ‬الفوارق‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمجالية‭ ‬المتصاعدة،‭ ‬والتطلع‭ ‬الجماعي‭ ‬الى‭ ‬مجتمع‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭. . ‬لكن‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬العريض‭ ‬والحرج‭ ‬هو‭ : ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لتلك‭ ‬الصرخة،‭ ‬نقطة‭ ‬نظام،‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬الطابع‭ ‬المناسباتي‭ ‬وتتحول‭ ‬إلى‭ ‬دينامية‭ ‬جماعية‭ (‬مانيفست‭) ‬منتجة‭ ‬ومؤثرة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬حقول‭ ‬الصراع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العام؟‭…‬

الهوامش

1‭ ‬Louis Pinto‭. ‬La Sociologie des intellectuels‭. ‬La Découverte‭. ‬Paris‭. ‬2021‭. ‬P‭ : ‬26

2‭ ‬Ibid‭. ‬p‭ : ‬26

3‭ ‬Louis Pinto‭. ‬La Sociologie des intellectuels‭. ‬La Découverte‭. ‬Paris‭. ‬2021‭. ‬p‭ : ‬7

4  ‬آلان‭ ‬دونو‭. ‬نظام‭ ‬التفاهة‭. ‬ترجمة‭ ‬وتعليق‭ ‬د‭. ‬مشاعل‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الهاجري‭. ‬دار‭ ‬سؤال‭ ‬للنشر‭. ‬2020‭. ‬ص‭ ‬81

5  ‬نفس‭ ‬المرجع‭ ‬السابق‭. ‬ص‭ : ‬197

6  ‬يان‭ ‬سبورك‭. ‬أي‭ ‬مستقبل‭ ‬لعلم‭ ‬الاجتماع‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬وفهم‭ ‬العالم‭ ‬الاجتماعي‭. ‬ترجمة‭ ‬د‭.‬حسن‭ ‬منصور‭ ‬الحاج‭ . ‬المؤسسة‭ ‬الجامعية‭ ‬للدراسات‭ ‬والنشر‭ ‬والتوزيع‭. ‬2009‭. ‬ص‭ ‬70

7  ‬جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ .‬دور‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المعاصر‭. ‬مجلة‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭. ‬العدد‭ ‬30‭ ‬خريف‭ ‬2006‭..‬

8  ‬جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ .‬دور‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المعاصر‭. ‬مجلة‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭. ‬العدد‭ ‬30‭ ‬خريف‭ ‬2006‭..‬

9  ‬حسن‭ ‬أحجيج‭. ‬نظرية‭ ‬العالم‭ ‬الاجتماعي‭. ‬قواعد‭ ‬الممارسة‭ ‬السوسيولوجية‭ ‬عند‭ ‬بيير‭ ‬بورديو‭. ‬مؤمنون‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭. ‬2018‭. ‬ص‭ ‬284

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

غياب العقل: بين حلم الأمس وكابوس اليوم

ما‭ ‬أشبه‭ ‬الأمس‭ ‬باليوم‭…!‬

يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬العقل‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬محنة،‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬نقصد‭ ‬بالمحنة‭ ‬ذلك‭ ‬الابتلاء‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬فيه‭ ‬العقل‭ ‬امتحان‭ ‬الاضطهاد،‭ ‬إن‭ ‬العقل‭ ‬اليوم‭ ‬يعيش‭ ‬وضعا‭ ‬تراجيديا،‭ ‬لأنه‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬معاصر‭ ‬تتقلص‭ ‬فيه‭ ‬عموما‭ ‬مساحة‭ ‬حضور‭ ‬العقل‭. ‬

‭ ‬كان‭ ‬الهاجس‭ “‬بالأمس‭” ‬هو‭ ‬معرفة‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يتجذر‭ ‬الخطاب‭ ‬العقلاني‭ ‬في‭ ‬تربة‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬تغلغله‭ ‬داخل‭ ‬ثقافات‭ ‬أخرى،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬اهتمام‭ ‬المفكرين‭ (‬محمد‭ ‬أركون،‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي‭…) ‬بنقد‭ ‬أركيولوجي‭ ‬وجينيالوجي‭ ‬لمفهوم‭ ‬العقل،‭ ‬وللخطابات‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬مجالات‭ ‬فكرنا‭ ‬وقولنا‭ ‬وفعلنا‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬وربط‭ ‬ذلك‭ ‬بمرجعياتنا‭ ‬التاريخية‭ ‬و‭ ‬المعتقدية‭ ‬و‭ ‬الفكرية،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يصح‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ “‬محنة‭” ‬العقل‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬جراء‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬اضطهاد‭. (‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬مع‭ ‬المعتزلة،‭ ‬و‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭…) . ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ “‬اليوم‭”‬،‭ ‬يعني‭ ‬حاضر‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ (‬سؤال‭ ‬النهضة‭)‬،‭ ‬و‭ ‬عدم‭ ‬حضورها‭ ‬داخل‭ ‬مشهد‭ ‬إنتاجات‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬باقي‭ ‬الثقافات،‭ ‬و‭ ‬استمرار‭ ‬‭”‬محنة‭” ‬العقل،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬ويتعرض‭ ‬له‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬اضطهاد‭ (‬حسين‭ ‬مروة،‭ ‬ناصر‭ ‬حامد‭ ‬أبو‭ ‬زيد،‭ ‬فرج‭ ‬فودة‭…).‬

لقد‭ ‬استمر‭ “‬الأمس‭” ‬بالنسبة‭ ‬لمجتمعاتنا‭ “‬أمسا‭” ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأزمنة‭: ‬غياب‭ ‬تجذر‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ “‬الأمس‭” ‬في‭ ‬ثقافات‭ ‬أخرى‭ ‬هو‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬العقل‭ ‬إلى‭ ‬إرسائه،‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬للعقل‭ ‬أمسا‭ ‬وحاضرا‭ ‬ومستقبلا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الهاجس‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التغلغل‭ ‬وتأسيس‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬المطلقة،‭ ‬أما‭ “‬اليوم‭” ‬فنحن‭ ‬نعيش‭ ‬نفس‭ ‬اليوم،‭ ‬نحن‭ ‬جميعا‭ ‬أمام‭ ‬الوضع‭ ‬التراجيدي‭ ‬الحالي‭ ‬للعقل‭ ‬وهو‭ ‬وضع‭ ‬مرتبط‭ ‬بالمسار‭ ‬المدمر‭ ‬للعقل،‭ ‬أو‭ ‬بتشكل‭ ‬نمط‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬العقل،‭ ‬يمكن‭ ‬نعته‭ ‬بالعقل‭ ‬الليبرالي‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬تجلياته‭ “‬العقل‭ ‬الإعلامي‭”. ‬فثقافتنا‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬انتصارا‭ ‬للعقل‭ ‬أصلا،‭ ‬لكنها‭ ‬تعيش‭ ‬مثل‭ ‬باقي‭ ‬الثقافات‭ ‬زمن‭ ‬التشوهات‭ ‬والمسخ‭ ‬الذي‭ ‬يطال‭ ‬العقل‭.‬

وعليه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬تجاوزا،‭ ‬إن‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬بالأمس‭ ‬واليوم،‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬كونه‭ ‬كان‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬يواجه‭ ‬ثلاثة‭ ‬مسارات‭ ‬تعمق‭ ‬غيابه‭:  ‬الفكر‭ ‬التقليدياني‭ ‬وما‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬إرسائه‭ ‬من‭ ‬ممارسات‭ ‬لاعقلانية،‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الاجتماعي؛‭ ‬والفكر‭ ‬السلفي،‭ ‬وما‭ ‬يغرسه‭ ‬من‭ ‬تمذهب‭ ‬معاد‭ ‬للتفكير‭ ‬ومنمط‭ ‬للأفراد‭ ‬وللجماعات،‭ ‬وتداعيات‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي؛‭ ‬والفكر‭ ‬التكنوقراطي‭ ‬الذي‭ ‬يسجن‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬عقلانية‭ ‬واحدة‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬عقيدة‭ ‬وفي‭ ‬إرادة‭ ‬القوة‭ ‬حلا‭ ‬لكل‭ ‬المشكلات‭ ‬وتجعل‭ ‬التقنية‭ ‬غاية‭ ‬وليست‭ ‬وسيلة،‭ ‬سواء‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالمشهد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬أو‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحياة‭. ‬

تبعات‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ “‬بالأمس‭”‬

      ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬لعدم‭ ‬إرساء‭ ‬العقل‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬انعكاس‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬المجال‭ ‬السياسي،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تتجذر‭ ‬الثقافة‭ ‬الديموقراطية‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬التعددية‭ ‬والاختلاف‭ ‬والتنوع‭. ‬فالديموقراطية‭ ‬تفترض‭ ‬تغلغل‭ ‬العقلانية‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬واتساع‭ ‬دائرة‭ ‬الجدال‭ ‬العمومي،‭ ‬بينما‭ ‬نلاحظ‭ ‬سوء‭ ‬مآل‭ ‬الجدال‭ ‬العمومي،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬غيابه‭ ‬أصلا‭. ‬

لم‭ ‬يعمل‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬نقد‭ ‬الجذور‭ ‬والبنيات‭ ‬الثقافية،‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬ترسيخ‭ ‬رفض‭ ‬الاختلاف،‭ ‬وهو‭ ‬رفض‭ ‬إيديولوجي،‭ ‬لما‭ ‬يثبته‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬السياسي‭. ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬منظومتنا‭ ‬الثقافية،‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬الجدلي‭ “‬للتصور‭ ‬العقدي‭ ‬والتصور‭ ‬التاريخي‭”‬،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬الأول‭ ‬يؤسس‭ ‬للواحد،‭ ‬والثاني‭ ‬يؤسس‭ ‬للمختلف‭ ‬والمتعدد،‭ ‬لذا‭ ” ‬لم‭ ‬يندمج‭ ‬الاختلاف‭ ‬عندنا‭ ‬كمعطى‭ ‬من‭ ‬معطيات‭ ‬الفكر‭.‬1‭ ” ‬

لم‭ ‬يؤسس‭ ‬العقل‭ ‬لثقافات‭ ‬سياسية‭ ‬متنافسة‭ ‬ومتصارعة،‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأفكار‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المواقع‭ ‬والأشخاص‭. ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬السياسية‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬تشكل‭ ‬فكر‭ ‬يعي‭ ‬معنى‭ ‬التعددية،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬الثقافية‭ (‬العرق،‭ ‬اللغة،‭ ‬الدين‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تجلياتها‭ ‬السياسية‭ ‬كذلك‭. ‬لقد‭ ‬ترتب‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬إرساء‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬غياب‭ ‬الأفكار‭ ‬والنظريات‭ ‬السياسية،‭ ‬وغياب‭ ‬المشاريع‭ ‬والتيارات،‭ ‬وبالتالي‭ ‬غياب‭ ‬نخب‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استنطاق‭ ‬الواقع‭ ‬والنظام‭ ‬السياسي‭ ‬القائم،‭ ‬و‭ ‬بالتالي‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أزمة‭ ‬جدال‭ ‬عمومي،‭ ‬كأحد‭ ‬تبعات‭ ‬عدم‭ ‬تجذر‭ ‬العقل‭ ‬لدينا،‭ ‬فلا‭ ‬سبيل‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬هكذا‭ ‬جدال‭ ‬دون‭ ‬توطين‭ ‬للفكر‭ ‬النقدي،‭ ‬الذي‭ ‬يمتح‭ ‬معنى‭ ‬معمارية‭ ‬وجوده‭ ‬من‭ ‬قوتين‭ ‬ضاريتين‭ ‬أساسيتين‭ ‬هما‭: ‬العقلانية‭ ‬والحرية،‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بتأصيل‭ ‬لبنات‭ ‬الديموقراطية‭ ‬داخل‭ ‬الدولة،‭ ‬وتجذير‭ ‬تربة‭ ‬الاختلاف‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬خلق‭ ‬تراكم‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الثقافات‭ ‬السياسية،‭ ‬لكن‭ ‬حينما‭ ‬تكون‭ ‬مساحة‭ ‬الفكر‭ ‬ضئيلة،‭ ‬تصبح‭ ‬الحرية‭ ‬مجرد‭ ‬وهم،‭ ‬ويغدو‭ ‬العقل‭ ‬وعاء‭ ‬فارغا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تكون‭ ‬الديموقراطية‭ ‬شعارا‭ ‬قائما‭ ‬على‭ ‬صراعات‭ ‬مجانية،‭ ‬تطغى‭ ‬فيها‭ ‬الحساسيات‭ ‬والانفعالات‭ ‬والمزايدات،‭ ‬بينما‭ ‬تغيب‭ ‬النخبة‭ ‬الفاعلة‭. ‬

لقد‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬عموما،‭ ‬خطاب‭ ‬الضحية،‭ (‬الاستعمار‭ ‬واستنزاف‭ ‬الدول‭ ‬القوية‭ ‬للدول‭ ‬المستضعفة‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬رغم‭ ‬مشروعيته،‭ ‬فقد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬تبريري،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬الدولة‭ ‬الضحية،‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬الأمس‭ ‬بدروس‭ ‬تاريخية،‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬بناء‭ ‬مشروع‭ ‬عقلاني‭ ‬تحريري،‭ ‬بل‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭ ‬عاينا‭ ‬وقوع‭ “‬انحراف‭ ‬إيديولوجي‭ ‬مهول‭ ‬فرضته‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬شعوبها‭.”  2

بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬عانت‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬خصوصا‭ ‬والدول‭ ‬المستضعفة‭ ‬عموما،‭ ‬من‭ ‬تقهقر‭ ‬طال‭ ‬جميع‭ ‬الأصعدة،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الشعور‭ ‬ب‭”‬الإهانة‭”‬،‭ ‬وما‭ ‬أفرزته‭ ‬من‭ ‬مكر‭ ‬عقلي‭ ‬ضد‭ ‬العدو‭ ‬الخارجي‭(‬الإرهاب‭)‬،‭ ‬عوض‭ ‬التركيز‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الكفاية‭ ‬على‭ ‬الوضعية‭ ‬الداخلية‭ ‬لهذه‭ ‬الدول‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬انكسارات‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬الخراب‭ ‬الساسي،‭ ‬وما‭ ‬زرعه‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬وأسى،‭ ‬وما‭ ‬ولده‭ ‬من‭ ‬قساوة‭ “‬تقضي‭ ‬على‭ ‬كرامة‭ ‬الناس‭…‬أصبح‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عرضة‭ ‬لإهانة‭ ‬ذاته‭ ‬بذاته‭…” ‬3

تجليات‭ “‬محنة‭ “‬العقل‭ ‬اليوم‭:‬

          ‬يعرف‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الانغلاق‭ ‬المعرفي،‭ ‬يختزل‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬ويفضي‭ ‬إلى‭ ‬الانغلاق‭ ‬الواقعي‭. ‬فالمعرفة‭ ‬المعاصرة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬منشغلة‭ ‬بصراعها‭ ‬ضد‭ ‬اللامعرفة،‭ ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬تغيير‭ ‬الأفق‭ ‬الإنساني‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أفضل،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬المعرفة‭ ‬مهووسة‭ ‬بالصراع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الهيمنة‭. ‬هكذا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تشكل‭ ‬نزعة‭ ‬اقتصادوية‭ ‬إيديولوجية‭ ‬معقلنة‭… ‬تفسر‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بالعلاقة‭ ‬مع‭ ‬المصالح‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ومع‭ ‬المردودية‭ ‬والفعالية‭… ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬عقلانية‭ ‬تكنولوجية،‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬كشيء‭ ‬وكقوة‭ ‬عاملة‭ ‬ومستهلكة،‭ ‬يمكن‭ ‬تطويعها‭ ‬عوض‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬كشخص‭ ‬حر‭ ‬يسعى‭ ‬نحو‭ ‬رقيه‭ ‬الإنساني‭. ‬إنها‭ ‬عقلانية‭ ‬أداتية،‭ ‬تحول‭ ‬فيها‭ ‬العقل‭ ‬إلى‭ ‬سلطة،‭ ‬عوض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الإنسان،‭ ‬أصبح‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬خدمته‭ ‬والامتثال‭ ‬المطلق‭ ‬لتعاليمه4‭. ‬

يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بعقل‭ ‬ينتمي‭ ‬للمرجعية‭ ‬الثقافية‭ ‬السائدة‭ ‬حاليا‭ ” ‬الليبيرالية‭ “‬،‭ ‬والتي‭ ‬غدت‭ ‬منظومة‭ ‬مرجعية‭ ‬موحدة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬بمثابة‭ ‬ديانة‭ ‬للعصر،‭ ‬إنها‭ ‬منظومة‭ ‬تختزل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والتكنولوجي،‭ ‬تعتبر‭ ‬التقنية‭ ‬كثقافة‭ ‬أحادية‭ ‬تجعل‭ ‬الخبراء‭ ‬هم‭ ‬أسياد‭ ‬العالم‭. ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مرجعيتها‭ ‬الحالية‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬عولمة‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة،‭ ‬عوض‭ ‬السعي‭ ‬نحو‭ ‬أنسنتهما‭. ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬رؤية‭ ‬منفتحة‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬البشرية،‭ ‬بل‭ ‬رؤية‭ ‬تخزينية‭ ‬لا‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬كنقد،‭ ‬وتعتبر‭ ‬الحاضر‭ ‬خالدا‭ ‬لا‭ ‬مستقبل‭ ‬أفضل‭ ‬منه‭. ‬إن‭ ‬المرجعية‭ ‬الثقافية‭ ‬الحالية،‭ ‬هي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬ثقافة‭ ‬إسكاتولوجية5‭: ‬ثقافة‭ ‬النهاية،‭ ‬إذ‭ ‬تعلن‭ ‬نهاية‭ ‬الإنسان‭ ‬ككائن‭ ‬تاريخي‭ ‬ثقافي‭ ‬ونهاية‭ ‬الثقافة‭ ‬المتعددة‭ ‬المرجعيات،‭ ‬لكي‭ ‬ترسخ‭ ‬تطابقا‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬والتقنية‭. ‬إنها‭ ‬ثقافة‭ ‬تعطي‭ ‬للفردي‭ ‬وللبعدين‭ ‬السيكولوجي‭ ‬والاتصالي‭ ‬الأولوية‭ ‬على‭ ‬الكوني‭ ‬وعلى‭ ‬البعدين‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتواصلي‭.‬

سيؤدي‭ ‬إرساء‭ ‬العقل‭ ‬الليبيرالي‭ ‬إلى‭ ‬الانغلاق‭ ‬المعرفي‭ ‬والانغلاق‭ ‬الواقعي،‭ ‬وسيفضي‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬نوع‭ ‬معين‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬يمكن‭ ‬نعته‭ ‬ب‭”‬العقل‭ ‬الإعلامي‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الخلط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬بين‭ ‬الواقعي‭ ‬والافتراضي،‭ ‬بين‭ ‬الواقعي‭ ‬واللاواقعي‭. ‬لعل‭ ‬تقلص‭ ‬مساحة‭ ‬الفكر‭ ‬واللوغوس‭ ‬وتراجع‭ ‬اللغة‭ ‬والخطاب،‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬تغلغل‭ ‬الشاشة‭ / ‬الصورة،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تلعب‭ ‬دورا‭ ‬مركزيا‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬كينونة‭ ‬الذات،‭ ‬وبالتالي‭ ‬سننتقل‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬المرآة‭  ‬وانعكاس‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬على‭ ‬وعيها‭ ‬بذاتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللغة،‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬السيلفي،‭ ‬حيث‭ ‬ستحل‭ ‬شاشة‭ ‬سمارتفون‭ ‬محل‭ “‬مرحلة‭ ‬المرآة‭”‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬السيلفي‭ ‬تساؤلا‭ ‬حول‭ ‬الذات‭ ‬بمعايير‭ ‬مغايرة‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬الأمر‭ ‬سابقا‭. ‬

إن‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬جذري‭ ‬خطير‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬بناء‭ ‬المعرفة‭ ‬والحقيقة،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تعويض‭ ‬المعرفة‭ ‬بالمعلومة،‭ ‬وتحويل‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬فرجة‭ ‬للاستهلاك،‭ ‬وليس‭ ‬فرصة‭ ‬للتفكير،‭ ‬وبناء‭ ‬عوالم‭ ‬المعنى‭. ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬إرساء‭ ‬شروط‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬معايير‭ ‬موضوعيىة‭ ‬صارمة‭ ‬داخل‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬أهمية‭ ‬للتحليل‭ ‬والبرهان،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬المراهنة‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬الأحاسيس،‭ ‬وعلى‭ ‬معيارية‭ ‬الإثباتات‭ ‬والتكرارات‭. ‬فالحقيقة‭ ‬أصبحت‭ ‬ترتبط‭ ‬بمعيار‭ ‬سرعة‭ ‬الانتشار‭ ‬بين‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وأهمية‭ ‬خبر‭ ‬وقيمة‭ ‬حدث‭ ‬رهينة‭ ‬بكثافة‭ ‬تداولهما‭ ‬بين‭ ‬القنوات‭ ‬وبين‭ ‬الأشخاص،‭ ‬حيث‭ ‬يقع‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التحريض‭ ‬والتهافت‭ ‬والمزايدة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صنع‭ ‬الخبر‭ ‬والحدث‭ ‬الفائق‭. ‬أن‭ ‬تشاهد‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تفهم،‭ ‬فيكفي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شاهدا‭ ‬لما‭ ‬وقع‭ ‬لكي‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬وقع‭.‬

لقد‭ ‬أصبح‭ ‬الزمن‭ ‬الإعلامي‭ ‬مهيمنا،‭ ‬وتراجع‭ ‬العقل‭ ‬السياسي،‭ ‬ليحتل‭ ‬محله‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي،‭ ‬وأصبح‭ ‬الزمن‭ ‬السياسي‭ ‬تابعا‭ ‬للزمن‭ ‬الإعلامي‭ ‬الذي‭ ‬يقتات‭ ‬من‭ ‬وضعية‭ ‬التأجيج‭ ‬والخطابات‭ ‬الانفعالية،‭ ‬حيث‭ ‬تشكل‭ ‬السرعة‭ ‬عرضا‭ ‬أساسيا‭ ‬من‭ ‬أعراض‭ ‬هيستيريا‭ ‬الافتراضي‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬العقل‭ ‬منشغلا‭ ‬بالتفكير‭ ‬والتحليل‭ ‬والبرهان،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬مهووسا‭ ‬بالإثارة‭ ‬والفرجة‭ ‬والتسلية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬بالمشاهدة‭ ‬والتخزين‭. ‬لقج‭ ‬تقلصت‭ ‬مساحة‭ ‬التفكير‭ ‬والتحليل،‭ ‬وتراجع‭ ‬العقل‭ ‬السياسي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يبرر‭ ‬طغيان‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬استئساد‭ ‬الفورية‭ ‬والمباشرية‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬الترديد‭ ‬والتكرار‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي‭ ‬السائد،‭ ‬أغرق‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬بالآراء‭ ‬عوض‭ ‬الأفكار،‭ ‬فتحول‭ ‬الجدال‭ ‬العمومي‭ ‬إلى‭ ‬جدال‭ ‬عامي،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يصاحب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تمييع‭ ‬سياسي‭. ‬إنه‭ ‬رأي‭ ‬مستبد‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تأحيد‭ ‬المعلومة‭ ‬والذوق‭. ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بجمهور‭ ‬نريد‭ ‬إغراءه‭ ‬ومداهنته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬إخباره،‭ ‬وهو‭ ‬جمهور‭ ‬مستعد‭ ‬دائما‭ ‬للاستهلاك‭ ‬السلبي‭ ‬لما‭ ‬يقع‭ ‬من‭ ‬أحداث،‭ ‬مثلما‭ ‬يفعل‭ ‬الجمهور‭ ‬السلبي‭ ‬مع‭ ‬السينما‭ ‬ومع‭ ‬التلفزيون6‭.‬

ولعل‭ ‬تطوير‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬الاتصال،‭ ‬جعل‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬ضرورة،‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬اختيار‭ ‬سياسي،‭ ‬فأخذ‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬شروط‭ ‬أو‭ ‬طقوس‭ ‬معينة،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬تداول‭ ‬الرأي‭ (‬وليس‭ ‬التفكير‭)‬،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالشأن‭ ‬العام،‭ ‬لكنه‭ ‬تداول‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬يأخذ‭ ‬زي‭ ‬الفضائح‭ ‬والسب‭ ‬والشتم،‭ ‬وبالتالي‭ ‬عوض‭ ‬خلق‭ ‬فضاء‭ ‬لجدال‭ ‬عمومي،‭ ‬أصبحنا‭ ‬أمام‭ ‬فضاء‭ ‬خصب‭ ‬للجدال‭ ‬العامي،‭ ‬تملأه‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والانفعالات،‭ ‬وليس‭ ‬الأفكار‭ ‬والقناعات‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الخلط‭ ‬الحاصل‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬الرأي‭ (‬السياسي‭) ‬والفكر‭ (‬السياسي‭)‬،‭ ‬واختزال‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬الأول،‭ ‬يعني‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬أصبحت‭ ‬فيها‭ ‬السياسة‭ ‬طاغية‭ ‬على‭ ‬الكل،‭ ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يجر‭ ‬الكل‭ ‬إلى‭ ‬الحضيض7‭. ‬

ما‭ ‬أفظع‭ ‬اليوم‭…‬

لقد‭ ‬كانت‭ “‬محنة‭” ‬العقل‭ ‬بالأمس،‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬اضطهاده،‭ ‬وعدم‭ ‬فسح‭ ‬المجال‭ ‬لتغلغله‭ ‬داخل‭ ‬الحياة‭ ‬الخاصة‭ ‬والحياة‭ ‬العامة،‭ ‬ولهذا‭ ‬لم‭ ‬تنغرس‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬جذور‭ ‬الفكر‭ ‬النقدي‭. ‬وبالتالي‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬اليوم‭ ‬تشتكي‭ ‬من‭ ‬مآل‭ ‬سلطة‭ ‬العقل،‭ ‬فإننا‭ ‬نحن‭ ‬اليوم‭ ‬نتحسر‭ ‬على‭ ‬غيابه‭ ‬أصلا‭. ‬كما‭ ‬أن‭ “‬محنة‭” ‬العقل‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬اضطهاده،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬إقصائه‭ ‬الممنهج‭  ‬والناعم‭…‬

      ‬إن‭ ‬الانعكاس‭ ‬السلبي‭ ‬لعدم‭ ‬توطين‭ ‬العقل،‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تعطيل‭ ‬الانتصار‭ ‬لقيم‭ ‬الديموقراطية‭ ‬والحرية‭ ‬والعقلانية‭ ‬والموضوعية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تعطيل‭ ‬سبل‭ ‬تأسيس‭ ‬جدال‭ ‬عمومي،‭ ‬وتشجيع‭ ‬تصاعد‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬النزعة‭ ‬الانفعالية‭ ‬Emotivisme،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬كل‭ ‬حكم‭ ‬أخلاقي‭ ‬قيمي‭ ‬نتاجا‭ ‬فقط‭ ‬لميول‭ ‬تفضيلي،‭ ‬ولاختيارات‭ ‬فردية‭. ‬هكذا‭ ‬فحتى‭ ‬ثوراتنا‭ ‬المفترضة‭ (‬الربيع‭ ‬العربي‭)‬،‭ ‬ظلت‭ ‬ثورات‭ ‬بدون‭ ‬أمجاد،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬انفعالات،‭ ‬وليس‭ ‬تجسيدا‭ ‬لنضج‭ ‬العقل‭ ‬وتغلغله‭ ‬داخل‭ ‬المدينة‭.‬

    ‬لقد‭ ‬فقدت‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬اليوم،‭ ‬البريق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستقطب‭ ‬دعاة‭ ‬العقل‭ ‬والعقلانية،‭ ‬والمنتصرين‭ ‬لقيم‭ ‬العدالة‭ ‬والديموقراطية،‭ ‬فتقلص‭ ‬حضور‭ ‬المقاومين‭ ‬لغياب‭ ‬العقل،‭ ‬والمدافعين‭ ‬عن‭ ‬ممكنات‭ ‬تجذيره،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬المغامرة‭ ‬العقلانية‭ ‬مغرية‭ ‬مخيفة‭ (‬بحكم‭ ‬اضطهادها‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مرغوبا‭ ‬فيها‭.‬

          ‬يعرف‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬تحولا‭ ‬رهيبا،‭ ‬بسبب‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬المجتمعات‭ ‬العقلانية‭ ‬تشتكي‭ ‬من‭ ‬تبعات‭ ‬هذا‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬البنيات‭ ‬النفسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬فإن‭ ‬العقل‭ ‬الإعلامي‭ ‬تغلغل‭ ‬داخل‭ ‬مجتمع‭ ‬غير‭ ‬مسلح‭ ‬بالعقلانية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬تبعاته‭ ‬سلبية‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر،‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬التشوهات‭ ‬والندب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التكهن‭ ‬بمآل‭ ‬نزيفها‭…‬

          ‬ما‭ ‬أشبه‭ ‬اليوم‭ ‬بالأمس،‭ ‬حيث‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬العقل‭ ‬غائبا‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بالأمس‭ ‬كان‭ ‬العقل‭ ‬حلم‭ ‬نخبة،‭ ‬و‭ ‬كانت‭ ‬المدينة‭ ‬يوطوبيا‭ ‬الثقافة،‭ ‬كان‭ ‬التغيير‭ ‬أفقا‭ ‬ممكنا،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فنحن‭ ‬أمام‭ ‬حاضر‭ ‬يغيب‭ ‬فيه‭ ‬العقل،‭ ‬أمام‭ ‬خلود‭ ‬يؤبد‭ ‬اللحظة،‭ ‬أمام‭ ‬صد‭ ‬لكل‭ ‬أبواب‭ ‬التغيير،‭ ‬وإتلاف‭ ‬الربيع‭ ‬و‭ ‬باقي‭ ‬الفصول،‭ ‬فلغة‭ ‬الهيمنة‭ ‬اليوم‭ ‬استأسدت،‭ ‬ولسان‭ ‬حالها‭ ‬يقول‭ ‬انغمسوا‭ ‬في‭ ‬نعيم‭ ‬الحاضر‭ ‬وجنات‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬فالسخط‭ ‬مغامرة‭ ‬و‭ ‬الاحتجاج‭ ‬مراهقة‭ ‬غير‭ ‬محسوبة‭ ‬العواقب،‭ ‬ول‭ ‬تغيير‭ ‬سيكون‭ ‬نحو‭ ‬الأسوأ،‭ ‬حيث‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الفيروسات‭ ‬و‭ ‬الأمراض،‭ ‬فإما‭ ‬قبول‭ ‬الحاضر‭ ‬و‭ ‬إما‭ ‬لعنة‭ ‬الفناء‭. ‬

حقا‭ ‬ما‭ ‬أفظع‭ ‬اليوم‭…..!‬

1عزيز‭ ‬لزرق‭: “‬الحب‭ ‬والضيافة‭: ‬مرايا‭ ‬فلسفية‭”‬،‭ ‬دار‭ ‬التوحيدي،‭ ‬2022‭ ‬ص‭. ‬170

2محمد‭ ‬أركون‭: ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فهم‭ ‬الحركة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ “‬الإسلام‭ ‬والعولمة‭ ‬والإرهاب‭: ‬تداعيات‭ ‬الحاضر‭” ‬إعداد‭ ‬وترجمة‭ ‬عزيز‭ ‬لزرق،‭ ‬منشورات‭ ‬كلمات‭ ‬بابل،‭ ‬2007،‭ ‬ص‭.‬206

3فتحي‭ ‬بن‭ ‬سلامة،‭ ‬الإسلام‭ ‬بين‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمة‭ ‬والشعور‭ ‬بالإهانة،‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ “‬الإسلام‭ ‬والعلومة‭ ‬والإرهاب‭: ‬تداعيات‭ ‬الحاضر‭” ‬إعداد‭ ‬وترجمة‭ ‬عزيز‭ ‬لزرق،‭ ‬منشورات‭ ‬كلمات‭ ‬بابل،‭ ‬2007،‭ ‬ص‭ ‬200‭-‬201

4عزيز‭ ‬لزرق‭: ‬الدعوة‭ ‬والثورة‭: ‬الدين‭ ‬والسياسة‭ “‬،‭ ‬دفاتر‭ ‬وجهات‭ ‬نظر،‭ ‬2015،‭ ‬ص‭. ‬107‭/‬114‭                               

5عزيز‭ ‬لزرق‭: “‬الفليسفة‭ ‬أو‭ ‬العلاقة‭ ‬المبتورة‭”‬،‭ ‬إفريقيا‭ ‬الشرق،‭ ‬2017،‭ (‬فصل‭ ‬نقد‭ ‬النزعة‭ ‬الإسكاتولوجية،‭ ‬ص‭.‬15‭). ‬

6عزيز‭ ‬لزرق‭: “‬الحب‭ ‬والضيافة‭”‬،‭ ‬ص‭.‬89‭/.‬97‭/‬153

7عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي‭: “‬من‭ ‬ديوان‭ ‬السياسة‭”‬،‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي،‭ ‬2009ص‭. ‬154

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أزمة أم محنة العقل العربي؟

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭ ‬يعيش‭ ‬أزمة‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التقدم‭ ‬الحضاري‭ ‬والتكنولوجي‭ ‬خاصة،‭ ‬ويرجع‭ ‬السبب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬مستهلك‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬منتج،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬تشهدها‭ ‬مجمل‭ ‬جوانب‭ ‬حياته‭. ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬مظاهر‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬نراه‭ ‬يزداد‭ ‬انحسارا‭ ‬وجمودا‭ ‬لأنه‭ ‬مستهلك‭ ‬لإنتاجات‭ ‬الآخرين‭ ‬وبثقافة‭ ‬ومرجعية‭ ‬عربية‭ ‬إسلامية‭ ‬تمتح‭ ‬غالبا‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬المشرق‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأفراد،‭ ‬وبالتالي‭ ‬نجده‭ ‬يعيش‭ ‬تناقضا‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يؤمن‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬سلوك‭ ‬ومرجعيات‭ ‬ثقافية‭ ‬ودينية‭ ‬نشأ‭ ‬عليها‭ ‬وبين‭ ‬مظاهر‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬تؤمن‭ ‬بالعقل‭ ‬وبالعلم‭ ‬والتفكير‭ ‬المنطقي‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬مرجعية‭ ‬دينية‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها‭ ‬تبدو‭ ‬واضحة‭ ‬وجلية،‭ ‬وهي‭ ‬معضلة‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الالتباس‭ ‬مع‭ ‬الدين‭ ‬والسياسة‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬احتكوا‭ ‬بالثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬واستلهموا‭ ‬مبادئها‭ ‬فإنهم‭ ‬ظلوا‭ ‬عاجزين‭ ‬عن‭ ‬تمثلها‭ ‬الحقيقي،‭ ‬متشبثين‭ ‬بثقافة‭ ‬أصلية‭ ‬منغلقة‭ ‬على‭ ‬نفسها‭. ‬هناك‭ ‬مسألة‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬رغم‭ ‬محاولاته‭ ‬للتحرر‭ ‬من‭ ‬محنته‭ ‬فإن‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬تعميق‭ ‬هذه‭ ‬المحنة‭ ‬أو‭ ‬الأزمة‭ ‬وقد‭ ‬عانى‭ ‬المفكرون‭ ‬من‭ ‬استبدادها‭ ‬حيث‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬تطويع‭ ‬هذا‭ ‬العقل‭ ‬واخضاعه‭ ‬لإرادتها،‭ ‬ورغم‭ ‬محاولاته‭ ‬فقد‭ ‬استمر‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬مشتتا‭ ‬بين‭ ‬ثقافته‭ ‬التي‭ ‬تشبع‭ ‬بها‭ ‬وبين‭ ‬مظاهر‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬غزت‭ ‬كل‭ ‬جوانب‭ ‬حياته،‭ ‬وبالتي‭ ‬ظل‭ ‬تائها‭ ‬تتجاذبه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثقافته‭ ‬العربية،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬الأفكار‭ ‬والنظريات‭ ‬وما‭ ‬توصلت‭ ‬إليه‭ ‬الحداثة‭ ‬من‭ ‬ابتكارات‭ ‬جديدة‭. ‬إن‭ ‬التخلف‭ ‬الذي‭ ‬تعيشه‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬البنى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬تظل‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المحنة‭ ‬بل‭ ‬تزيدها‭ ‬عمقا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تقهقر‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬منبوذا،‭ ‬أقصد‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي‭ ‬المرتبط‭ ‬بهموم‭ ‬الشعب،‭ ‬ليس‭ ‬الذي‭ ‬انبطح‭ ‬للسلطة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مكاسب‭ ‬ريعية‭. ‬

ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬بانتشار‭ ‬الفلسفة‭ ‬وتوسع‭ ‬الافق‭ ‬الفكري‭ ‬والنقدي‭ ‬ونقل‭ ‬الفلسفة‭ ‬وعلم‭ ‬المنطق‭ ‬لأنهما‭ ‬أساس‭ ‬التفكير‭ ‬العقلاني،‭ ‬وكان‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والفقهاء‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬أمهات‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الازدهار‭ ‬توقف‭ ‬اليوم،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الأمر‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬حيث‭ ‬غاب‭ ‬العقل‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬أيديولوجي‭ ‬مع‭ ‬انحسار‭ ‬الفلسفة‭. ‬فالعلوم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬الفلسفة‭ ‬عند‭ ‬الاغريق‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬حيث‭ ‬أكد‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والطبيب‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬على‭ ‬ارتباط‭ ‬الطب‭ ‬بالفلسفة،‭ ‬كما‭ ‬أكد‭ ‬جابر‭ ‬بن‭ ‬حيان‭ ‬علاقة‭ ‬الفلسفة‭ ‬بالكيمياء،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الازدهار‭ ‬الذي‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬قد‭ ‬توقف‭ ‬لأسباب‭ ‬ترتبط‭ ‬بالتغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬ميلادي‭. ‬وحين‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬كان‭ ‬مثاليا،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والفقهاء،‭ ‬وثم‭ ‬تكفير‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬والفلاسفة‭ ‬بل‭ ‬تم‭ ‬قتلهم‭ ‬أو‭ ‬إحراق‭ ‬كتبهم،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬أنتج‭ ‬العرب‭ ‬أهم‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬والطب‭ ‬والعلوم‭ ‬والآداب،‭ ‬ترجم‭ ‬معظمها‭ ‬واستفادت‭ ‬منه‭ ‬أوروبا،‭ ‬والتي‭ ‬دخلت‭ ‬مرحلة‭ ‬التفكير‭ ‬العقلاني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة،‭ ‬بينما‭ ‬تراجع‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬مع‭ ‬عصر‭ ‬الانحطاط‭.‬

‭ ‬اليوم‭ ‬يبدو‭ ‬المشهد‭ ‬مؤلما،‭ ‬فالعقل‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الألفية‭ ‬الجديدة‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يستمد‭ ‬طاقته‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬دين‭ ‬وتقاليد‭ ‬موروثة‭ ‬وسلوك‭ ‬وعلاقات،‭ ‬تبدو‭ ‬له‭ ‬قيما‭ ‬عليا،‭ ‬ويختزن‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬قيمتها‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬التفكير‭ ‬المنطقي‭ ‬والتفكير‭ ‬النقدي‭ ‬الذي‭ ‬يحلل‭ ‬ويفكك‭ ‬هذه‭ ‬الأنساق‭ ‬التي‭ ‬يؤمن‭ ‬بها،‭ ‬ويشير‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ “‬تكوين‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭” ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬يفكر‭ ‬بطريقة‭ ‬معيارية‭ …‬إنه‭ ‬يختزل‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬قيمتها‭ ‬فتضيق‭ ‬ولا‭ ‬يبقى‭ ‬لها‭ ‬مجال‭ ‬للتحليل‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬النظر‭. ‬إنه‭ ‬قليلا‭ ‬ما‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬العكس‭ ‬وهو‭ ‬التفكير‭ ‬بموضوعية‭ ‬وتحليل‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حوله‭. ‬والمقصود‭ ‬بالنظرة‭ ‬المعيارية‭ ‬ذلك‭ ‬الاتجاه‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬للأشياء‭ ‬عن‭ ‬مكانها‭ ‬وموقعها‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬الذي‭ ‬يتخذها‭ ‬ذلك‭ ‬التفكير‭ ‬مرجعا‭ ‬له‭ ‬ومرتكزا،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬النظرة‭ ‬الموضوعية‭ ‬التي‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬الأشياء‭ ‬عن‭ ‬مكوناتها‭ ‬الذاتية‭ ‬وتحاول‭ ‬الكشف‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬جوهري،‭ ‬النظرة‭ ‬المعيارية‭ ‬نظرة‭ ‬اختزالية،‭ ‬أما‭ ‬النظرة‭ ‬الموضوعية‭ ‬فهي‭ ‬نظرة‭ ‬تحليلية‭ ‬تركيبية‭. ‬

اليوم‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬تغير،‭ ‬في‭ ‬السطح‭ ‬تبدو‭ ‬مظاهر‭ ‬الحداثة‭ ‬بكل‭ ‬مظاهرها،‭ ‬لكن‭ ‬الأمور‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬على‭ ‬حالها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التفكير،‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬عقل‭ ‬مركب‭ ‬تتصارع‭ ‬فيه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأنساق‭ ‬أحيانا‭ ‬متناقضة،‭ ‬لكنه‭ ‬يؤمن‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬تناسق‭ ‬عجيب‭. ‬اليوم‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬هزة‭ ‬حتى‭ ‬يتحرر‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الموروثة‭ ‬وتعيد‭ ‬له‭ ‬توازنه،‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬نمط‭ ‬تفكيره‭ ‬والانفتاح‭ ‬والتنوير‭ ‬لمواكبة‭ ‬الركب‭ ‬الحضاري‭ ‬والمعرفي‭ ‬الذي‭ ‬وصله‭ ‬الغرب،‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬بالهين‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬الفكري‭ ‬المنغلق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جديد،‭ ‬والاكتفاء‭ ‬بالاستهلاك‭ ‬لمقومات‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية،‭ ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬العزيمة‭ ‬والإرادة‭ ‬فالأمر‭ ‬ممكن،‭ ‬وعلى‭ ‬المدرسة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مجالا‭ ‬لتنشئة‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬العلمي‭ ‬والمنطقي‭ ‬والتحليل‭ ‬والتفكير‭ ‬الفلسفي‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬الأسئلة،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬دروس‭ ‬الاتكال‭ ‬والانهزامية‭ ‬والعاطفة،‭ ‬نحتاج‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬سلوكنا‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والنظرة‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء‭ ‬نظرة‭ ‬تحليلية‭ ‬منطقية‭ ‬عقلية‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المحنة‭ ‬أو‭ ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تلازمنا‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

العقل العربي بين الحضور والغياب

إن‭ ‬وجود‭ ‬الإنسان‭ ‬مرتبط‭ ‬بفاعليته‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نسق‭ ‬معرفي؛‭ ‬تتداخل‭ ‬فيه‭ ‬معطيات‭ ‬الواقع‭ ‬بحمولاتها‭ ‬المشرَعة‭ ‬على‭ ‬المجالات‭ ‬كافّة،‭ ‬والخلفيات‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬الآلية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬تشكّل‭ ‬هذه‭ ‬الآصرة‭ ‬التفاعلية‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬والواقع‭. ‬هذا‭ ‬النسق‭ ‬المعرفي‭ ‬ماهو‭ ‬إلا‭ ‬نتاج‭ ‬للبيئة‭ ‬الحاضنة‭ ‬ونهجها‭ ‬منهج‭ ‬التفكير‭ ‬والتّأمل‭ ‬كمداخل‭ ‬أساسية‭ ‬للوعي‭ ‬بالواقع‭ ‬وفهمه‭ ‬الفهم‭ ‬العقلاني‭ ‬المتبصر‭ ‬والمتدبّر،‭ ‬ولا‭ ‬حاجة‭ ‬لنا‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬للتاريخ‭ ‬الإنساني‭ ‬لاستقصاء‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬ممارسات‭ ‬تجسّد‭ ‬وجوده‭ ‬الفاعل‭ ‬والمنفعل‭ ‬والمتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬والطبيعة‭ ‬كل‭ ‬واحد،‭ ‬لا‭ ‬انفصام‭ ‬بينهما‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يفهموا‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬استجلاء‭ ‬حقيقة‭ ‬العماء‭ ‬الكوني‭ ‬أو‭ “‬chaos‭” ‬الذي‭ ‬يظل‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الاكتشاف‭ ‬والحفر‭ ‬في‭ ‬مناطقه‭ ‬المجهولة،‭ ‬وفي‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الطبيعة‭ ‬ونظامها،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ “‬القوة‭ ‬الناطقة‭” ‬بلغة‭ ‬القدماء‭ ‬وسيلة‭ ‬لبنينة‭ ‬الحد‭ ‬الفاصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحيواني‭ ‬والإنساني‭. ‬وكينونة‭ ‬الفرد‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬بتغليب‭ ‬جانب‭ ‬على‭ ‬آخر،‭ ‬بل‭ ‬بالعمل‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الاتحاد‭ ‬والوحدة‭ ‬بين‭ ‬العقل‭ ‬والروح،‭ ‬فبهما‭ ‬تتم‭ ‬القوة‭ ‬الإنجازية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الرؤية‭ ‬الجديرة‭ ‬بامتلاك‭ ‬قوة‭ ‬التفكير‭ ‬والتمكّن‭ ‬من‭ ‬تدبير‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والفكر‭ ‬حتى‭ ‬يقوما‭ ‬بدورهما‭ ‬في‭ ‬نتاج‭ ‬منظومة‭ ‬ثقافية‭ ‬تكرّس‭ ‬العقلي‭ ‬على‭ ‬الهووي‭ (‬من‭ ‬الأهواء‭) ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬ماهو‭ ‬غريزي،‭ ‬وهنا‭ ‬مكمن‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬العقل‭ ‬واللاعقل،‭ ‬فبالعقل‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬اليقين‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬الشك،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬اللاعقل‭ ‬يقوم‭ ‬بعملية‭ ‬التضليل‭ ‬والحكم‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬بالإقامة‭ ‬في‭ ‬اللايقين،‭ ‬وتلك‭ ‬معضلة‭ ‬من‭ ‬معضلات‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الوجود‭.‬

إن‭ ‬أهمية‭ ‬العقل‭ ‬لا‭ ‬تتحدد‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬ولكن‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬الإيديولوجيات‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الموجود‭/ ‬الكائن‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬جعله‭ ‬عبدا‭ ‬مقيدا‭ ‬بها‭ ‬وسجينا‭ ‬لها،‭ ‬خصوصا‭ ‬وأنها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أنساق‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬والمعتقدات‭ ‬تشكّل‭ ‬عائقا‭ ‬أمام‭ ‬العقل‭ ‬لأداء‭ ‬وظيفته‭ ‬وتكبيله‭ ‬بمتاريس‭ ‬التبعية‭ ‬والاجترار،‭ ‬كما‭ ‬تضرب‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬أصل‭ ‬الكائن‭ ‬المتجسد‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬تكتسب‭ ‬من‭ ‬تحرر‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المنظومات،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬فاعليته‭ ‬مرتبطة‭ ‬بتجرّده‭ ‬منها‭ ‬والانفصال‭ ‬عنها‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شوفينية‭ ‬منغلقة‭.‬

من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬عبر‭ ‬مراحله‭ ‬التاريخية‭ ‬والحضارية،‭ ‬ظلّ‭ ‬رهين‭ ‬واقع‭ ‬موسوم‭ ‬بهيمنة‭ ‬الفكر‭ ‬الأحادي‭ ‬والنظرة‭ ‬الضيّقة‭ ‬للذات‭ ‬باعتبارها‭ ‬وجودا‭ ‬مفكرا،‭ ‬وللقضايا‭ ‬باعتبارها‭ ‬موجودا‭ ‬مفكّرا‭ ‬فيها،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تقزيم‭ ‬الخيال‭ ‬ومن‭ ‬تمّ‭ ‬تهميش‭ ‬العقل،‭ ‬والأكثر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬ممارسة‭ ‬القتل‭ ‬في‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬التدبّر‭ ‬والتبصّر‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬الاحتمال‭ ‬والالتباس،‭ ‬وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬العاطفة‭ ‬الآلية‭ ‬الذائعة‭ ‬في‭ ‬المقاربة‭ ‬والتحليل،‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬والانتقاد،‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬الفوضى‭ ‬وتحجيم‭ ‬دور‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع‭ ‬والحكم‭ ‬عليه‭ ‬بالقصور،‭ ‬وفي‭ ‬أحايين‭ ‬كثيرة‭ ‬بالحجر‭ ‬عليه،‭ ‬وهنا‭ ‬مكمن‭ ‬المحنة‭ ‬الوجودية‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬ويعيشها‭ ‬هذا‭ ‬العقل‭ ‬المنذور‭ ‬للتغييب‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬الدور‭ ‬المنوط‭ ‬به‭.                              ‬ولاشك‭ ‬أن‭ ‬المعاناة‭ ‬والمكابدة‭ ‬ملازمة‭ ‬وقائمة‭ ‬الذات‭ ‬للعقل‭ ‬العربي،‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬مضت،‭ ‬فالعقل‭ ‬الجاهلي‭ ‬كان‭ ‬سجين‭ ‬الحمية‭ ‬القبلية،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬له‭ ‬القدرة‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬نمط‭ ‬القبيلة،‭ ‬والمتمرد‭ ‬عنه‭ ‬مصيره‭ ‬المطاردة‭ ‬والنفي،‭ ‬وما‭ ‬تجربة‭ ‬العقل‭ ‬الصعلوكي‭ ‬إلا‭ ‬صورة‭ ‬حية‭ ‬تثبت‭ ‬أن‭ ‬سلطة‭ ‬القبيلة‭ ‬هي‭ ‬السائدة‭ ‬والفاعلة‭ ‬في‭ ‬النسق‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬والثقافي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬وعند‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬الإسلامي‭ ‬نجده‭ ‬عقلا‭ ‬خاضعا‭ ‬لسلطة‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬ولا‭ ‬يمكنه‭ ‬التفكير‭ ‬خارج‭ ‬هذا‭ ‬النطاق،‭ ‬فالسمة‭ ‬الفقهية‭ ‬لسان‭ ‬هذا‭ ‬الواقع،‭ ‬فكان‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬أشده‭ ‬بين‭ ‬العقل‭ ‬النقلي‭ ‬والعقل‭ ‬العقلي،‭ ‬ليبلغ‭ ‬مداه‭ ‬بين‭ ‬الإخوة‭ ‬الأعداء،‭ ‬السنة‭ ‬والمعتزلة،‭ ‬الذين‭ ‬مارسوا‭ ‬الإقصاء‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬لأن‭ ‬الهاجس‭ ‬المتحكم‭ ‬هو‭ ‬السلطة‭ ‬فقط‭. ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬عرفته‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬من‭ ‬الانفتاح‭ ‬والتثاقف‭ ‬والحوار‭ ‬مع‭ ‬الحضارات‭ ‬الأخرى،‭ ‬فإن‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬سكونيته‭ ‬وجموديته‭ ‬بسبب‭ ‬المقاومة‭ ‬الشرسة‭ ‬والضارية‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬أهل‭ ‬النقل‭ ‬والتقليد،‭ ‬مما‭ ‬عرّض‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬للمحاكمات‭ ‬والاعتقالات‭ ‬والاغتيالات،‭ ‬مما‭ ‬يثبت‭ ‬أن‭ ‬سلطة‭ ‬التحكم‭ ‬هي‭ ‬الشائعة‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬الحكام‭ ‬وفقهاء‭ ‬الدين‭ ‬الذين‭ ‬سلطوا‭ ‬سيوفهم‭ ‬باسم‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬رقاب‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬المفكر‭ ‬والحالم‭ ‬بإقامة‭ ‬دولة‭ ‬تؤمن‭ ‬بالاختلاف‭ ‬وتنبذ‭ ‬الائتلاف‭. ‬

إن‭ ‬الثابت‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬ظاهر‭ ‬أبدي‭ ‬لكون‭” ‬بنية‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭” ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الاستنساخ‭ ‬والاجترار،‭ ‬كابحة‭ ‬جموح‭ ‬الخيال‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يرتاد‭ ‬الآفاق‭ ‬البعيدة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬بنية‭ ‬معطوبة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬بالترميم‭ ‬والمعالجة‭ ‬وتجاوز‭ ‬ما‭ ‬يثبط‭ ‬رغبة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬والابتكار‭ ‬والخَلْق،‭ ‬فطبيعة‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يتحرر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأغلال‭ ‬والقيود‭ ‬التي‭ ‬تقيّد‭ ‬إرادته‭ ‬وتحدّ‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬العوالم‭ ‬المشعة‭ ‬بضوء‭ ‬الفكر‭ ‬والحياة‭. ‬بينما‭ ‬المتحوّل‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬يفكر‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي،‭ ‬لما‭ ‬يحملها‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬وأبعاد‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬التمرّد‭ ‬والعصيان‭ ‬المعقلن‭ ‬طبعا،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الجديد‭ ‬والسعي‭ ‬نحو‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭. ‬والتحول‭ ‬ضد‭ ‬التقليد‭ ‬والجهل،‭ ‬ضد‭ ‬التسطيح‭ ‬والثبات،‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يعيق‭ ‬اندفاعات‭ ‬صوب‭ ‬المستقبل‭. ‬إن‭ ‬العقل‭ ‬الاجتراري‭ ‬قتلٌ‭ ‬للنور‭ ‬وتصفية‭ ‬للحلم،‭ ‬وكافر‭ ‬بالاجتهاد‭ ‬وجاحد‭ ‬بالابتكار‭ ‬والإبداع‭. ‬مما‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬التأمّل‭ ‬في‭ ‬محنة‭ ‬المفكر‭ ‬المختلف‭ ‬الطارح‭ ‬لطروحات‭ ‬تبتغي‭ ‬تجاوز‭ ‬الكائن‭ ‬باقتراح‭ ‬الممكن،‭ ‬لنرى‭ ‬حجم‭ ‬العذاب‭ ‬الذي‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬التقليدي،‭ ‬وما‭ ‬محنة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬والتوحيدي‭ ‬وغيرهما‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬واغتيال‭ ‬حسين‭ ‬مروة‭ ‬وما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬من‭ ‬محاولة‭ ‬اغتياله‭ ‬ومحنة‭ ‬نصر‭ ‬حامد‭ ‬أبوزيد‭ ‬ومحمد‭ ‬أركون‭ ‬وأدونيس‭ ‬ومحمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬وغيرهم‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬والمنع‭ ‬الذي‭ ‬يطال‭ ‬الإبداع‭ ‬المختلف‭ ‬والمجدّد‭ ‬من‭ ‬تضييق‭ ‬ومحاربة،‭ ‬والاعتقالات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ضحيتها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والمفكرين‭ ‬والمبدعين‭ ‬العرب،‭ ‬سببه‭ ‬السلطة‭ ‬التقليدية‭ ‬بتجلياتها‭ ‬المختلفة‭ ‬والتي‭ ‬ترفض‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ينتقد‭ ‬العقل‭ ‬النقلي‭ ‬ومن‭ ‬تحاول‭ ‬إنارة‭ ‬الطريق‭ ‬المدلهم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العربية؛‭ ‬وهنا‭ ‬مكمن‭ ‬أعطاب‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭. ‬

إن‭ ‬رفض‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬للعقل‭ ‬المختلف‭ ‬والناقد‭ ‬ناجم‭ ‬عن‭ ‬نسق‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬التقليدي،‭ ‬والذي‭ ‬تحكمه‭ ‬رؤية‭ ‬للذات‭ ‬باعتبارها‭ ‬قاصرة،‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬كينونتها‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬سلطة‭ ‬المجتمع،‭ ‬ووجودها‭ ‬متعلّق‭ ‬بالجماعة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬انعكس‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مبادرة،‭ ‬وللعالم‭ ‬كمجال‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬الأسئلة،‭ ‬لكن‭ ‬نسق‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬يحوّله‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬مغلق‭ ‬جراء‭ ‬امتلاكه‭ ‬الأجوبة،‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬الصعب،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لعقل‭ ‬المثقف‭ ‬والمفكر‭ ‬والفيلسوف‭ ‬والنقاد‭ ‬مقام‭ ‬داخل‭ ‬منظومة‭ ‬اجتماعية‭ ‬تهمّش‭ ‬العقل‭ ‬وتنتصر‭ ‬للنقل‭.‬

لكن،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬حيث‭ ‬العالَم‭ ‬يشهد‭ ‬تراجعات‭ ‬وارتكاسات‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬المستويات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالممارسة‭ ‬الحقوقية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬يوجد‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬غيبوبة‭ ‬داخل‭ ‬نظام‭ ‬رأسمالي‭ ‬مستبد،‭ ‬وعولمة‭ ‬كاسحة‭ ‬وجارفة‭ ‬لكل‭ ‬شيء،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬استقالة‭ ‬تامة‭ ‬عن‭ ‬مشاكسة‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬تغيرات‭ ‬رهيبة،‭ ‬أفقدت‭ ‬الإنسان‭ ‬إنسانيته،‭ ‬وتلاشت‭ ‬كينونته‭ ‬بفعل‭ ‬الطغيان‭ ‬المهول‭ ‬والمرعب‭ ‬للماديات‭. ‬

هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الكارثي‭ ‬الذي‭ ‬تمرّ‭ ‬منه‭ ‬الإنسانية‭ ‬يستدعي‭ ‬ضرورة‭ ‬عودة‭ ‬العقل‭ ‬إلى‭ ‬وظيفته‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والتدبّر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المصير‭ ‬الملغوم‭ ‬والمحيّر‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬الإنسان،‭ ‬وذلك‭ ‬لإنقاذ‭ ‬المعنوي‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬هلاك‭ ‬منتظَر‭ ‬ونهاية‭ ‬مأسوف‭ ‬عليها‭. ‬ومن‭ ‬تمّ‭ ‬فالعقل‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬من‭ ‬عطالته‭ ‬الراهنة‭ ‬حتى‭ ‬يؤدي‭ ‬عمله‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬عبر‭ ‬نفض‭ ‬الغبار‭ ‬عنه‭ ‬لمواجهة‭ ‬الأسئلة‭ ‬المقلقة‭ ‬والمحيرة‭ ‬التي‭ ‬تطرحها‭ ‬الحضارة‭ ‬المعاصرة‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

العقل العربي في ضوء اجتهادات المثقفين العرب: الماهية والمعيقات

لا‭ ‬يمكن‭ ‬تحديد‭ ‬معيقات‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬بدون‭ ‬تحديد‭ ‬ماهيته‭ ‬التي‭ ‬تعتريها‭ ‬صعوبات،‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬التساؤل‭: ‬هل‭ ‬العقل‭ ‬كوني‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬اشتغاله،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬مختلف‭ ‬باختلاف‭ ‬الفاعلية‭ ‬الخاصة‭ ‬بكل‭ ‬حضارة‭ ‬أو‭ ‬ثقافة؟

لقد‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬صفات‭ ‬محددة‭ ‬له،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اعتقد‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬بخصوصية‭ ‬العقل‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تميز‭ ‬فعله،‭ ‬فما‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬الصفات‭ ‬التي‭ ‬اتخذ؟‭ ‬وكيف‭ ‬تعوقه‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬فعله‭ ‬العقلاني‭ ‬التنويري‭ ‬والنهضوي‭ ‬بشكل‭ ‬واضح؟

1 ‭ – ‬العقل‭ ‬المتعدد‭:‬

انتقل‭ ‬المفكر‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬من‭ ‬الخطاب‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬مميزا‭ ‬داخله‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬ثلاث،‭ ‬البرهاني،‭ ‬البياني‭ ‬ثم‭ ‬العرفاني،‭ ‬لينتصر‭ ‬لضرورة‭ ‬البرهان‭ ‬كآلية‭ ‬منتجة‭ ‬للفكر‭ ‬وعاملة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬استمراريته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشروع‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬الذي‭ ‬تعثر‭ ‬بفعل‭ ‬عوامل‭ ‬ثقافية‭ ‬وحتى‭ ‬سياسية،‭ ‬بالعوائق‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬اعترضت‭ ‬مساره‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النهضة‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬توقفها،‭ ‬إلا‭ ‬إعاقة‭ ‬ثانية‭ ‬لمشروع‭ ‬العقل‭ ‬البرهاني‭ ‬الذي‭ ‬صارع‭ ‬على‭ ‬واجهتين،‭ ‬منذ‭ ‬بدايته،‭ ‬واجهة‭ ‬التصدي‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬عرفاني،‭ ‬لينضاف‭ ‬الفقه‭ ‬المدجج‭ ‬بالبيان‭ ‬اللغوي‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬عادته،‭ ‬وهناك‭ ‬عوامل‭ ‬أخرى‭ ‬تاريخية،‭ ‬فيها‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭.‬

2 ‭ – ‬العقل‭ ‬الإسلامي‭:‬

نبه‭ ‬محمد‭ ‬أركون‭ ‬لصعوبة‭ ‬العرقي‭ ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬العقل،‭ ‬لذلك‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬المقصود،‭ ‬هو‭ ‬عقل‭ ‬إسلامي،‭ ‬بالمعنى‭ ‬الثقافي‭ ‬والحضاري،‭ ‬وليس‭ ‬العقدي،‭ ‬وبذلك‭ ‬فهو‭ ‬بمنطق‭ ‬الديني‭ ‬فيه،‭ ‬يرث‭ ‬آليات‭ ‬اشتغال‭ ‬ثقافية،‭ ‬محروسة‭ ‬بأرتوذكسية‭ ‬اكتسبت‭ ‬مشروعيتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عمقها‭ ‬الوجداني‭ ‬التراثي،‭ ‬مما‭ ‬دفعه‭ ‬لمحاولة‭ ‬تحليل‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬بطريقة‭ ‬تحرره‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬البيان‭ ‬اللغوي‭ ‬النحوي‭ ‬والاشتقاقي،‭ ‬فأنتج‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الورش‭ ‬الجماعي‭ ‬المتابع‭ ‬لطبيعة‭ ‬النص‭ ‬ومرفقاته‭ ‬المفسرة،‭ ‬بغية‭ ‬استحضار‭ ‬التجربة‭ ‬التاريخية‭ ‬للفهم‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬الفيلولوجيا‭ ‬التي‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬الأبعاد‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬المقدس،‭ ‬مميزا‭ ‬بين‭ ‬القرآن‭ ‬وتفسيره‭ ‬البشري،‭ ‬وبذلك‭ ‬فقد‭ ‬رسم‭ ‬أركون‭ ‬صعوبة‭ ‬تحرير‭ ‬العقل‭ ‬الإسلامي،‭ ‬المثقل‭ ‬بما‭ ‬تم‭ ‬إنتاجه‭ ‬تراثيا‭ ‬حول‭ ‬اكتفائه‭ ‬بذاته‭ ‬واعتبار‭ ‬ذلك‭ ‬حفظا‭ ‬لهوية‭ ‬شكلت‭ ‬لنفسها‭ ‬روادع‭ ‬ضد‭ ‬التجديد‭ ‬والتطوير،‭ ‬مما‭ ‬نستنتج‭ ‬معه‭ ‬أن‭ ‬عوائق‭ ‬العقل‭ ‬وأعطابه‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬مصدرها‭ ‬ليس‭ ‬الماضي‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬الحاضر‭ ‬المفكر‭ ‬من‭ ‬خلاله‭.‬

3 ‭ – ‬العقل‭ ‬النصي‭:‬

أما‭ ‬حامد‭ ‬نصر‭ ‬أبو‭ ‬زيد،‭ ‬فقد‭ ‬وصف‭ ‬العقل‭ ‬بالنصي،‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬منطق‭ ‬المنصة‭ ‬الخطابية،‭ ‬فهو‭ ‬يشتغل‭ ‬متعاليا‭ ‬بالنص‭ ‬المقدس،‭ ‬لتمتد‭ ‬القداسة‭ ‬للتفسير‭ ‬حاجبة‭ ‬ما‭ ‬عداها‭ ‬ومتمثلة‭ ‬للواقع‭ ‬عبر‭ ‬نصوص‭ ‬مغلقة‭ ‬لا‭ ‬تنفتح‭ ‬عن‭ ‬الحاضر،‭ ‬إلا‭ ‬بتحنيطه‭ ‬ليصير‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬يحلم‭ ‬به،‭ ‬هو‭ ‬تحقيق‭ ‬النموذج‭ ‬الخالص‭ ‬المكرر‭ ‬لما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬كانته‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية،‭ ‬في‭ ‬تعاليها‭ ‬وتشييدها‭ ‬لماض‭ ‬يأبى‭ ‬أن‭ ‬يمضي‭ ‬حفظا‭ ‬لوجوده‭ ‬المقدس‭ ‬بالنص،‭ ‬نابذا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬اختلف‭ ‬عنه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬داخله،‭ ‬برهانا‭ ‬وتصوفا‭ ‬وتمذهبا،‭ ‬فكيف‭ ‬يقبل‭ ‬بما‭ ‬خالفه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬نجح‭ ‬واقعيا‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬والتطور؟

4 ‭ – ‬وحدة‭ ‬العقل‭:‬‭ ‬

نستحضر‭ ‬هنا‭ ‬جورج‭ ‬طرابيشي‭ ‬في‭ ‬نقده‭ ‬لمشروع‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬مؤكدا‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬وتداخل‭ ‬مكوناته‭ ‬الثلاث،‭ ‬فابن‭ ‬رشد‭ ‬رغم‭ ‬انتصاره‭ ‬لأرسطو‭ ‬البرهاني،‭ ‬استشهد‭ ‬بالنص‭ ‬القرآني،‭ ‬وابن‭ ‬سينا‭ ‬رغم‭ ‬صوفية‭ ‬مشروعه،‭ ‬كان‭ ‬ساعيا‭ ‬لتجاوز‭ ‬أرسطو‭ ‬الذي‭ ‬صارت‭ ‬مقولاته‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬نصية‭ ‬بعجز‭ ‬قرائه‭ ‬على‭ ‬تجاوزه،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الكنيسة‭ ‬تبنت‭ ‬رؤيته‭ ‬كمرجعية‭ ‬واجهت‭ ‬بها‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬الفلك‭ ‬والطبيعة،‭ ‬تأويلا‭ ‬أو‭ ‬تكرارا،‭ ‬فالعقل‭ ‬ليس‭ ‬مبدأ‭ ‬خالصا‭ ‬يقصي‭ ‬غيره‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬سياسيا‭ ‬مع‭ ‬المعتزلة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬دافع‭ ‬للتفكير‭ ‬وحصيلة‭ ‬لهذا‭ ‬التفكير‭ ‬نفسه،‭ ‬بما‭ ‬يراكم‭ ‬من‭ ‬مكتسبات‭ ‬يتأثر‭ ‬بها‭ ‬مؤثرا‭ ‬فيها،‭ ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تأجل‭ ‬التفكير‭ ‬فيها،‭ ‬هي‭ ‬كونه‭ ‬عزل‭ ‬عن‭ ‬العلم‭ ‬وتم‭ ‬ربطه‭ ‬بالمجال‭ ‬العملي‭ ‬الأخلاقي،‭ ‬لأن‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ارتكزت‭ ‬على‭ ‬أخلاقيته‭ ‬ومحاولة‭ ‬تقريبه‭ ‬من‭ ‬الهم‭ ‬التشريعي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬ليمارس‭ ‬قياسه‭ ‬اليقيني‭ ‬ويكتسب‭ ‬مشروعية‭ ‬تبيح‭ ‬له‭ ‬ربط‭ ‬نفسه‭ ‬بالديني‭ ‬ليقبل‭ ‬به‭ ‬ويعتمده‭ ‬متجاوزا‭ ‬حدوده‭ ‬القياسية‭ ‬العقلية‭ ‬التي‭ ‬حولها‭ ‬الفقه‭ ‬إلى‭ ‬قياسات‭ ‬شرعية‭ ‬إسلامية‭.‬

خلاصات‭:‬

لقد‭ ‬وجد‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬نموذج‭ ‬هوياتي‭ ‬مزدوج،‭ ‬إسلامي‭ ‬ناهض،‭ ‬قنن‭ ‬اللغة‭ ‬بالبيان‭ ‬ودشن‭ ‬بدايته‭ ‬بالتطلع‭ ‬لمشروع‭ ‬سياسي‭ ‬حصن‭ ‬نفسه‭ ‬بثقافة‭ ‬إسلامية‭ ‬موروثة،‭ ‬تقوت‭ ‬بالمقدس‭ ‬بل‭ ‬تماهت‭ ‬معه،‭ ‬وفي‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى،‭ ‬أراد‭ ‬استنبات‭ ‬عقلانية‭ ‬يونانية‭ ‬اتهمت‭ ‬سلفيا‭ ‬بالوثنية،‭ ‬وكان‭ ‬عليه‭ ‬تبرئة‭ ‬عقلها‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فخاض‭ ‬معتركا‭ ‬أضعف‭ ‬فعاليته‭ ‬النظرية،‭ ‬ولأن‭ ‬العلوم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بعد‭ ‬قد‭ ‬تطورت،‭ ‬لتنصفه‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬فتراجع‭ ‬مدافعا‭ ‬عن‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬الاعتقاد‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬هو،‭ ‬مبعدا‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬الثقافة،‭ ‬مما‭ ‬سمح‭ ‬لخصومه‭ ‬بعزله‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬الآلة‭ ‬المنطقية‭ ‬والقياسية،‭ ‬ولم‭ ‬يحذ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬إلا‭ ‬الفارابي‭ ‬وابن‭ ‬ميمون،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬فهمهما‭ ‬الفلسفي‭ ‬للوحي،‭ ‬بالحديث‭ ‬والكتابة‭ ‬عن‭ ‬الخيال‭ ‬النبوي،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يصلنا‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬القليل،‭ ‬ولم‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬ذلك‭ ‬أحد‭ ‬بعدهما،‭ ‬لكن‭ ‬حاليا،‭ ‬أدرك‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬والمثقفين،‭ ‬أهمية‭ ‬العودة‭ ‬للنص‭ ‬المقدس،‭ ‬بغية‭ ‬إعادة‭ ‬فهمه‭ ‬بما‭ ‬تسمح‭ ‬به‭ ‬المناهج‭ ‬الحديثة،‭ ‬لتحرير‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬النصية‭ ‬السلفية‭ ‬وحتى‭ ‬الحداثية‭ ‬نفسها،‭ ‬بأن‭ ‬تعكف‭ ‬على‭ ‬توضيح‭ ‬تناقضات‭ ‬التفسير‭ ‬للمقدس‭ ‬واستغلاله‭ ‬له‭ ‬لمحاصرة‭ ‬انطلاقة‭ ‬العقل،‭ ‬المدجج‭ ‬بأدوات‭ ‬جريئة‭ ‬تسائل‭ ‬المسلمات‭ ‬وتعري‭ ‬زيف‭ ‬أسسها‭ ‬تاريخيا‭ ‬وثقافيا‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ابن رشد: محنة العقل ومأساة الرأي المخالف

عُرفت‭ ‬الفلسفة‭ ‬خلال‭ ‬تاريخها‭ ‬الطويل‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭  ‬اليونانية‭ ‬إلى‭ ‬هيغل‭ ‬بمحبة‭ ‬الحكمة‭ ‬بغاية‭ ‬بلوغ‭ ‬الحقيقة‭ ‬النهائية‭ ‬والثابتة‭ ‬والكشف‭ ‬عنها،‭ ‬أي‭ ‬حقيقة‭ ‬الوجود‭ ‬والكون،‭ ‬ولعل‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬ماهية‭ ‬الحقيقة‭ ‬كان‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬سؤلاً‭ ‬انطولوجيا‭ ‬قصد‭ ‬تفكيكها‭ ‬والبحث‭ ‬في‭ ‬معناها‭ ‬عبر‭ ‬المقاييس‭ ‬والمناهج‭ ‬التي‭ ‬تُعير‭ ‬بها‭ ‬قيمة‭ ‬الحقيقة‭ ‬وغاياتها‭.‬

يؤكد‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬فريديريك‭ ‬نيتشه‭  ‬بأنه‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬حقيقة‭ ‬ثابتة‭ ‬يقينية‭ ‬بعينها‭ ‬بل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لدينا‭ ‬هو‭ ‬انطباعات‭ ‬واعتقادات‭ ‬قوية‭ ‬فقط‭ ‬كما‭ ‬يزعم‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬مستعد‭ ‬لقول‭ ‬الحقيقة‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مهيأ‭ ‬للرحيل‭ ‬بعدها،‭ ‬فالأفراد‭ ‬يتمسكون‭ ‬باستماتة‭ ‬بأوهامهم‭ ‬ويرفضون‭ ‬الحقيقة‭ ‬و‭ ‬قائلها،‭ ‬لما‭ ‬قد‭ ‬تحطم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬دواخلهم‭ ‬من‭ ‬أمان‭ ‬واستقرار،‭ ‬وقد‭ ‬يتحول‭ ‬البوح‭ ‬الصادق‭ ‬أو‭ ‬القول‭ ‬المُحاج‭ ‬إلى‭ ‬محرك‭ ‬للصراع‭ ‬وسببا‭ ‬لخلق‭ ‬أزمات‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬الإقصاء‭ ‬والظلم‭ ‬و‭ ‬التهميش‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬الفرد‭ ‬الواحد‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬نظام‭ ‬الجماعة‭ ‬الذي‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬الأفكار‭ ‬وبالموروث‭ ‬والرابط‭ ‬الوجداني‭ ‬حول‭ ‬القضايا‭ ‬المينافيزيقية‭ ‬و‭ ‬الوجودية‭.‬

وتحتفظ‭ ‬لنا‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بنماذج‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬التي‭ ‬عانى‭ ‬فيها‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬أبشع‭ ‬صور‭ ‬الخنق‭ ‬والاغتيال،‭  ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬الذي‭ ‬عاشوا‭ ‬معاناة‭ ‬رهيبة‭ ‬جراء‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬يحملون‭ ‬من‭ ‬تصورات‭ ‬وما‭ ‬يعبرون‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬أفكار،‭ ‬وهي‭ ‬المعاناة‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬الى‭ ‬رفض‭ ‬أفكارهم،‭ ‬بل‭ ‬وإلى‭ ‬تعذيبهم،‭ ‬رمزا‭ ‬وجسد،‭ ‬ا‭ ‬واغتيالهم‭ ‬ومصادرة‭ ‬كتبهم‭ ‬وحرقها‭.‬

ولعل‭ ‬محنة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬العربي‭ ( ‬ابن‭ ‬رشد‭ ) ‬خير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثرات‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬والاسلامي‭. ‬

يعد‭ ‬فيلسوف‭ ‬قرطبة‭ (‬1126‭_‬1198م‭)‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬وهو‭ ‬أبو‭ ‬الوليد‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬محمدبن‭ ‬أحمد‭ ‬ابن‭ ‬أحمد‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الفلاسفة‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬الذي‭ ‬إهتم‭ ‬بالفلسفة‭ ‬الأرسطي‭ ‬وأسهم‭ ‬في‭ ‬شرحها‭ ‬و‭ ‬ترجمتها‭ ‬بعدما‭ ‬كُلف‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬السلطان‭ ‬المستنير‭ “‬أبي‭ ‬يعقوب‭ ‬يوسف‭” ‬حينما‭ ‬قدمه‭ ‬المفكر‭ ‬ابن‭ ‬طفيل‭ ‬له‭ ‬سنة‭ ‬1169م،‭ ‬لما‭ ‬عرف‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬من‭ ‬إرادة‭ ‬و‭ ‬استقامة‭ ‬عاليتين،‭ ‬ومن‭ ‬بلاغة‭ ‬وفصاحة‭ ‬شديدتين،‭ ‬ومعرفته‭ ‬الواسعة‭ ‬بخصوص‭ ‬علم‭ ‬الكلام‭ ‬والفقه‭ ‬و‭ ‬درايته‭ ‬بمجال‭ ‬العلوم‭ ‬والشعر‭ ‬والحكمة،‭ ‬ويذكر‭  ‬أبو‭ ‬الآبار‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬الوليد‭ ‬أنه‭ “‬كانت‭ ‬الدراية‭ ‬أغلب‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الرواية‭” ‬حيث‭ ‬مكنته‭ ‬نباهته‭ ‬وحكمته‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬واحدة‭ ‬والعقول‭ ‬متعددة‭ ‬و‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬المؤمن‭ ‬بوحدة‭ ‬الحقيقة‭ ‬واختلاف‭ ‬طرق‭ ‬وسبل‭ ‬بلوغها،‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬تفاوت‭ ‬درجات‭ ‬وحظوظهم‭ ‬في‭ ‬تحصيلها،‭ ‬لهذا‭ ‬وجد‭ ‬مراتب‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬بلوغ‭ ‬التصديق‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقسام،‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬يصدق‭ ‬بالبرهان‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬يصدق‭ ‬بالأقاويل‭ ‬الجدلية‭{‬تصديق‭ ‬صاحب‭ ‬البرهان‭ ‬بالبرهان‭} ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬طباعه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬يصدق‭ ‬بالأقاويل‭ ‬الخطابية‭ ‬وهم‭ ‬جمهور‭ ‬الناس‭ ‬وعامّتهم،‭ ‬فنوعية‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬كاف‭ ‬لتحقيق‭ ‬يقين‭ ‬العامة‭ ‬و‭ ‬إيمانهم‭ ‬ووصولهم‭ ‬إلى‭ ‬التصديق‭.‬

بل‭ ‬إنه‭ ‬يجب‭  ‬أن‭ ‬ألا‭ ‬يتعدى‭ ‬بهم‭ ‬هذا‭ ‬النطاق،‭ ‬لأن‭ ‬الدخول‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الجدل‭ ‬أو‭ ‬حقائق‭ ‬البرهان‭ ‬مفسد‭ ‬ليقينهم‭ ‬وذاهب‭ ‬بإيمانهم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لهم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬هذه‭ ‬الأدوات،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لايستطيعون‭ ‬ان‭ ‬يحصلوا‭ ‬بواسطتها‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬التصديق‭ ‬واليقين‭. ‬أما‭ ‬أهل‭ ‬الجدل‭ ‬فهي‭ ‬مرتبة‭ ‬تلي‭ ‬الجمهور‭ ‬صعوداً‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يصلوا‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬أهل‭ ‬البرهان‭ ‬وهؤلاء‭ ‬لهم‭ ‬الأقاويل‭ ‬الجدلية‭ ‬سبيلاً‭ ‬إلى‭ ‬التصديق‭ ‬وهم‭ ‬إذا‭ ‬طلب‭ ‬إليهم‭ ‬التصديق‭ ‬بالأقاويل‭ ‬الخطابية‭ ‬لم‭ ‬يتحصل‭ ‬لهم‭ ‬اليقين‭ ‬واذا‭ ‬سلكوا‭ ‬للتصديق‭ ‬طريق‭ ‬البرهان‭ ‬لم‭ ‬تُفسر‭ ‬لهم‭ ‬هذه‭ ‬الأدوات،‭ ‬ومن‭ ‬تم‭ ‬لم‭ ‬تتحصل‭ ‬لهم‭ ‬ثمرات‭ ‬استخدامها،‭ ‬وفي‭ ‬القمة‭ ‬يأتي‭ ‬أهل‭ ‬النظر،‭ ‬العارفون‭ ‬بصناعة‭ ‬الحكمة‭ ‬والسالكون‭ ‬إلى‭ ‬التصديق‭ ‬طريق‭ ‬البرهان‭ ‬وهم‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الذين‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يصونوا‭ ‬صناعتهم‭ ‬عن‭ ‬أهل‭ ‬الجدل‭ ‬وعن‭ ‬الجمهور‭ ‬وذلك‭ ‬حفاظا‭ ‬على‭ ‬التصديق‭ ‬الذي‭ ‬تحصل‭ ‬لكل‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬السبيل‭ ‬الذي‭ ‬هيئ‭ ‬له‭ ‬وفق‭ ‬مالديه‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭…(‬فصل‭ ‬المقال‭…).‬

ولفك‭ ‬النزاع‭ ‬والخلاف‭ ‬بين‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمتكلمين‭ ‬حول‭ ‬إشكالات‭ ‬قضايا‭ ‬العالم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬مُحدثا‭ ‬أم‭ ‬قديما؟‭ ‬والمَعاد‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬مادي‭ ‬أم‭ ‬روحي‭! ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬العلم‭ ‬الإلهي‭ ‬محيطاً‭ ‬بالجزئيات‭ ‬أم‭ ‬مقتصراً‭ ‬على‭ ‬الكليات،‭ ‬اشترط‭ ‬منهج‭ ‬التأويل‭ ‬لتفسير‭ ‬ها‭ ‬وفحصها‭ ‬وبلوع‭ ‬التصديق‭ ‬بشأنها‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يراه‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬ضروريا‭ ‬لأهل‭ ‬النظر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرهم‭ ‬لأنهم‭ ‬أقدر‭ ‬عليه‭ ‬وأحق‭ ‬باستخدامه‭ ‬وهو‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬نفي‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬تعارض‭ ‬وتناقض‭ ‬بين‭ ‬ظواهر‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ (‬القرآن‭ ‬الكريم‭/‬السنة‭) ‬فالشريعة‭ ‬قسمان‭ ‬ظاهر‭ ‬ومؤول‭ ‬والظاهر‭ ‬منها‭ ‬هو‭ ‬فرض‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬والمؤول‭ ‬فرض‭ ‬العلماء‭ ‬و‭ ‬الحكماء،‭ ‬ولقد‭ ‬أقر‭ ‬الشرع‭ ‬وأوجد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الموجودات‭ ‬واعتبرها‭ ‬لقول‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ (‬فانظروا‭ ‬يا‭ ‬أولى‭ ‬الأبصار‭) ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الاعتبار‭ ‬ليس‭ ‬شيئا‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬استنباط‭ ‬المجهول‭ (‬الصانع‭/‬الخالق‭) ‬أو‭ ‬المحرك‭ ‬الأول‭ ‬بلغة‭ ‬أرسطو‭ ‬من‭ ‬المعلوم‭ (‬الموجودات‭) ‬واستخراجه‭ ‬منه‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬القياس‭ ‬العقلي‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬أحد‭ ‬أدوات‭ ‬العقل‭ ‬فالاستنباط‭.‬

دعى‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬إلى‭ ‬إعمال‭ ‬العقل‭ ‬كمصدر‭ ‬لفحص‭ ‬الحقائق‭ ‬واستنباطها‭ ‬وإثبات‭ ‬إخاء‭ ‬الفلسفة‭ (‬الحكمة‭) ‬للشريعة‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ : ‬إن‭ ‬مثل‭ ‬من‭ ‬منع‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الحكمة‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬أهل‭ ‬لها،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬قوما‭ ‬من‭ ‬أراذل‭ ‬الناس‭ ‬قد‭ ‬يظن‭ ‬بهم‭ ‬انهم‭ ‬ضلّوا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬نظرهم‭ ‬فيها،‭ ‬مثل‭ ‬من‭ ‬منع‭ ‬العطشان‭ ‬من‭ ‬شرب‭ ‬الماء‭ ‬البارد‭ ‬العذب‭ ‬حتى‭ ‬مات،‭ (‬من‭ ‬العطش‭)  ‬لأن‭ ‬قوما‭ ‬شرقوا‭ ‬به‭ ‬فماتوا،‭ ‬فإن‭ ‬الموت‭ ‬عن‭ ‬الماء‭ ‬بالشَّرَقِ‭ ‬أمرٌ‭ ‬عارضٌ‭ ‬وعن‭ ‬العطشِ‭ ‬أمرٌ‭ ‬ذاتي‭ ‬وضروري‭.‬

‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مصير‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬مصيراً‭ ‬مختلفا‭ ‬عن‭ ‬مصائر‭ ‬مناصري‭ ‬الحقيقة‭ ‬وأصحاب‭ ‬الحكمة‭ ‬كالفيلسوف‭ ‬اليوناني‭ ‬سقراط‭ ‬الذي‭ ‬اتهم‭ ‬بالافساد‭ ‬عقول‭ ‬الشباب‭ ‬وتضليلهم‭ ‬الطريق‭ ‬المستقيم‭ ‬وحكم‭ ‬بالإعدام‭ ‬أثر‭ ‬ذلك‭ ‬فمحنة‭ ‬ابن‭ ‬أشد‭ ‬بنفيه‭ ‬وحرق‭ ‬كتبه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أزمة‭ ‬خاصة‭ ‬بكيان‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬ومقامه‭ ‬الفكري‭ ‬الكبير‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬ونكسة‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬برمته‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تنقشع‭ ‬سحابة‭ ‬هذه‭ ‬المحنة‭ ‬لحدوث‭ ‬الساعة‭ ‬فما‭ ‬تزال‭ ‬أثار‭ ‬المحنة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬الانكسار‭ ‬والهزيمة‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ .  ‬ولا‭ ‬يسعنا‭ ‬لوصف‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬التاريخية‭ ‬إلا‭ ‬الاستعانة‭ ‬بقول‭ ‬الكاتب‭ ‬المغربي‭ ‬عبد‭ ‬الفتاح‭ ‬كليطو‭ ‬في‭ ‬لسان‭ ‬آدام‭.. (‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬اذا‭ ‬نحن‭ ‬الأغنياء‭ ‬بمعرفة‭ ‬مريرة،‭ ‬فإن‭ ‬مراسيم‭ ‬دفن‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬تشكل‭ ‬لحظة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬لحظة‭ ‬تبعد‭ ‬فيها‭ ‬الفلسفة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال،‭)‬

ونجد‭ ‬الراهب‭ ‬تشارلز‭ ‬سكوت‭ ‬يرثي‭ ‬حدث‭  ‬نفي‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭:‬

أطرودك‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬رشد؟‭ ‬فمرحبا‭ ‬بك‭ ‬بين‭ ‬أحضاننا،‭ ‬وعلى‭ ‬عتباتنا‭ ‬وفي‭ ‬ديارنا‭!‬

أخرجوك‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬الضيق‭ ‬القصير؟‭ ‬فنحن‭ ‬ندخلك‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬الواسع‭ ‬العريض‭! ‬أبعدوك؟‭  ‬فنحن‭ ‬نقربك‭ ‬إلينا‭! ‬أقصوك‭ ‬لأمر‭ ‬تافه‭ ‬فيه‭ ‬مكيدة؟‭ ‬فنحن‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬ندمجك‭ ‬في‭ ‬عقولنا‭ ‬وأشخاصنا،‭ ‬في‭ ‬مدارسنا‭ ‬وأديرتنا‭!‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية…

‭”‬اغتيال‭ ‬العقل“‬‭.. ‬ لعل‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬الموجزة‭ ‬تلخص‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬مسار‭ ‬الثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭- ‬الإسلامي،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬عصر‭ ‬من‭ ‬العصور‭ ‬المشكلة‭ ‬لهذا‭ ‬التاريخ‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬محطات‭ ‬كان‭ ‬عنوانَها‭ ‬الأبرزَ‭ ‬الإجهازُ‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الهوامش‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬للعقل‭ ‬بأن‭ ‬يبدع‭ ‬ويشتغل‭ ‬بحرية‭. ‬لقد‭ ‬وضعت‭ ‬السلطة‭ ‬السياسة‭ ‬خطوطا‭ ‬حمراء‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬تجاوزها‭ ‬تفكيرا‭ ‬وتصورا‭ ‬وتأملا،‭ ‬وغلفت‭ ‬هذه‭ ‬الخطوط‭ ‬بغشاوة‭ ‬دينية‭ ‬لتبريرها،‭ ‬وسلطت‭ ‬سيفَ‭ ‬الرقابة‭ ‬وتهمةَ‭ ‬الزندقة‭ ‬زجرا‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يتجرأ‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬الدائرة‭ ‬التي‭ ‬ترسمها‭ ‬السلطة‭ ‬وتحددها‭ ‬مصالحها‭ ‬المتداخلة‭ ‬مع‭ ‬مصالح‭ ‬الفقهاء‭ ‬الذين‭ ‬شكلوا‭ ‬–‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬استثناءات‭ ‬قليلة‭ ‬–‭ ‬الدرع‭ ‬الواقية‭ ‬للسلطة‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬استبدادها‭ ‬السياسي؛‭ ‬وبذلك‭ ‬مثل‭ ‬الفقهاء‭ ‬بسلطتهم‭ ‬الدينية‭ ‬المستندة‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ “‬السلطان‭ ‬السياسي‭” ‬عنصر‭ ‬تشويش‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬فباسم‭ ‬الدين‭ ‬مارست‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬قمعها‭ ‬كلَّ‭ ‬الأصوات‭ ‬المناوئة‭ ‬لتوجهاتها،‭ ‬فاغتيل‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب،‭ ‬قديما‭ ‬وحديثا،‭ ‬وباسم‭ ‬الدين‭ ‬تم‭ ‬حرق‭ ‬كتب‭ ‬ومصنفات‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬سوى‭ ‬لأن‭ ‬فقهاء‭ ‬السلطة‭ ‬وجدوا‭ ‬بين‭ ‬ثناياها‭ ‬ما‭ ‬يخالف‭ ‬أمزجتهم‭ ‬ونظرتهم‭ ‬للأشياء،‭ ‬وباسم‭ ‬الدين‭ ‬أيضا‭ ‬تم‭ ‬إصدار‭ ‬ركام‭ ‬من‭ ‬الفتاوى‭ ‬التي‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬مضامينها‭ ‬وصياغتها،‭ ‬ولكنها‭ ‬تلتقي‭ ‬كلها‭ ‬عند‭ ‬فكرة‭ ‬قمع‭ ‬الرأي‭ ‬الحر،‭ ‬ووضع‭ ‬أسس‭ ‬التفكير‭ ‬ومنطلقاته‭ ‬ضمن‭ ‬قوالب‭ ‬جاهزة‭ ‬ومنمطة‭ ‬بصورة‭ ‬جاهزة‭ ‬مسبقا‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الطفرة‭ ‬النوعية‭ ‬التي‭ ‬تشكلت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون،‭ ‬بفعل‭ ‬انفتاح‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬أفكار‭ ‬الأمم‭ ‬الأخرى،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية،‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬الطفرة‭ ‬لم‭ ‬تكتب‭ ‬لها‭ ‬الاستمرارية‭ ‬لعوامل‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتداخلة‭ ‬فصل‭ ‬فيها‭ ‬مؤرخو‭ ‬ودارسو‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬ودارسو‭ ‬التفكير‭ ‬الفلسفي‭ ‬والمنطق‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬وبذلك‭ ‬خسر‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬معركته‭ ‬التاريخية‭ ‬ضد‭ ‬هيمنة‭ ‬سلطة‭ ‬النقل‭ ‬والاجترار‭. ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬حاول‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬في‭ ‬شروط‭ ‬تاريخية‭ ‬وثقافية‭ ‬لاحقة،‭ ‬التدليل‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬تعارض‭ ‬بين‭ ‬الشريعة‭ ‬والتفكير‭ / ‬العقل،‭ ‬فإن‭ ‬محاولته‭ ‬ووجهت‭ ‬بكل‭ ‬أشكال‭ ‬المصادرة‭ ‬والقمع‭.‬

إن‭ ‬حرية‭ ‬التفكير‭ ‬والنقد‭ ‬شرط‭ ‬أساس‭ ‬لأي‭ ‬نهوض‭ ‬حضاري،‭ ‬فعندما‭ ‬تُقمع‭ ‬حريات‭ ‬التعبير،‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تتضاءل‭ ‬مساحات‭ ‬الإبداع‭ ‬بمختلف‭ ‬تجلياته،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتصور‭ ‬إنجازا‭ ‬نهضويا‭ ‬بدون‭ ‬أسس‭ ‬عقلانية،‭ ‬أي‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬البوصلة‭ ‬الموجهة‭ ‬للفكر‭ ‬ولرؤية‭ ‬الواقع‭. ‬إن‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تقطع‭ ‬أشواطا‭ ‬مهمة‭ ‬على‭ ‬درب‭ ‬التقدم،‭ ‬وترتقي‭ ‬درجات‭ ‬على‭ ‬سلم‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تحسم،‭ ‬تاريخيا،‭ ‬معركتَها‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يناقض‭ ‬العقل‭. ‬فقد‭ ‬قام‭ ‬التنوير‭ ‬الأوربي‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬فصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬وعن‭ ‬السياسة،‭ ‬مستفيدا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ثمار‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬أعاد‭ ‬الكنيسةَ‭ ‬إلى‭ ‬مكانها‭ ‬الطبيعي،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬فيه؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬مثل‭ ‬الانطلاقة‭ ‬الحقيقية‭ ‬والقوية‭ ‬لقدرة‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العوائق‭ ‬الكابحة‭ ‬للتقدم،‭ ‬وجعل‭ ‬العقل‭ ‬الغربي‭ ‬قوة‭ ‬جبارة‭ ‬وهائلة‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬صنع‭ ‬متطلبات‭ ‬التقدم‭ ‬الحضاري‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬المستويات‭.‬

وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬نجد‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬مفكرو‭ “‬النهضة‭” ‬العربية‭ ‬يتساءلون‭: ‬لماذا‭ ‬تقدم‭ ‬الغرب‭ ‬وتخلف‭ ‬المسلمون؟،‭ ‬فإنهم‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬كانوا‭ ‬يشخصون‭ ‬واقع‭ ‬التخلف‭ ‬دون‭ ‬تفكيك‭ ‬أسس‭ ‬البنيات‭ ‬الثقافية‭ ‬التاريخية‭ ‬المنتجة‭ ‬لذلك‭ ‬الواقع،‭ ‬ومن‭ ‬تم‭ ‬كانت‭ ‬المداخل‭ ‬والحلول‭ ‬التي‭ ‬اقترحوها‭ ‬للنهوض‭ ‬متباينة،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬دينية‭ ‬تقتضي‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬السلف‭ ‬الصالح‭ ‬والاقتداء‭ ‬به‭ (‬محمد‭ ‬عبده‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬اعتبر‭ ‬الاستبداد‭ ‬السياسي‭ ‬سببا‭ ‬أساسا‭ ‬للتخلف‭ (‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الكواكبي‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬مفكري‭ ‬عصر‭” ‬النهضة‭” ‬من‭ ‬ربط‭ ‬رقي‭ ‬المجتمع‭ ‬بتحرير‭ ‬المرأة‭ ‬وضمان‭ ‬شروط‭ ‬ارتقائها‭ ‬الاجتماعي‭ (‬قاسم‭ ‬أمين‭)‬،‭ ‬بينما‭ ‬اتجه‭ ‬مفكرون‭ ‬آخرون‭ ‬اتجاها‭ ‬قوميا،‭ ‬فاعتبروا‭ ‬أن‭ ‬خلاص‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬ونهوضها‭ ‬يتطلبان‭ ‬بالضرورة‭ ‬وحدتها‭ (‬شكيب‭ ‬أرسلان‭). ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الجامع‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الدعوات‭ ‬جميعها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬طموحها‭ ‬وحماسها‭ ‬وصدقها‭ ‬ومشروعيتها‭ ‬في‭ ‬وقتها،‭ ‬هو‭ ‬كونها‭ ‬كانت‭ ‬تتم‭ ‬تحت‭ ‬سقف‭ ‬التفكير‭ ‬الديني‭ ‬المُسَلَّم‭ ‬بمنطلقاته‭ ‬التوجيهية‭ ‬الكبرى‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬نوايا‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬بوادرها‭ ‬عند‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬ورشيد‭ ‬رضا‭ ‬وجمال‭ ‬الدين‭ ‬الأفغاني‭ ‬وغيرهم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬بنية‭ ‬سلفية‭ ‬منفتحة‭ ‬نسبيا،‭ ‬فإن‭ ‬سلطة‭ ‬الموروث‭ ‬وسيادة‭ ‬الثقافة‭ ‬المعيارية‭ ‬التي‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬الجاهز،‭ ‬حدت‭ ‬من‭ ‬فعالية‭ ‬تلك‭ ‬النوايا‭ ‬وما‭ ‬صاحبها‭ ‬من‭ ‬جهود‭ ‬فكرية،‭ ‬إذ‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انزلقت‭ ‬هذا‭ ‬السلفية‭ ‬المعتدلة‭ ‬والمنفتحة،‭ ‬كما‭ ‬مثلها‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬ورضا‭ ‬رشيد،‭ ‬لتتحول‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬وتشابك‭ ‬معطيات‭ ‬الواقع،‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬سياسية‭ ‬عنيفة‭ ‬تجسدت‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬نكوصا‭ ‬فكريا‭ ‬حادا‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬الفكر‭ ‬النهضوي‭ ‬العربي،‭ ‬إذ‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬حصر‭ “‬الحقائق‭” ‬عند‭ ‬عتبة‭ ‬ما‭ ‬أنتجه‭ “‬السلف‭ ‬الصالح‭”‬،‭ ‬مع‭ ‬تكفير‭ ‬كل‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تسايرها‭ ‬توجهاتها‭ ‬المتزمتة‭ ‬وأفق‭ ‬فكرها‭ ‬الضيق،‭ ‬مستغلة‭ ‬في‭ ‬تسييد‭ ‬مشروعها‭ ‬خصوصيات‭  ‬التربة‭ ‬الثقافية‭ ‬المحافظة‭ ‬والملائمة‭ ‬لخطابها‭. ‬

إن‭ ‬السياق‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬لم‭ ‬يسمح‭ ‬لرواد‭ “‬النهضة‭” ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬والجرأة‭ ‬على‭ ‬الكشف‭ ‬الحقيقية‭ ‬عن‭ ‬العطب‭ ‬الأساس‭ ‬المعرقل‭ ‬لسيرورة‭ ‬التقدم،‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬أصلا‭ ‬يفكرون‭ ‬ويحاولون‭ ‬الاجتهاد‭ ‬تحت‭ ‬ضغوط‭ ‬رقابة‭ ‬فكرية‭ ‬صارمة‭ ‬لا‭ ‬تتيح‭ ‬المساحة‭ ‬الضرورية‭ ‬والمطلوبة‭ ‬لاشتغال‭ ‬العقل‭ ‬والتفكير‭ ‬الحر‭ ‬والمنفتح‭ ‬على‭ ‬حقائق‭ ‬الواقع‭ ‬المادية،‭ ‬وبذلك‭ ‬افتُقِد‭ ‬الشرطُ‭ ‬الموضوعي‭ ‬للنهوض،‭ ‬وبقيت‭ ‬الأدوات‭ ‬التي‭ ‬اختارتا‭ ‬رواد‭ “‬النهضة‭” ‬العربية‭ ‬لهدم‭ ‬الواقع‭ ‬المرفوض‭ ‬وتشييد‭ ‬الواقع‭ ‬البديل،‭ ‬حبيسة‭ ‬دائرة‭ ‬الإيديولوجيا‭ ‬السائدة‭ ‬التي‭ ‬شكل‭ ‬تأويلُ‭ ‬الفقهاء‭ ‬للدين‭ ‬أحدَ‭ ‬مرجعياتها‭ ‬الكبرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعايش‭ ‬الهجين‭ ‬بين‭ ‬أنماط‭ ‬غير‭ ‬منسجمة‭ ‬من‭ ‬التفكير،‭ ‬فتداخلت‭ ‬المرجعيات‭ ‬والتصورات‭ ‬مشكلة‭ “‬وحدة‭ ‬ممزقة‭” ‬للذوات‭ ‬الفردية‭ ‬منها‭ ‬والجماعية‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ومن‭ ‬تم‭ ‬اختلت‭ ‬موازين‭ ‬المعادلة‭ ‬فظهر‭ ‬التنافر‭ ‬واضحا‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬ومتطلباته‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وطبيعة‭ ‬الحلول‭ ‬المقترحة‭ ‬للنهوض‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬فسقط‭ “‬العقل‭” ‬العربي‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬التقليد‭ ‬والاجترار،‭ ‬والأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ” ‬اجتهد‭” ‬في‭ ‬تبرير‭ ‬ذلك‭ ‬الاجترار‭ ‬تحت‭ ‬وهم‭ ‬الوفاء‭ ‬للسلف‭ ‬الصالح‭. ‬وقد‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬كون‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬عرف‭ ‬تراكما‭ ‬مذهلا‭ ‬لسلطة‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاستبدادية،‭ ‬وهي‭ ‬أنظمة‭ ‬حكم‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الطائفية‭ ‬والعشائرية‭ ‬والقبلية‭ ‬المقنعة‭ ‬بالمقدس‭ ‬الديني‭ ‬حينا،‭ ‬وبالشعارات‭ ‬الرنانة‭ ‬للانقلابات‭ ‬العسكرية‭ ‬حينا‭ ‬آخر‭..‬

لقد‭ ‬مارست‭ ‬سلطة‭ ‬النقل‭ ‬ديكتاتوريتها‭ ‬المطلقة‭ ‬مانعة‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الخيال‭ ‬الجمعي‭ ‬من‭ ‬الانطلاق‭ ‬نحو‭ ‬إمكانات‭ ‬مغايرة‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬سائد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬انغلاق‭ ‬هوياتي‭ ‬قاتل‭ ‬ومدمر،‭ ‬نتيجة‭ ‬عطب‭ ‬مركب‭ ‬ومزدوج‭ ‬الأثر،‭ ‬إذ‭ ‬مس‭ ‬الفكر‭ ‬والوجدان‭ ‬معا،‭ ‬عطب‭ ‬همش‭ ‬العقل‭ ‬ولم‭ ‬يسمح‭ ‬للعرب‭ ‬باقتحام‭ ‬عصور‭ ‬الحداثة‭ ‬بإمكانياتهم‭ ‬الذاتية،‭ ‬ففقدوا‭ ‬شخصيتهم‭ ‬المستقلة،‭ ‬وأصبحوا‭ ‬مجرد‭ ‬صدى‭ ‬استهلاكي‭ ‬للحضارات‭ ‬الأخرى‭. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬العقل‭ ‬الحلقة‭ ‬المفقودة‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬النهضة‭ ‬والبناء‭ ‬الحضاري‭ ‬للمجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬إذ‭ ‬أُخضِعَ‭ ‬لوصاية‭ ‬قاتلة‭ ‬شلت‭ ‬قدراته‭ ‬وإمكاناته‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬والخلق،‭ ‬وبذلك‭ ‬أعلن‭ ‬استقالته‭ ‬الاضطرارية‭. ‬وأمام‭ ‬هذا‭ ‬الانسداد‭ ‬التاريخي‭ ‬بقي‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬سجين‭ “‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭” ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬المعمار‭ ‬العقائدي‭ ‬والديني‭ ‬لكل‭ ‬أشكال‭ ‬التفكير‭ ‬والاجتهاد،‭ ‬وبقيت‭ ‬مسافة‭ ‬العلاقة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬المرجعية‭ ‬الدينية‭ ‬والدينامية‭ ‬المفترضة‭ ‬للعقل‭ ‬متوترة‭. ‬وبذلك‭ ‬عجز‭ ‬هذا‭ ‬العقل‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬وقراءة‭ ‬التحولات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬للإنسانية،‭ ‬فوقف‭ ‬متفرجا‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬رافضا‭ ‬لها‭ ‬رفض‭ ‬العاجز‭ ‬عن‭ ‬استيعابها‭ ‬واللحاق‭ ‬بها،‭ ‬مما‭ ‬خلق‭ ‬صنمية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬تولد‭ ‬عنها‭ ‬وجدان‭ ‬جماعي‭ ‬هش‭ ‬وشديد‭ ‬الحساسية‭ ‬تجاه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جديد‭ ‬ومختلف‭.‬

هذا‭ ‬بالطبع‭ ‬لا‭ ‬يلغي‭ ‬وجود‭ ‬دعوات‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬استحضار‭ ‬العقل‭ ‬مدخلا‭ ‬للنهوض‭ ‬والتقدم‭ (‬كما‭ ‬نجد‭ ‬مثلا‭ ‬عند‭ ‬فرح‭ ‬أنطون،‭ ‬ولاحقا‭ ‬عند‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وسلامة‭ ‬موسى‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة،‭ ‬وغيرهم‭) ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الدعوات‭ ‬حوربت‭ ‬بقوة‭ ‬لكونها‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬السقف‭ ‬المسموح‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والاجتهاد،‭ ‬فسادت‭ ‬الغيبيات‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬حرية‭ ‬العقل‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬النقد‭ ‬والإنتاج‭.  ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يفسر،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أوجهه،‭ ‬حدة‭ ‬النكسات‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬مشاريع‭ ‬التحديث‭ ‬والتنوير‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬خصوصا‭ ‬مع‭ ‬تراكم‭ ‬الانتكاسات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والتي‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬فقدان‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬خطاب‭ ‬يرمي‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬الأوضاع‭. ‬

إن‭ ‬أوضح‭ ‬تجسيد‭ ‬لمحنة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬هو‭ ‬التهييج‭ ‬الإعلامي‭ ‬الضخم‭ ‬والمدعم‭ ‬بإمكانات‭ ‬البترودولار‭ ‬والهادف‭ ‬إلى‭ ‬محاصرة‭ ‬أطروحة‭ ‬التنوير‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬بما‭ ‬تدعو‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬العلمانية‭ ‬وفصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬والاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬والإيمان‭ ‬بالاختلاف،‭ ‬وهو‭ ‬الحصار‭ ‬الذي‭ ‬وظفت‭ ‬في‭ ‬ترجمته‭ ‬كل‭ ‬أساليب‭ ‬القمع‭ ‬والتضليل‭ ‬المادي‭ ‬والرمزي‭. ‬وهذا‭ ‬الحصار‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬التوقيت‭ ‬وفي‭ ‬السياقات‭ ‬والمسميات‭ ‬وأحيانا‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬ممارسته،‭ ‬أما‭ ‬الأهداف‭ ‬فكانت‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تبرر‭ ‬استمرار‭ ‬واقع‭ ‬قمع‭ ‬التفكير‭ ‬العقلاني‭ ‬والحر،‭ ‬فما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬قديما‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬والتوحيدي‭ ‬والحلاج‭ ‬وغيرهم،‭ ‬هو‭ ‬نفس‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحديث‭ ‬أمثال‭ ‬مهدي‭ ‬عامل‭ ‬وفرج‭ ‬فودة‭ ‬ومحمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬وحسين‭ ‬مروة،‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثيرون‭.. ‬إنها‭ ‬محنة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بكل‭ ‬تجلياتها‭ ‬التراجيدية،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬أي‭ ‬مقاربة‭ ‬منهجية‭ ‬لقراءة‭ ‬تاريخ‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬تستدعي‭ ‬بالضرورة‭ ‬إعادة‭ ‬تفكيك‭ ‬مجمل‭ ‬الوقائع‭ ‬والأحداث‭ ‬والخلفيات‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ “‬العقل‭” ‬مغضوبا‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬وموضوع‭ ‬تحريم‭ ‬وتكفير‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬محطات‭ ‬الصراع‭ ‬الفكري‭ ‬بين‭ ‬أتباع‭ ‬المحافظة‭ ‬والتقليد‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وأنصار‭ ‬الحرية‭ ‬والاجتهاد‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬واجه‭ ‬ويواجه‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬يستدعي‭ ‬التأكيد،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى،‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬بناء‭ ‬ونشر‭ ‬الوعي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬جدلية‭ ‬الحرية‭ ‬والتنوير‭ ‬باعتبارهما‭ ‬مدخلين‭ ‬أساسين‭ ‬وحتميين‭ ‬لتحقيق‭ ‬أي‭ ‬نهوض‭ ‬تاريخي‭ ‬وثقافي‭ ‬فعلي‭ ‬للمجتمعات‭ ‬العربية‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى